الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واعلم أن مثل العالم مثل القاضي وقد قال صلى الله عليه وسلم : القضاة ثلاثة ، قاض قضى بالحق ، وهو يعلم فذلك في الجنة ، وقاض قضى بالجور ، وهو يعلم أو لا يعلم فهو في النار ، وقاض قضى بغير ما أمر الله به ، فهو في النار وقال كعب رحمه الله يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوفون الناس ولا يخافون ، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم يقربون الأغنياء دون الفقراء يتغايرون على العلم ، كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه ، إذا جالس غيره أولئك الجبارون أعداء الرحمن .

وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان ربما يسوفكم بالعلم " فقيل : يا رسول الله ، وكيف ذلك قال صلى الله عليه وسلم : يقول : اطلب العلم ، ولا تعمل حتى تعلم ، فلا يزال للعلم قائلا ، وللعمل مسوفا ، حتى يموت وما عمل وقال سرى السقطي اعتزل رجل للتعبد كان حريصا على طلب علم الظاهر فسألته فقال رأيت في النوم قائلا يقول لي : إلى كم تضيع العلم ضيعك الله فقلت إني لأحفظه فقال : حفظ العلم العمل به ، فتركت الطلب ، وأقبلت على العمل .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه ليس العلم بكثرة الرواية ، إنما العلم الخشية وقال الحسن تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية ، والعلماء همتهم الرعاية وقال مالك رحمه الله إن طلب العلم لحسن وإن نشره لحسن ، إذا صحت فيه النية ، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرن عليه شيئا .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملا وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم

التالي السابق


( واعلم أن مثل العالم مثل القاضي) ، وهذا مثل قوله فيما سبق قريبا، وفي معنى القضاة: كل فقيه قصده طلب الدنيا فاللام في العالم للعهد، وقد أخذ هذه العبارة من القوت، ونصه: ومثل العالم مثل الحاكم، ( وقد) قسم الحاكم على ثلاثة أقسام ( قال صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة، قاض قضى بالحق، وهو يعلم فذاك في الجنة، وقاض قضى بالجور، وهو يعلم أو لا يعلم فهو في النار، وقاض قضى بغير ما أمر الله به، فهو في النار) .

قال المناوي: قال في المطامح: هذا تقسيم بحسب الوجود لا بحسب الحكم، ومعروف أن مرتبة القضاء شريفة، ومنزلته رفيعة منيفة، لمن اتبع الحق، وحكم على علم بغير هوى، وقليل ما هم، وقيل: معناه من كان الغالب على أقضيته العدل والتسوية بين الخصمين، فله الجنة، ومن غلب على أحكامه الجور، والميل إلى أحدهما فله النار .

والحاصل أنه فيه إنذار عظيم للقضاة التاركين للعدل، والأعمال والمقصرين في تحصيل رتب الكمال، قالوا: والمفتي أقرب إلى السلامة من القاضي; لأنه لا يلزم بفتواه، والقاضي يلزم بقوله، فخطره أشد; فتعين على كل من ابتلي بالقضاء أن يتمسك من أسباب التقوى بما يكون له جنة اهـ .

بخ، قال العراقي: رواه بريدة بن الخصيب وعبد الله بن عمر، أما حديث بريدة فرواه أبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه من رواية ابن بريدة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: القضاة ثلاثة; قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق، فعلم ذاك فذلك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق، فذلك في الجنة، لفظ رواية الترمذي، ورجالها رجال الصحيح، وإسناد النسائي وابن ماجه أيضا صحيح، اهـ .

قلت: ورواه الحاكم كذلك وصححه، قال الذهبي: والعهدة عليه ولفظ الحاكم: "القضاة ثلاثة اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار". قال العراقي: وابن بريدة الذي لم يسم في روايتهم هو عبد الله بن بريدة كما ذكره ابن عساكر، والمزني، كلاهما في الأطراف، ثم قال [ ص: 376 ] وأما حديث ابن عمر، فرواه الطبراني في الكبير من رواية محارب بن دثار، عن ابن عمر رفعه: "القضاة ثلاثة; قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة" وإسناده جيد، رجاله رجال الصحيح .

قلت: وكذا رواه أبو يعلى في معجمه، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وقد أفرد الحافظ ابن حجر فيه جزءا ( وقال كعب) بن مانع الحميري، ولقبه ( الأحبار) على المشهور كنيته أبو إسحاق، ثقة مخضرم: كان من أهل اليمن فسكن الشام، مات في آخر خلافة عثمان، وقد زاد على المائة .

قال الحافظ ابن حجر: وليس له في البخاري رواية، ولا في مسلم إلا حكاية، ويروى كذلك عن علي، وابن عباس ( يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوفون ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم) ، ونص القوت: ولا ينهون ويؤثرون الدنيا على الآخرة ( يأكلون) وفي القوت ويأكلون الدنيا ( بألسنتهم) أكلا ( ويقربون الأغنياء دون الفقراء) ، ونص القوت يقربون الأغنياء ويباعدون الفقراء ( يتغايرون على العلم، كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه، إذا جالس غيره) ذلك حظهم من العلم هكذا أورده صاحب القوت، ثم قال: وفي حديث علي رضي الله عنه علماؤهم شر الخليقة منهم بدت الفتنة، وفيهم تعود، وفي حديث ابن عباس ( أولئك الجبارون أعداء الرحمن) فعلم من سياق القوت: أن هذه الجملة الأخيرة ليست من كلام كعب.

وأخرج أبو نعيم في الحلية، من رواية ابن عبد الحكم أن ابن وهب أخبرهم عن عبد الله بن عياش، عن يزيد بن قورد، قال: قال كعب: يوشك أن تروا جهال الناس يتباهون بالعلم، ويتغايرون عليه، كما تتغاير النساء على الرجال فذلك حظهم من العلم، وأخرج الخطيب في الاقتضاء من رواية سفيان الثوري، عن ثوير بن فاختة، عن يحيى بن جعدة عن علي، قال يا حملة العلم: اعملوا به فإنما العالم من عمل وسيكون قوم يحملون العلم، يباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه، أن يجلس إلى غيره، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء ( وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن الشيطان ربما يسبقكم بالعلم") هكذا في نسخ الكتاب التي بأيدينا، وفي نسخة بخط الكمال الدميري، ربما سبقكم بلفظ الماضي، وهو هكذا نص القوت، وعوارف المعارف، ووجدت في نسخة الغني للحافظ العراقي التي قرئت عليه، وعليها خطه ربما يسبعكم بالعين المهملة، مكان القاف، وعليه التصحيح، ولم أجد له معنى ( فقيل: يا رسول الله، وكيف ذلك قال: يقول: اطلب العلم، ولا تعمل حتى تعلم، فلا يزال في العلم قائلا، وللعمل مسوفا، حتى يموت وما عمل) من شيء أورده صاحب القوت، ولفظه وقد روينا في خبر وفيه، قلنا: يا رسول الله كيف يسبقنا بالعلم والباقي سواء .

وقال العراقي: أخرجه الخطيب في كتاب الجامع لآداب الراوي، والسامع من رواية عمرو بن عبد الجبار بن حسان السنجاوي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن أنس رفعه، ولفظه أن الشيطان ليسبقكم بالعلم، قالوا: كيف يسبقنا به، يا رسول الله، قال لا يزال العبد للعلم طالبا، وللعمل تاركا حتى يأتيه الموت، قال: وإسناده غريب، وعمرو بن عبد الجبار، ذكره ابن عدي في الكامل .

وأورد له أحاديث وقال: كلها غير محفوظة، والراوي محمد بن المغيرة، أورده الذهبي في الميزان، وقال: روى خبرا باطلا متنه في الجنة نهر يقال له رجب اهـ .

قلت: الذي ذكره الذهبي في الديوان في عمرو بن الجبار، قال ابن عدي، روى عن عمه مناكير وعنه علي بن خرب فمقتضى سياقه، أن النكرة مقيدة، فيما إذا روى عن عمه، وهنا ليس كذلك، وقال في ذيل الديوان محمد بن المغيرة بن بسام عن منصور بن يزيد، وعنه البخاري، صاحب الصحيح، حديث في الجنة نهر يقال له رجب وسكت عنه ( وقال سري السقطي) بن المفلس تقدمت ترجمته ( اعتزل للتعبد رجل كان حريصا على طلب العلم الظاهر فسألته) ، ولفظ القوت: وحدثونا عن سري السقطي، قال: كان شاب يطلب علم الظاهر، ويواظب عليه، ثم ترك ذلك، وانفرد واشتغل بالعبادة، فسألت عنه، فإذا هو قد اعتزل الناس وقعد في بيته يتعبد، فقلت: كنت حريصا على طلب العلم، الظاهر فما بالك انقطعت ( فقال) لي: ( رأيت في المنام قائلا يقول: إلى كم) وفي القوت يقول: لي كم ( تضيع العلم ضيعك الله فقلت إني لأحفظه قال: حفظ العلم العمل [ ص: 377 ] به، فتركت الطلب، وأقبلت على العمل) ولفظ القوت: وأقبلت على النظر فيه للعمل ( وقال ابن مسعود) ولفظ القوت: وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ( ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية) ، أخرجه أبو نعيم في الحلية من رواية قرة بن خالد، عن عون بن عبد الله، قال: قال عبد الله، فذكره إلا أنه قال: لكن مكان إنما وهذا القول قد تقدم للمصنف في أثناء الوظيفة الأولى من وظائف المتعلم ( وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى، فيما رواه صاحب القوت، قال: كان يقول: ( اعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا) ، وهذا قد روي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ، أخرجه أبو نعيم، والخطيب كما تقدم: ( فإن السفهاء همتهم الرواية، والعلماء همتهم الدراية) ، وهذه الجملة أخرجها الخطيب في الاقتضاء من رواية لوين، قال: حدثني أبو محمد الأطرابلسي، عن أبي معمر، عن الحسن، قال: همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية .

وأخرج من طريق صالح بن رستم، قال: قال أبو قلابة لأيوب يا أيوب لا تكونن إنما همك أن تحدث به الناس، وفي القوت وقد كان الحسن، يقول: إن الله لا يعبأ بصاحب رواية إنما يعبأ بصاحب فهم ودراية، وقال أيضا من لم يكن له عقل يسوسه، لم تنفعه كثرة رواية الحديث، ( وقال مالك) بن أنس رحمه الله تعالى، حين سئل عن حديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم، فقال في الجواب: ( إن طلب العلم لحسن وإن نشره لحسن، إذا صحت فيه النية، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي) ومن حين تمسي إلى حين تصبح ( فلا تؤثرون عليه شيئا) وقد روي عنه هذا الكلام من ثلاثة طرق بألفاظ مختلفة والمعنى واحد من رواية ابن وهب وابن الماجشون، ومحمد بن معاوية الحضرمي، وقد تقدم في أول الكتاب أورده صاحب القوت في الفصل الثاني من كتاب العلم، من رواية ابن وهب، قال ذكر طلب العلم عند مالك، فقال: فذكره .

( وقال) أبو عبد الرحمن عبد الله ( بن مسعود) رضي الله عنه ( نزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملا وسيأتي قوم يثقفونه) أي: يعدلونه بإخراج الحروف من مخارجها ( مثل القنا) أي: الرمح حين يثقفه الرماح، أولئك ( ليسوا بخياركم) ، هكذا أورده صاحب القوت قال: وفي لفظ آخر يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه، ولا يتأجلونه، وأخرج الخطيب في كتاب الاقتضاء من رواية عبد الصمة بن يزيد، قال: سمعت الفضيل يقول إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملا، قال: قيل: كيف العمل به، قال: أي ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمرون بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفون عند عجائبه .




الخدمات العلمية