الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أهل الاجتهاد من الصحابـة

              ونظرا لأهمية الاجتهاد وخطورته، وما يترتب عليه من آثار، لم يكن يمارسه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأكفاء القادرون.

              وحين يمارسه غيرهم فيخطئ، كان عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك ولا يقر أحدا عليه.

              * ( وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه : هـل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام : قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك من راوي الحديث - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده... ) [1] [ ص: 45 ] فالرسول عليه الصلاة والسلام - لم يعذر المفتين هـنا - من أصحابه، بل عنفهم وعاب عليهم أنهم أفتوا بغير علم، واعتبرهم بمثابة القتلة لأخيهم، وأوضح أن الواجب على من كان مثلهم في (العي) - أي الجهل والتحير - السؤال لا المسارعة إلى الفتوى ولو بغير علم، والذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ضرورة السؤال هـو ما ورد في القرآن العظيم نفسه في قوله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [النحل: 43].

              * وأخرج الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي والطبراني ( عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أقال: لا إله إلا اله وقتلته؟! ) قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفا من السلاح. قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ ) فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. ) [2] .

              ففي الحديث الأول أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة أخذهم بعموم الأدلة الدالة على وجوب استعمال الماء لواجده بغض النظر عن حالته، فهم لم ينتبهوا إلى قوله تعالى: [ ص: 46 ]

              ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) [المائدة: 6] ولم يسألوا وهم ليسوا من أهل النظر.

              وأما حديث أسامة فيفهم منه كأنه رضي الله عنه تأول قول الله تعالى: ( ...فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ... ) [غافر: 85]، واعتبر الآية نافية للنفع في الدنيا والآخرة وأنها عامة في الحالين وليست خاصة بالآخرة، كما هـو ظاهر من الآية الكريمة، ولعل ذلك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعنفه.

              تلك بعض فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم التي لم يقرهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم [3] .

              لقد كان الناس يستفتونه، عليه الصلاة والسلام ، في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها [4] ، ويرى الفعل الحسن فيستحسنه ويثني على فاعله، ويرى الفعل المغاير فينكره، ويستعلم منه أصحابه رضوان الله عليهم ذلك، ويرويه بعضهم لبعضهم الآخر فيشيع بين الآخرين، وقد يختلفون فيتحاورون فيما اختلفوا فيه بدافع الحرص، دون أن يجاوزوا ذلك إلى التنازع والشقاق،وتراشق الاتهامات وتبادل الطعون؛ لأنهم بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، والى رسوله صلى الله عليه وسلم يحسمون أي خلاف دون أن تبقى أية رواسب يمكن أن تلقي ظلالا على أخوتهم. [ ص: 47 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية