الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : " أوحى الله عز وجل إلى ، إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم " وقال صلى الله عليه وسلم : " العالم أمين الله سبحانه في الأرض " وقال صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس ; الأمراء والفقهاء " وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم "

التالي السابق


الخامس عشر: (وقال صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى نبيه إبراهيم، يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم") ذكره ابن عبد البر تعليقا، ولم أظفر له بإسناد، قاله العراقي.

قلت: العالم والعليم في وصفه تعالى هو الذي لا يخفى عليه شيء، إلا أن في العليم مبالغة، وبه فسر قوله تعالى: وفوق كل ذي علم عليم إذ فسر بعضهم أن المراد بالعليم هنا هو الله تعالى، وإن كان لفظه منكرا؛ إذ الموصوف بالعليم في الحقيقة هو الله تعالى، وهناك في الآية وجه آخر ذكره الراغب والسمين.

السادس عشر: (وقال عليه السلام: "العالم أمين الله في الأرض") أخرجه ابن عبد البر من حديث معاذ بسند ضعيف، قاله العراقي.

قلت: رواه من رواية عيسى بن إبراهيم الهاشمي، حدثنا الحكيم بن عبد الله، حدثنا عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن علم، عن معاذ مرفوعا، وعيسى بن إبراهيم منكر الحديث. قاله البخاري والنسائي، وأورده الجلال في جامعه هكذا، والفارقي في شرح عين العلم أيضا .

ومن شواهده ما أخرجه القضاعي، وابن عساكر، عن أنس: "العلماء أمناء الله على خلقه" وأخرج الحسن بن سفيان والعقيلي عن أنس أيضا: "العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان، ويداخلوا الدنيا".

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن عثمان بن عفان: "العلماء أمناء أمتي" وأخرج العسكري عن علي: "الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، ويتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم" والأمين في اللغة هو الثقة المرضي عند الله والناس .

السابع عشر: (وقال عليه السلام: صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس; الأمراء والفقهاء") أخرجه ابن عبد البر، وأبو نعيم من حديث ابن عباس بسند ضعيف، قاله العراقي.

قلت: روياه من رواية محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، ولفظ أبي نعيم في الحلية: "صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس; العلماء والأمراء".

وأخرجه الديلمي أيضا في الفردوس، عن ابن عباس بهذا اللفظ، ومحمد بن زياد هذا كذبه الإمام أحمد والفلاس، وفي هذا المعنى قال ابن المبارك:


وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

الثامن عشر: (وقال عليه السلام: "إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في ذلك اليوم") أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في العلم، من رواية الحكم بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة بسند ضعيف، قاله العراقي.

قلت: وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل من هذا الوجه، ولكن لفظهم كلهم "فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم" كذا نص الجلال في جامعه .

وقال العراقي: الحكم بن عبد الله الديلي متروك كذاب، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات [ ص: 79 ] وحكي عن الصوري قال: هذا حديث منكر، لا أصل له عن الزهري، ولا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أعلم أحدا حدث به غير الحكم. اهـ .

قال المناوي: وهو معلول من طرقه كلها، بل فيه موضوع، قال: وقوله: علما، أي طائفة من العلم، والتنكير للتفخيم، وقوله: "فلا بورك" إلخ، دعاء أو خبر؛ وذلك لأنه كان دائم الترقي في كل لمحة، فالعلم كالعدالة، ومقصوده تبعيد نفسه من ذلك، وبيان أن عدم الازدياد ما وقع قط، ولا يقع أبدا؛ لما ذكر .

قال بعض العارفين: وأراد بالعلم هنا علم التوحيد لا الأحكام؛ فإن الأحكام زيادة تكاليف على الأمة، وقد بعث -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين .

وقال بعضهم: أراد بذلك أن العارف دائم التطلع إلى مواهب الحق، فلا يقتنع بما هو فيه، وقد يكون دائم الطلب، قارعا باب النفحات، راجيا حصول المزيد، ومواهبه تعالى لا تحصى ولا نهاية لها، وهي متعلقة بكلماته التي ينفد البحر دون نفادها، وتنفد الرمال دون أعدادها. اهـ .

قلت: ويشهد لهذا الحديث ما أخرجه الديلمي في الفردوس عن علي مرفوعا بسند ضعيف: "من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرا فهو ملعون، ومن لم يكن على الزيادة فهو في النقصان".

التاسع عشر: (وقال عليه الصلاة والسلام: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي") أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة، وقال: حسن صحيح، قاله العراقي.

قلت: الذي عزاه الجلال في جامعه للترمذي لفظه: "كفضلي على أدناكم" ومثله للدارمي، لكن عزاه كالترمذي أيضا لأبي الدرداء، وعند الجلال في رواية الترمذي في الأول زيادة "إن الله عز وجل وملائكته، وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير".

ومن شواهده ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة، عن أبي سعيد الخدري: "فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي" وهكذا أخرجه ابن عبد البر أيضا، وفيه زيد العمي، مختلف فيه .

ورواه أبو طاهر السلفي من رواية مسلمة بن رجاء، حدثنا جميل الدمشقي، عن القاسم، عن أبي هريرة، ولفظه: "كفضلي عليكم" والمعروف رواية سلمة، عن رجاء، عن الوليد، عن جميل، عن القاسم، عن أبي أمامة، كما عند الترمذي.

وأخرج الخطيب في تاريخه، عن أنس: "فضل العالم على غيره كفضل النبي على أمته".

وأخرج البزار في مسنده والطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان بإسناد حسن، والحاكم عن سعد بن أبي وقاص: "فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" رواه الترمذي في العلل عن حذيفة، ثم ذكر أنه سأل عنه البخاري فلم يجده محفوظا، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال: لا يصح .

قال المناوي في تفسير الحديث الذي صدره الشيخ ما نصه: أي نسبة شرف العالم إلى نسبة شرف العابد كنسبة شرف الرسول إلى أدنى شرف الصحابة؛ فإن المخاطبين بقوله: "أدناكم" الصحب، وقد شبهوا بالنجوم في حديث آخر، وهذا التشبيه ينبه على أنه لا بد للعالم من العبادة، وللعابد من العلم؛ لأن تشبيهها بالمصطفى وبالعلم يستدعي المشاركة فيما فضلوا به من العلم والعمل، كيف لا والعلم مقدمة للعمل، وصحة العمل متوقفة عليه، ذكره الطيبي.

وقال الذهبي: إنما كان العلم أفضل لأن العالم إذا لم يكن عابدا فعلمه وبال عليه، وأما العابد بغير فقه فمع نقصه هو أفضل بكثير من فقيه بلا تعبد، كفقيه همته في الشغل بالرياسة. اهـ .

ولتفضيل العلم على العبادة بحث سيأتي في كلام المصنف، ونشرحه هناك .

وقال السيوطي عن ابن الزملكاني في كتابه "تحقيق الأولى في أهل الرفيق الأعلى" اعلم أن التفضيل تارة يكون بين الصفتين وتارة يكون بين المتصفين، ثم التفضيل بين المتصفين قد يراد به الأكثر منهما ثوابا، وقد يراد به الأقرب إلى الله تعالى، وفي كلام كثير من العلماء الإشارة إلى أن الفضيلة تكون بكثرة الثواب، وهذا يحتاج إلى تفصيل; لأنه إن أريد بكثرة الثواب ما يعطيه الله للعبد في الآخرة من درجات الجنة ولذاتها ونعيمها الجسماني فللمنع في ذلك مجال، وإن أريد به مقامات القرب ولذة المشاهدة، والمعارف الإلهية التي تحصل عند كشف الغطاء، فهو من القول الآخر .

والأقرب أن يقال: إن الثوابين متلازمان، فمن كان أرفع في أحدهما فهو أرفع في الآخر، وفي ذلك نظر للمتأمل .

ثم قال: والإنصاف أن المفاضلة تارة تكون بكثرة الثواب، وتارة بحسب مقاماتهما، وتارة بحسب الوصفين بالنظر إليهما، وتارة بحسب ثمرتهما، وقد تكون بأمر [ ص: 80 ] عرضي .

وأما المفاضلة بين الذاتين فقد تكون لأمر يرجع إلى الجنسين، وقد تكون لأمر يرجع إلى التفضيل بالأوصاف .

ثم قال: واعلم أن فضيلة العمل على العمل أو الوصف على الوصف أو الشخص على الشخص من الأمور الدقيقة، التي لا يسع الإنسان الكلام فيها من قبل نفسه، ولا ينبغي لأحد أن يحكم بتفضيل شخص على شخص، ولا نوع على نوع إلا بتوقيف ممن له التفضيل، أو بدليل يستدل به من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع الأمة .

ثم قال: والدرجات تتفاوت تارة بحسب تفاوت الأعمال، وتارة بحسب رتب الأعمال، وتارة بحسب خصوصية عمل خاص ووقت خاص، فإذا حاولنا الكلام في تفضيل مرتبة على مرتبة، أو عمل على عمل، فلا بد من ملاحظة ذلك فيما لم يكن فيه نص بتفضيل، فيحتاج إلى الاجتهاد في جهات الترجيح، وأما ما ورد النص بكونه أفضل من شيء آخر من غير معارض، فلا معدل عن المنصوص عليه، ولا حاكم سوى شريعة الله المأخوذة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اهـ، وهو نفيس فاعرفه .

(فانظر كيف نزل العلم مقارنا لدرجة النبوة، وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم، وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها، ولولاه لم تكن عبادة) .




الخدمات العلمية