الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما زهده في الدنيا ) فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين سأله فقال له : هل لك من دار ؟ فقال : لا ، ولكن أحدثك سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول نسب المرء داره وسأله الرشيد هل لك دار ؟ فقال : لا ، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال : اشتر بها دارا فأخذها ولم ينفقها فلما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك رحمه الله ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن فقال له أما حمل الناس على الموطأ فليس إليه سبيل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند كل أهل مصر علم وقد قال صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة وأما الخروج معك فلا سبيل إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وقال صلى الله عليه وسلم المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إلي فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهكذا كان زهد مالك في الدنيا ولما حملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه كان يفرقها في وجوه الخير ودل سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا وليس الزهد فقد المال وإنما الزهد فراغ القلب عنه ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد .

ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان ويقال مصر ما رأيت أحسن منه فقلت لمالك رحمه الله ما أحسنه فقال هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله فقلت : دع لنفسك منها دابة تركبها .

فقال إني : أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة فانظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة وإلى توقيره لتربة المدينة .

التالي السابق


(وأما زهده في الدنيا) وتقلله منها (فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس ثالث الخلفاء العباسية (سأله وقال: هل لك دار؟) أي: بالملك (فقال: لا، ولكن أحدثك فيه حديثا سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن) هو أبو عثمان ربيعة بن فروخ مولى آل المنكدر فقيه المدينة المعروف بالرأي، روى عن أنس والسائب وربيعة بن عبد الله بن المهدي، وعنه مالك والليث والدراوردي وأبو حمزة توفي بالأنبار سنة 130 (يقول نسب المرء داره) ، وهذا من قوله موقوف، وذلك في سنة حجه وهي السنة التي توفي فيها مالك (هل لك دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، قال: اشتر بها دارا) ووصله أيضا يحيى بخمسمائة دينار (فأخذها ولم ينفقها) أي: لم يصرف منها شيئا (فلما أراد الرشيد الشخوص) أي: الخروج من الحجاز إلى العراق بعد أداء نسكه (قال لمالك ينبغي أن تخرج معنا) إلى العراق (فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ) أي: على العمل بما فيه (كما حمل) أمير المؤمنين (عثمان) بن عفان (الناس على القرآن) وأبطل جميع المصاحف، قال أبو الحسن بن فهر في كتاب فضائل مالك: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن فراس سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أحمد الخلنجي يقول: سمعت بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ، قال ابن فهر: ولم يسبق مالكا أحد إلى هذه التسمية فإن من ألف في زمانه بعضهم سمى بالجامع وبعضهم سمى بالمصنف، وبعضهم بالمؤلف، والموطأ بمعنى الممهد المنقح المحرر المصفى، قال الشافعي: ما بعد كتاب الله أصح من الموطأ، وفي رواية: أصح من كتاب مالك، وقال السيوطي: أطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح واعترضوا على ابن الصلاح في قوله أول من صنف في الصحيح البخاري بأن مالكا تقدمه وقال النووي في التقريب: أول من صنف في الصحيح المجرد فزاد المجرد احترازا عن الموطأ، فإن مالكا لم يجرد فيه الصحيح، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع، والبلاغات، وقال الحافظ مغلطاي: لا فرق بين الموطأ والبخاري في ذلك لوجوده، أيضا في البخاري من التعاليق ونحوها، قال الحافظ ابن حجر كتاب مالك صحيح عنده، وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما لا على الشرط الذي استقر عليه العمل في حد الصحة، قال والفرق بين ما فيه من المنقطع وبين ما في البخاري أن الذي في الموطأ هو كذلك مسموع لمالك غالبا وهو حجة عنده، والذي في البخاري قد حذف إسناده عمدا لأغراض قررت في التعليق: فظهر بهذا أن الذي في البخاري من ذلك لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ (فقال) مالك (أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل لأن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا) وقد تقدم أن بالشام كانت عشرة آلاف عين رأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فعند كل أهل مصر علم) ما ليس عند أهل مصر أخرى (وقد قال -صلى الله عليه وسلم- اختلاف أمتي رحمة) قال العراقي: ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد بهذا [ ص: 205 ] اللفظ وأسنده في المدخل من رواية سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رفعه، فذكر حديثا في آخره: واختلاف أصحابي لكم رحمة. وسليمان وجويبر ضعيفان جدا والضحاك بن مزاحم مختلف فيه، وكان شعبة ينكر أن يكون سمع من ابن عباس. اهـ .

قلت: وأول الحديث الذي في المدخل: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي كالنجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة، قال السخاوي: ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني والديلمي في مسنده بلفظه سواء، قلت: وكذا أبو نصر السجزي في الإبانة وقال: غريب، والخطيب، وابن عساكر في تاريخهما كذا في الجامع الكبير للسيوطي وقال ابن السبكي: في تخريج أحاديث المنهاج هذا شيء لا أصل له، وقال والده: لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع. اهـ .

وأورده الحليمي في كتاب الشهادات من تعليقه والقاضي حسين وإمام الحرمين، وقال ابن الملقن في تخريج أحاديث المنهاج: لم أر من خرجه مرفوعا بعد البحث الشديد عنه وإنما نقله ابن الأثير في مقدمة جامعه من قول مالك، وقال الزركشي في تذكرته رواه الشيخ نصر المقدسي، في كتاب الحجة مرفوعا ورواه البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قوله: وعن يحيى بن سعيد نحوه، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: ما سرني لو أن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. اهـ. كلام الزركشي.

وقال العراقي: وله إسناد آخر مرسل، رواه آدم بن أبي إياس في كتاب العلم والحلم، قال: حدثنا بقية، حدثنا أبو الحجاج مهدي، حدثني شيخ من لحم، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلاف أصحابي لأمتي رحمة وهذا إسناد فيه جهالة والمعروف أن هذا من قول القاسم بن محمد أنه قال اختلاف أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- رحمة، رواه البيهقي في المدخل. اهـ .

قال السخاوي: وقد عزاه الزركشي إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولا صحابيه، وكذا عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس، في كتاب العلم والحلم، قال: هو مرسل ضعيف، وبهذا اللفظ يعني لفظ ابن إياس، ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد وفي المدخل من حديث سفيان عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن حميد قال: اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله، ومن حديث قتادة أن عمر بن عبد العزيز كان يقول، ثم ساق بمثل سياق الزركشي، ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد، قال: أهل العلم أهل توسعة وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا، ولا يعيب هذا على هذا، ثم قال السخاوي: وقرأت بخط شيخنا يعني ابن حجر الحافظ أنه، أي: هذا الحديث، مشهور على الألسنة وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ: اختلاف أمتي رحمة للناس، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان أحدهما أباضي، والآخر ملحد، وهما إسحاق الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم تشاغل الخطابي فرد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده. اهـ .

ثم إن المراد من الأمة في الحديث المجتهدون منهم في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها، قال السبكي: ولا شك أن الاختلاف في الأصول ضلال وسبب كل فساد كما أشار إليه القرآن، وأما ما ذهب إليه جمع من أن المراد الاختلاف في الحرف والصنائع فهو مردود إذ كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوص للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الحرف والصنائع ولا بد من خصوصية، قال: وما ذكره الحليمي كإمام الحرمين في النهاية من أن المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب فلا ينساق الذهن من لفظ الاختلاف إليه ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فيكفي في صحته أن يحصل الاختلاف رحمة ما، في وقت ما، في حال ما، على وجه ما. اهـ .

ونقل السمهودي هذه القصة عن مالك، وقال هو كالصريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام كما نقله ابن الصلاح عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمخطئ [ ص: 206 ] ومصيب فعليك بالاجتهاد قال: وليس كما قال ناس: فيه توسعة على الأمة إنما هو بالنسبة إلى المجتهد، لقوله: فعليك بالاجتهاد، فالمجتهد مكلف بما أداه إليه اجتهاده فلا توسعة عليه في اختلافهم، وإنما التوسعة على المقلد فقوله اختلاف أمتى رحمة للناس أي: لمقلديهم، وسياق قول مالك مخطئ ومصيب، إنما هو الرد على من قال: من كان أهلا للاجتهاد فله تقليد الصحابة دون غيرهم، وفي العقائد لابن قدامة الحنبلي أن اختلاف الأمة رحمة واتفاقهم حجة (وأما الخروج معك) إلى العراق (فلا سبيل إليه) لأنه (قال صلى الله عليه وسلم: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) قال العراقي قد رواه كذلك ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل عن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير إسناد وهو مسند متصل من حديث مالك وغيره من حديث سفيان بن أبي زهير وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وجابر وأبي أيوب وزيد بن ثابت وأبي أسيد، أما حديث سفيان بن أبي زهير -رضي الله عنه- فأخرجه البخاري والنسائي من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان عن أبي زهير قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون لأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. الحديث، رواه مسلم من رواية وكيع وابن جريج والنسائي من رواية عبدة بن سليمان ثلاثتهم عن هشام بن عروة، قلت: لفظ مسلم بفتح الشام فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم ذكر اليمن ثم العراق بهذا اللفظ قال العراقي: وأما حديث أبي هريرة فرواه مسلم في أفراده من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانون يعلمون" الحديث .

قلت: أخرجه مسلم من طريق الدراوردي عن العلاء عن أبيه قال: وأما حديث سعد فرواه مسلم والنسائي من رواية عثمان بن حكيم حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن تقطع عضاهها أو يقتل صيدها، وقال المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" وأما حديث جابر فرواه أحمد في المسند من طريق أبي الزبير عن جابر، والبزار من طريق الحريري عن أبي بصرة عن جابر ورجاله ثقات، وأما حديث أبي أيوب وزيد بن ثابت وأبي أسيد فرواها الطبراني في الكبير بأسانيد جيدة (وقال) -صلى الله عليه وسلم- ( المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد) الخبث محركة ما يلقى من وسخ الفضة والنحاس وغيرهما إذا أذيبت قاله ابن الأثير.

وقال العراقي: وهو متصل من حديث مالك وغيره من حديث أبي هريرة وجابر وزيد بن ثابت، أما حديث أبي هريرة فرواه البخاري ومسلم والنسائي من طريق مالك عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا الحباب سعد بن يسار يقول: سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد. ورواه مسلم من رواية ابن عيينة وعبد الوهاب الثقفي كلاهما عن يحيى بن سعيد.

وأما حديث جابر فرواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طريق مالك عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن أعرابيا بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر حديثا في آخره فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما المدينة الكير تنفي خبثها وتنصع طيبها ورواه البخاري والنسائي من رواية سفيان الثوري عن ابن المنكدر وفي رواية لأحمد من رواية زهير عن زيد بن أسلم عن جابر فذكر حديثا فيه خروج المنافقين والمنافقات من المدينة إلى الدجال ثم قال ذلك يوم تنفي المدينة الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، وذكر بقية الحديث ورجاله رجال الصحيح .

وأما حديث زيد بن ثابت فرواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن زيد بن ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها طيبة يعني المدينة وأنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة. اهـ .

قلت: ولفظ البخاري من حديث جابر جاء أعرابي فبايعه يعني النبي صلى [ ص: 207 ] الله عليه وسلم على الإسلام، ثم جاء من الغد محموما فقال: أقلني بيعتي فأبى ثم جاء فأبى، ثم جاء فقال: أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنما المدينة. الحديث، قاله ابن السبكي في تخريج أحاديث المنهاج وقال ابن الملقن في تخريج أحاديث الكتاب المذكور أخرجه الشيخان في صحيحيهما من طرق: أحدها عند أبي هريرة، مطولا وفيه إلا أن المدينة كالكير تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة أشرارها، كما ينفي الكير خبثه، الثاني عن جابر مطولا أيضا بقصة وفيه إنما المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها.

الثالث: عن زيد بن ثابت ولفظه: إنها طيبة يعني المدينة وساق كسياق العراقي، قال: وفي بعض طرق البخاري تنفي الذنوب، ذكره في المغازي (وهذه دنانيركم) موضوعة (كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها) أي: اتركوها يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة، بما اصطنعته لدي من المواساة بالمال (فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله) -صلى الله عليه وسلم- (فكذا كان زهد مالك) -رحمه الله- في الدنيا وحقارتها في عينه (ولما حملت إليه الأموال) والهدايا الكثيرة (من أطراف الدنيا) خاصة من المغرب الأقصى (لانتشار علمه) وفضله (وأصحابه كان يفرقها في وجوه الخير) ولا يمسكها لنفسه إلا بقدر الحاجة (ودل سخاؤه) وكرم نفسه (على زهده وقلة حبه للدنيا) ونزاهة ساحته فيها (وليس) حقيقة (الزهد) عندهم (فقد المال) وذهابه (وإنما الزهد فراغ القلب عنه) أي: خروج حبه عن القلب (فلقد كان سليمان -عليه السلام- في ملكه) الذي لا ينبغي أن يكون لأحد من بعده (من الزهاد) واشتغاله بأعباء الملك ظاهرا لا يمنع الزهد (ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي أنه قال: رأيت على باب مالك كراعا) الكراع: اسم لجميع الخيل والسلاح (من أفراس خراسان) كورة مشهورة بالعجم يجلب منها جياد الخيل (وبغال مصر) أي: مما أرسلت إليه في الهدايا (ما رأيت أحسن منها فقلت لمالك ما أحسنه فقال هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها فقال: أما أستحي من الله أن أطأ تربة) أي: أرضا (فيها نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بحافر دابة فانظر إلى سخاوته) وكرمه (إذ وهب جميع ذلك) أي: من الدواب للشافعي (دفعة واحدة) بمجرد قوله له ما أحسنه (وإلى توقيره لتربة المدينة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم) وإنما نشأ هذا من مراقبة الله تعالى في أحواله كلها وعدم الالتفات إلى زهرة الدنيا.




الخدمات العلمية