الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 435 ] قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم

                                                                                                                                                                                              علامات المحبة الصادقة: التزام طاعة الله تعالى، والجهاد في سبيله . واستحلاء الملامة في ذلك، واتباع رسوله . قال الله جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم وقال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                              فوصف الله سبحانه المحبين له بخمسة أوصاف:

                                                                                                                                                                                              أحدها: الذلة على المؤمنين، والمراد لين الجانب وخفض الجناح والرأفة والرحمة للمؤمنين، كما قال تعالى لرسوله: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ووصف أصحابه بمثل ذلك في قوله: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم وهذا يرجع إلى أن المحبين لله يحبون أحباءه ويعودون عليهم بالعطف والرأفة والرحمة، وقد سبق في الباب الأول بيان ذلك .

                                                                                                                                                                                              الثاني: العزة على الكافرين، والمراد الشدة والغلظة عليهم، كما قال تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وهذا يرجع إلى أن المحبين له يبغضون أعداءه، وذلك من لوازم المحبة الصادقة، كما سبق [ ص: 436 ] تقريره أيضا .

                                                                                                                                                                                              الثالث: الجهاد في سبيل الله، وهو مجاهدة أعدائه باليد واللسان، وذلك أيضا من تمام معاداة أعداء الله الذي تستلزمه المحبة، وأيضا فالجهاد في سبيل الله فيه دعاء الخلق إلى الله وردهم إلى بابه بالقهر لهم والغلبة، كما قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله قال مجاهد وغيره: يعني كنتم خير الناس للناس، فخير الناس للناس أنفعهم لهم، ولا نفع أعظم من الدعاء إلى التوحيد والطاعة والنهي عن الشرك والمعصية، وسئل الحسن البصري عن رجل له أم فاجرة فقال: "يقيدها فما وصلها بشيء أعظم من أن يكفها عن معاصي الله تعالى" .

                                                                                                                                                                                              قال إبراهيم بن أدهم : سمعت رجلين من الزهاد يقول أحدهما للآخر: "يا أخي، ما ورث أهل المحبة محبتهم؟ " قال: فأجابه الآخر: "ورثوا النظر بنور الله والعطف على أهل معاصي الله " قال: فقلت له: "كيف يعطف على قوم قد خالفوا أمر محبوبهم؟ " فقال: "مقت أعمالهم وعطف عليهم ليزيلهم بالمواعظ عن فعالهم وأشفق على أبدانهم من النار، لا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه " .

                                                                                                                                                                                              الرابع: أنهم لا يخافون لومة لائم، والمراد أنهم يجتهدون فيما يرضى به من الأعمال ولا يبالون بلومة من لامهم في شيء منه إذا كان فيه رضا ربهم . وهذا من علامات المحبة الصادقة، إن المحب يشتغل بما يرضى به حبيبه ومولاه، ويستوي عنده من حمده في ذلك أو لامه، وفي هذا المعنى يقول [ ص: 437 ] بعضهم:


                                                                                                                                                                                              وقف الهوى بي حيث أنت . فليس لي متأخر عنه ولا متقدم     أجد الملامة في هواك لذيذة .
                                                                                                                                                                                              حبا لذكرك فليلمني اللوم



                                                                                                                                                                                              الخامس: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو طاعته واتباعه في أمره ونهيه . قال مبارك بن فضالة عن الحسن: كان ناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: "يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبا شديدا" فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله تبارك وتعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وقد قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره وكذلك ورد في السنة في أحاديث كثيرة جدا، سبق ذكر بعضها والمراد أن الله تعالى لا توصل إليه إلا من طريق رسوله - صلى الله عليه وسلم - باتباعه وطاعته .

                                                                                                                                                                                              كما قال الجنيد وغيره من العارفين: "الطرق إلى الله مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وكلام أئمة العارفين في هذا الباب كثير جدا .

                                                                                                                                                                                              قال إبراهيم بن الجنيد: يقال: علامة المحب على صدق الحب ست خصال:

                                                                                                                                                                                              أحدها: دوام الذكر بقلبه بالسرور بمولاه .

                                                                                                                                                                                              والثانية: إيثاره محبة سيده على محبة نفسه ومحبة الخلائق، يبدأ بمحبة مولاه قبل محبة نفسه ومحبة الخلائق .

                                                                                                                                                                                              [ ص: 438 ] والثالثة: الأنس به والاستثقال لكل قاطع يقطع عنه، أو شاغل يشغله عنه .

                                                                                                                                                                                              والرابعة: الشوق إلى لقائه والنظر إلى وجهه .

                                                                                                                                                                                              الخامسة . الرضا عنه في كل شديدة وضر ينزل به .

                                                                                                                                                                                              والسادسة: اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                              ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على درجتين:

                                                                                                                                                                                              إحداهما فرض: وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية ، ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لا بد منه ولا يتم الإيمان بدونه .

                                                                                                                                                                                              والدرجة الثانية فضل: وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به وتحقيق الاقتداء بسنته في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة، والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه، واهتزاز القلب عند ذكره، وكثرة الصلاة عليه لما سكن في القلب من محبته وتعظيمه وتوقيره، ومحبة استماع كلامه، وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين . ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدنيا والاجتزاء باليسير منها ورغبته في الآخرة . قال سهل التستري : من علامات حب الله حب القرآن، وعلامة حب الله [ ص: 439 ] وحب القرآن حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلامة حب النبي - صلى الله عليه وسلم - حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، ومن علامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زادا يبلغه إلى الآخرة .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ففي هذه الآية إشارة إلى أن من أعرض عن حبنا، وتولى عن قربنا، لم نبال به، واستبدلنا به من هو أولى بهذه المنحة منه وأحق، فمن أعرض عن الله، فما له من الله بدل، ولله منه أبدال .


                                                                                                                                                                                              ما لي شغل سواه ما لي شغل .     ما يصرف عن هواه قلبي عذل
                                                                                                                                                                                              ما أصنع إن جفا وخاب الأمل .     مني بدل ومنه ما لي بدل



                                                                                                                                                                                              وفي بعض الآثار: "يقول الله عز وجل: ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني، وجدت كل شيء، وإن فتك، فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء" .

                                                                                                                                                                                              كان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل كثيرا:


                                                                                                                                                                                              اطلبوا لأنفسكم .     مثل ما وجدت أنا
                                                                                                                                                                                              قد وجدت لي سكنا .     ليس في هواه عنا
                                                                                                                                                                                              إن بعدت قربني .     أو قربت منه دنا



                                                                                                                                                                                              [ ص: 440 ] من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبونا، فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر يسير حقير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة:


                                                                                                                                                                                              من فاته أن يراك يوما .     فكل أوقاته فوات
                                                                                                                                                                                              وحيثما كنت من بلاد .     فلي إلى وجهك التفات



                                                                                                                                                                                              ثم ذكر أوصاف الذين يحبهم ويحبونه، فقال: أذلة على المؤمنين يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين، وخفض الجناح . أعزة على الكافرين يعني: أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم . والإغلاظ لهم، فلما أحبوا الله، أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة، والرأفة، والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه، فعاملوهم بالشدة والغلظة، كما قال تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم

                                                                                                                                                                                              فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب - وأيضا - فالجهاد في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان، فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه، فمن لم يجب الدعوة إليه باللين والرفق، احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل " .

                                                                                                                                                                                              ولا يخافون لومة لائم لا هم للمحب غير ما يرضي حبيبه . رضي من رضي وسخط من سخط، من خاف الملامة في هوى من يحب . فليس بصادق في المحبة . [ ص: 441 ]

                                                                                                                                                                                              وقف الهوى بي حيث أنت .     فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
                                                                                                                                                                                              أجد الملامة في هواك لذيذة .     حبا لذكرك فليلمني اللوم



                                                                                                                                                                                              قوله: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة والله واسع عليم واسع العطاء . عليم بمن يستحق الفضل، فيمنحه، ومن لا يستحق، فيمنعه .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              وعن أبي صخر عن محمد بن كعب القرظي أن عمر بن عبد العزيز أرسل يوما إليه، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة ، إنه أسهرتني البارحة آية . قال محمد: وما هي أيها الأمير؟ فقال: قول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه إلى قوله: لومة لائم قال محمد: إنما عنى الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا الولاة من قريش: من يرتد منكم عن دينه عن الحق فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وهم أهل اليمن . قال عمر : يا ليتني وإياك منهم قال: آمين .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية