الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
نماذج من التربية الاتصالية العربية

حفلت الآداب التربوية العربية القديمة بنصوص تحض على حسن الاستماع وإتقانه، وأوصت الابن أن يحرص على الاستماع أكثر من حرصه على التكلم، لكأن الأب يقصد إلى أن يكون ابنه (مسـتمعا مبدعا) على غرار القارئ المبدع. فالمسـتمع المبدع هـو الذي ينصت إلى ما يلقى على سمعـه إنصـاتا واعيا، فيفهم ويدرك ويستوعب ويحلل وينقد، وقد يكون له وجهة نظر مؤيدة أو معارضة أو موفقة.

ولنا في ما كتبه عبدالله بن المقفع أنموذج يحتذى، حين دعا إلى إتقان مهارة الاستماع في نصه الآتي:

«تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام. ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول. واعلم في ما تكلم به صاحبك أن مما يهجن صواب ما يأتي به، ويذهب بطعمه وبهجته، ويزري به في قبوله، عجلتك بذلك، وقطعك حديث الرجل قبل أن يفضي إليك بذات نفسه»



[1] . [ ص: 84 ]

ولابن المقفع في كتابه الأدب الكبير والأدب الصغـير آراء مهمة لها علاقة قوية بمهارات الاتصال، فالكتاب أعد في الأصل ليكون هـاديا ومرشدا لمن يجالس السلطان فيتفقه بآداب الحديث والاستماع والمناظرة والمجادلة والمجالسة، فقال: «من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون من ضحكه ليس على حسب ما عنده من القول، أو الرجل يكلم صاحبه فيجاذبه الكلام ليكون هـو المتكلم، أو يتمنى أن يكون صاحبه قد فرغ وأنصت له، فإذا أنصت له لم يحسن الكلام»



[2] .

وفي تحذير المرء من انتحاله رأي غيره قال ابن المقفع :

«إن سمعت من صـاحبك كـلاما أو رأيت منه رأيا يعجبك فلا تنتحله تزينا به عند الناس. واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته وتنسبه إلى صاحبه. واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عارا وسخفا.

فإن بلغ بك ذاك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمـع جمعت مع الظـلم قلة الحياء. وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس. ومن تمام حسن الخلق والأدب في هـذا الباب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتزينه مع ذلك ما استطعت.

لا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثا ثم تقطعه وتقول: «سوف» كأنك روأت



[3] فيه بعد ابتدائك إياه. وليكن ترويك فيه قبل التفوه به. فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سخف وغم»



[4] . [ ص: 85 ] وفي الحض على اختيار المواضع الملائمة لطرح الرأي قال:

«اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع. فإنه ليس في كل حين يحسن كل صواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع. فإن أخطـأك ذلك أدخلت المحنة على عقلك وقولك حتى تأتي به إن أتيت به في غير موضعه وهو لا بهاء ولا طلاوة له. وليعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول»



[5] .

ولما كانت كتب التراث العربي غنية بإشارات ولمع تفضي إلى أهمية مهارات الاتصال الأربع، فإنني ارتأيت أن اتخذ كتاب «عيون [ ص: 86 ] الأخبار» لابن قتيبة



[6] نموذجا أستخرج منه ما ورد فيه من مواقف ومشاهد تدعو إلى تعلمها وتحث عليها. وقد اخترت هـذا الكتاب دون غيره؛ لاحتوائه على مادة منوعة لها علاقة متينة بمهارات الاتصال. وهو كتاب عني بجمع الأخبار والمعلومات والمعارف ممن هـم موثوق بأقوالهم وعلمهم على الأغلب، وكان ابن قتيبة حريصا على إيراد ما يخص إحدى المهارات بصورة نافعة وجلية.

جاءت مهارات الاتصال في هـذا الكتاب موزعة متناثرة، إلا أنها كانت أوسع حضورا في باب «كتاب العلم والبيان»، وأقل حضورا في باب «كاتب السلطان». وقد أورد ابن قتيبة هـدفه من جمع مادة الكتاب وتبويبها وإيراد أفضل المختارات في ما قالته العرب في كل باب، [ ص: 87 ] فقال في مقدمته:

«وإني كنت تكلفت لمغفل التأدب من الكتاب كتابا في المعرفة وفي تقويم اللسان ... وشرطت عليه مع تعلم ذلك تحفظ عيون الحديث ليدخلها في تضـاعيف سطوره متمثلا إذا كاتب، ويستعين بما فيها من معنى لطيف ولفظ خفيف حسن إذا حاور... وهذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدب تبصرة ولأهل العلم تذكرة... وهي كفاح عقول العلماء، ونتاج أفكار الحكماء، وزبدة المخض، وحلية الأدب، وأثمار طول النظر، والمتخير من كلام البلغاء، وفطن الشعراء، وسير الملوك وآثار السلف. جمعت لك ما جمعت في هـذا الكتاب تأخذ نفسك بأحسنها، وتقومها بثقافها، وتخلصها من مساوئ الأخلاق كما تخلص الفضة البيضاء من خبثها، وتروضها على الأخذ بما فيها من سنة حسنة وسيرة قويمة وأدب كريم وخلق عظيم، وتصل بها كلامك إذا حاورت وبلاغتك إذا كتبت... فإن الكلام مصايد القلوب والسحر الحلال».



[7]

ومن أهم ما ورد في فصل الكتاب والكتابة، في باب كاتب السلطان، في المجلد الأول:

- «قال رجل لبنيه: يا بني تزيوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة».

- ويقال: «عقول الرجال في أطراف أقلامها».

- قرأت في التاج أن أبرويز قـال لكـاتبه: «... إذا فكرت [ ص: 88 ] فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تلبسن كلاما بكلام، ولا تباعدن معنى عن معنى. أكرم كتابك عن ثلاث: خضوع يستخفه، وانتشار يثبجه، ومعان تقعد به، واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول»



[8] .

ومما ورد في فصل العلم في كتاب العلم والبيان:

«كان يقال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العقل، والخامس نشره. ويقال: « إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول»



[9] .

ومما أورده ابن قتيبة في فصل البيان، في كتاب العلم والبيان، كذلك:

- حدثني عبدة بن عبدالله ، قال حدثني يحيى بن آدم عن قيس عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من البيان سحرا، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطب )



[10] . وقال العباس : يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: في اللسان. وكان يقال: عقل الرجل مدفون تحت لسانه



[11] . [ ص: 89 ]

- وصف أعرابي رجلا يتكلم فيحسن فقال: «يضع الهناء



[12] مواضع النقب».

- وقال معاوية في عبدالله بن عباس

إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف*** لعي ولم يثن اللسان على هـجر

يصرف بالقول اللسان إذا انتحى*** وينظر في أعطافه نظر الصقر

- قيل لعمرو بن عبيد : ما البلاغة؟ فقال: «ما بلغك الجنة، وعدل بك عن النار، قال السائل: ليس هـذا أريد، قال: فما بصرك مواقع رشدك، وعواقب غيك، قال السائل: ليس هـذا أريد، قال: من لم يحسن الاستماع لم يحسـن القول، قال: ليس هـذا أريد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا معشر الأنبياء بكاء »



[13] ، وكانوا يكرهون أن يزيد [ ص: 90 ] منطـق الرجل على عقله، قال: ليس هـذا أريد، قال: كانوا يخافـون من فتنة القول ومن سقطات الكلام مالا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت، قال: ليس هـذا أريد، قال: فإنك إنما تريد تخير اللفـظ في حسن إفهام، قال: نعم، قال: إنك إن أردت تقرير حجـة الله في عقـول المكلفين وتخفـيف المئونة على المستمعين، وتزيين تلك المعـاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسـنة، كنت قد أوتيت فصـل الخطـاب واستوجبت على الله جزيل الثواب»



[14] .

- ويقال: أبلغ الكلام ما سابق معناه لفظه



[15] .

- ونحو هـذا قول جعفر بن يحيى البرمكي وقيل له: ما البيان ؟ فقال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويحكي



[16] عن مغزاك، وتخرجه [ ص: 91 ] من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذي لا بد له منه أن يكون سليما من التكلف، بعيدا من الصنعة، بريئا من التعقد، غنيا عن التأويل



[17] .

- وقال أعرابي: «الحظ للمرء في أذنه، والحظ لغيره في لسانه».

- ويقال: رب كلمة تقول دعني.

- ويقال: الصمت أبلغ من عي ببلاغة.

- وقال جعفر البرمكي : إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا



[18] .

- تذاكر قوم فضل الكلام على الصمت وفضل الصمت على الكلام، فقال أبو مسهر : كلا! إن النجم ليس كالقمر، إنك تصف الصمت بالكلام، ولا تصف الكلام بالصمت



[19] .

- " قال أبو الدرداء : أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعل لك أذنان اثنتان وفم واحد لتسمع أكثر مما تقول. "



[20] . [ ص: 92 ]

- " قال عيسى بن مريـم : من كان منطقـه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سـها، ومن كان صمته من غير فكر فقد لها " .



[21]

- وقال بعضهم

يموت الفتى من عثرة بلسانه*** وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته من فيه ترمي برأسه*** وعثرته بالرجل تبرا على مهل

- سئل بعض الحكماء عن البلاغة، فقال : من أخذ معاني كثيرة فأداها بألفاظ قليلة، أو أخذ معاني قليلة فولد فيها ألفاظا كثيرة



[22]

- بلغني عن أبي إسحاق الفزاري قال: كان إبراهيم يطيل السكوت، فإذا تكلم انبسط، فقلت له ذات يوم: لو تكلمت! فقال: فالفضل منه السلامة، ومنه كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقل ما لك في تركه خفـة المئونة على بدنك ولسـانك، ومنه كلام لا ترجو منفعته وتخشى عاقبته، وهذا هـو الداء العضال، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته فهذا الذي يجب عليك نشـره، قال: فإذا هـو قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام.



[23] [ ص: 93 ]

لقد أدرك ابن قتيبة وغـيره من الأدباء الأجلاء كالجاحظ أهمية تحصين المرء بحلية الكتابة وفن التكلم وحسن القراءة وإجادة الاستماع، فتركوا لنا إرثا ضخما من التوصيات التي يتعين على المرء الأخذ بها، من أجل أن يكون شخصا ناجحا في علاقته بالآخرين، نافعا لنفسه ولغيره. إذ إن العربي الذي يجيد العربية، وهي أداة الاتصال الأولى في مجتمعه، ويتمرس بفنون قراءتها وكتابتها، ويحسن الإنصات إلى متحدثه، ويراعي آداب الحوار، فإن شأنه سيعلو وسيحقق مراتب عليا يسعى لها أو تسعى له، وإلا كان مواطنا هـامشيا لا يؤثر ولا يتأثر، وعاش نكرة لا يعول عليه، فهو إلى جانب إهماله احترام نفسه أهمل احترام لغته العظيمة، ولا ريب أنه إن فعل ذلك فإنما سيخسر تقدير مجتمعه، ولا يفعل ذلك إلا الجهلاء والقانعون بالزؤان دون القمح. [ ص: 94 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية