الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الأبعاد النفسية لمهارات الاتصال

إن الإنسان في واقعه اليومي مرهون لحياتين، الأولى خارجية (اجتماعية) بصفته مدنيا بالطبع – كما قال ابن خلدون - والثانية داخلية (نفسية) ، ولا ينجح المشوار الحياتي للشخص إلا بالتوفيق والتلاؤم والانسجام بين علاقاته الخارجية مع الآخرين وعلاقاته الداخلية مع نفسه، والناجحون في الحياتين معا هـم أناس محظوظون دون ريب.

ومن المتعارف عليه أن من يمتلك صحة نفسية يمتلك بالضرورة قدرة على التفاهم الجيد مع واقعه الخارجي، وأما من تلتبس عليه نفسه وتضيق عليه وسائل التصالح مع ذاته وفق الخصائص الوجدانية والعقلية التي وهبها الله له، فإنه معرض للتعثر في حياته.

ومما لا ريب فيه أن العافية النفسية تولد طاقة عقلية خلاقة، وطاقة بدنية جبارة عند الإنسان، فتزيد من فاعليته الذاتية والاجتماعية، وتهيئ له سبيل التفاعل الحياتي النشط مع الحياة، وتكسبه سمات الشخصية الإيجابية الناجحة التي تحدث عنها الدكتور عثمان العامر وأورد فيها مجموعة قيمة من الإشارات إلى فن الاتصال مع (الآخر) من مثل: أعط الفرصة للآخرين ليفهموك؛ احترم [ ص: 46 ] الآخرين وقدر جهودهم؛ اتبع أصـول الحـوار والمناقشـة الصحيحـة؛ تعرف إلى الناس واهتم بـهم؛ إياك والتعصـب للرأي بلا دليل



[1] ؛ وغير ذلك من السمات التي تقود الإنسان إلى الإنجاز والتميز والنجاح.

فالعافية النفسية أساس مكين لتكوين علاقات ناجحة مع (الآخر) ، فإذا صفت النفس ورحبت أخلاقها وطباعها زكت، واتسعت مداركها وتعددت أساليبها في مواجهة الحياة، وتنوعت طرائقها في مواجهة الواقع برضا واطمئنان وثقة، لا، بل ربما زادت رغبتها في الإقبال على مناشط الحياة الدنيا بمرونة وسعة صدر وحلم وأناة، وعلى مناشط الحياة الآخرة بطمأنينة وبإيمان يصل حد الإحسان. ولكن من منا يصل إلى الصحة النفسية الكاملة التي تقوده للنجاح المنشود في مسيرة الحياة كما يريد؟

ليس أمامنا إذا إلا الاجتهاد ومراجعة الذات بمصداقية عالية، ومكاشفة أحوال النفس دونما مواربة أو تورية أو مخادعة، فالشخص الخادع نفسه هـو بالضرورة قادر على مخاتلة الآخرين. [ ص: 47 ]

فما علاقة مهارات الاتصال بالصحة النفسية؟

ترتبط مهارات الاتصال بعوالم النفس البشرية ارتباطا وثيقا، وتعتمد عليها اعتمادا رئيسـا -كما أسـلفت- غير أن كثـيرين لا يدركون أن لإتقان تلك المهارات أهمية بالغة في إصلاح النفس وتهذيبها وإعادة ترتيب مداركها وتنسيق طباعها. ففي كل مجتمع نجد من يشعر بالغربة والقلق في بيئته الخاصة والعامة، شعورا يبلغ مستوى الانفصال الجزئي أو الكلي عن واقعه كما لو أنه عاجز عن إقامة علاقة صحية مع بيئته، فيعيش مترددا بلا أمن نفسي ولا اجتماعي، ويحس بأنه طارئ على الزمان والمكان، وتزداد لديه مشاعر الاكتئاب والضجر والخـلوة، وربما أفضـت به حزمـة المشاعر المضطربة إلى مالا يحمد عقباه.

وفي رأيي أن الاندغام بالجماعة والاتصال بهم والحوار معهم يخفف أو يزيل غيوم الملل والحيرة والإحساس بالنفي، ويوفر السلام النفسي المأمول للتصالح مع الواقع، ولنأخذ مثالا على ذلك مهارة من مهارات الاتصال كالحوار، فالأب الذي يعود سائر أفراد أسرته الحوار والمكاشفة والصراحة يوفر لهؤلاء الأفراد حياة أسرية مطمئنة، ويحل مشاكل كان من الممكن أن تتفاقم ويصعب حلها. [ ص: 48 ]

وكذلك في كل ميدان من ميادين الحياة، فإذا ساد الحوار القائم على احترام رأي (الآخر) سادت المودة حتى مع اختلاف الرأي، ذلك أن الحوار يعطي للنفس فرصة بث هـمومها والكشف عن إشكالياتها ومكامنها المعتمة، ويفيد من ذلك الكشف كل من المتحاورين معا.

فالحوار وسـيلة ناجحـة لتخفـيف مظاهر الكآبة وما يعتور الذات من أمراض نفسية كالعزلة التي تؤرق صاحبها ومن حوله كذلك. فإذا حاور المنعزل نفس عن كربته، وانجلى الضباب من وجدانه، وتداعت إليه أسباب الثقة بالنفس بدلا من الشرود والانغـلاق النفسي. فـكم من طفل نابغ عـاش مكبوتا مقهورا لا يدري أحد بنبوغه، وعندما أعطيت له الفرصة للتحدث أو الحوار، أو عندما بث شـكواه على الورق بالكـتابة البوحـية، أو حينما استمع جيدا إلى محاضرة أو ندوة، رأيناه يعود إلى نفسه واثقـا مطمئنا متحفزا لصعود سلم المجد كغيره من الناجحين، وسبب هـذا النجاح وضوح الرؤية والرؤيا في ما بين ذلك الطفـل وواقعه الخارجي عن طريق تعدد وسائل الاتصال، التي أخرجته من قوقعته إلى العالم الفسيح. [ ص: 49 ]

والمعلم اليقظ المؤتمن على الصحة النفسية عند طلبته يوفر لهم جوا رحبا من الاتصال والمشاركة، وبذلك يكشف عن مواهبهم ويعدهم للحياة إذا كان مدركا أن التربية هـي الحياة نفسها نواجهها بأفضل طرائق التعبير عن الذات.

فالاتصال «يعد وسيلة دفاع ضد القلق والشعور بالوحدة والهزيمة... وهو محك لمدى قدرة الشخص على التأثير واختبار الذات، وهو يساعد على تفريغ الدوافع العدوانية والجنسية المكبوتة... فالانتماء إلى الجماعة يرفع معنويات الشخص ويشعره بالدعم والحماية. كما يؤدي الاتصال إلى إشباع كثير من الحاجات والدوافع: الحاجة إلى (الآخر) ، والحاجة إلى التأثير، والحاجة إلى الطمأنينة وتوكيد الذات، ويلعب دورا مهما في تكوين الشخصية والتفكير منذ الطفولة»



[2] .

ولننظر إذا كيف تمحو مهارات الاتصال الخجل والخوف والتردد والضجر والكآبة، وكيف تقود الإنسان إلى حسن التفاهم مع نفسه، ومع المجتمع، وتعزز فيه الاتجاهات الإيجابية المختلفة. ومن الحري توكيده أن الوسيلة المشتركة بين مهارات الاتصال الأربع هـي اللغة [ ص: 50 ] العربية في مستواها الفصيح الميسر، وبقدر ما يمتلك الشخص من معرفة ودراية بأدوات اللغة العربية وفنونها وأساليبها البيانية يستطيع أن يتقدم بمهارات اتصاله تقدما ناجحا، وخير مثال على ذلك أن أغلب المسـئولين والقـياديين والناجحين والمشاهير يتقنون واحدة أو أكثر من مهارات الاتصال. فكم من كاتب رفعه قلمه إلى مصاف الأدباء اللامعين، وكم من قارئ مطلع سمت به سعة إطلاعه وحسن إلقائه وفنون خطابه إلى أعلى المراقي، وكم من محاور أجاد أدب الاستماع فحاور صاحبه وغلبه، وكم من متكلم رقت به أساليب بيانه وحذقه باللغة العربية إلى مستويات عليا من ذيوع الصيت والنجاح.

التالي السابق


الخدمات العلمية