الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني أن لا يرى فرض كفاية أهم من المناظرة فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله وكان مثاله مثال من يرى جماعة من العطاش أشرفوا على الهلاك وقد أهملهم الناس وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء فاشتغل بتعلم الحجامة وزعم أنه من فروض الكفايات ولو خلا البلد عنها لهلك الناس وإذا قيل له في البلد جماعة من الحجامين وفيهم غنية فيقول هذا لا يخرج هذا الفعل عن كونه فرض كفاية .

فحال من يفعل هذا ويهمل الاشتغال بالواقعة الملمة بجماعة العطاش من المسلمين كحال المشتغل بالمناظرة وفي البلد فروض كفايات مهملة لا قائم بها .

فأما الفتوى فقد قام بها جماعة ولا يخلو بلد من جملة الفروض المهملة ولا يلتفت الفقهاء إليها وأقربها الطب إذ لا يوجد في أكثر البلاد طبيب مسلم يجوز اعتماد شهادته فيما يعول فيه على قول الطبيب شرعا ولا يرغب أحد من الفقهاء في الاشتغال به وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفايات وربما يكون المناظر في مجلس مناظرته مشاهدا للحرير ملبوسا ومفروشا وهو ساكت ويناظر في مسألة لا يتفق وقوعها قط وإن وقعت قام بها جماعة من الفقهاء ثم يزعم أنه يريد أن يتقرب إلى الله تعالى بفروض الكفايات .

وقد روى أنس رضي الله عنه أنه قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عليه السلام : إذا ظهرت المداهنة في خياركم والفاحشة في شراركم وتحول الملك في صغاركم والفقه في أراذلكم .

التالي السابق


(الثاني) من الشروط (أن لا يرى فرض كفاية) من فروض الكفايات التي ذكرت (أهم من جماعة من العطاش) جمع عطشان قد (أشرفوا على الهلاك) لعدم الماء (وقد أهملهم الناس) أي: تركوهم (وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء) وترك ذلك (فاشتغل بتعليم الحجامة) مثلا (وزعم أنه من فروض الكفايات) وأنه مما ينبغي الاعتناء بها (و) أنه (لو خلا البلد عنها لهلك الناس وإذا قيل) له (في البلد جماعة من الحجامين) قد قاموا بهذا العلم (وفيهم غنية) وكفاية (فيقول) مناظرا (وهذا لا يخرج هذا الفعل عن كونه فرض كفاية، فحال من يفعل هذا ويهمل) أي: يترك (الاشتغال بالواقعة الملمة) أي: الحادثة النازلة (لجماعة العطاش من المسلمين) وقد أشرفوا على الهلاك (كحال المشتغل بالمناظرة وفي البلد) جملة من (فروض كفايات مهملة) متروكة (لا قائم بها) ولا سائل عنها .

(وأما الفتوى فقد قام بها جماعة) من العلماء (ولا يخلو بلد) من البلاد (عن جملة من الفروض المهملة) قد تركوها (ولا يلتفت الفقهاء إليها) أصلا (وأقربها) وفي نسخة: وأكبرها (الطب) فقد ضيعوه رأسا (إذ لا يوجد في أكثر البلاد طبيب مسلم) عارف ماهر (يجوز اعتماد شهادته فيما) يصف من الأدوية و (يعول فيه على قول الطبيب فيه شرعا) كما هو مشاهد في هذه الأزمات والبلاد (ولا يرغب أحد من العلماء في الاشتغال به) لما تقدم أنه لا تحصل به المشيخة والرياسة ولا الوصايا وحيازة الأموال قال صالح جزرة عن الربيع: قال الشافعي: لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه، وقال حرملة: كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى (وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفايات) كما تقدم (وربما يكون المناظر في مجلس مناظرته مشاهد للحرير مفروشا ملبوسا) وهو [ ص: 284 ] من جملة المنكرات الشرعية ولكن في المفروش خلاف لأبي حنيفة كما سيأتي بيانه فيما بعد (وهو ساكت) لا ينهى عن ذلك، وروى أبو محمد البستي السختياني نزيل مكة حدثني الحارث بن شريح قال: دخلت مع الشافعي على خادم الرشيد وهو في بيت قد فرش بالديباج، فلما وضع الشافعي رجله على العتبة أبصره فرجع ولم يدخل فقال له الخادم ادخل، فقال: لا يحل افتراش هذا فقام الخادم مبتسما حتى دخل بيتا له فرش بالأرمني فدخل الشافعي ثم أقبل عليه فقال: هذا حلال وذاك حرام، وهذا أحسن من ذاك وأكثر ثمنا منه فتبسم الخادم وسكت (و) الحال أنه (يناظر في مسألة) نادرة (لا يتفق وقوعها وإن وقعت قام بها جماعة من الفقهاء) وكفوه مؤنتها (ثم يزعم) في معتقده (أنه يريد أن يتقرب إلى الله تعالى بفرض الكفاية) قلت: هكذا أورده ابن عبد البر من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي أمية وأورد أبا أمية في الصحابة وذكر هذا الحديث وقال: لا أعرفه بغير هذا وقال: ذكره بعضهم في الصحابة وفيه نظر، وأخرج الخطيب في كتاب الاقتضاء فقال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن علي بن عبدوس الأهوازي إجازة قال: سمعت محمد بن إبراهيم الأصبهاني يقول: سمعت عبد الله بن الحسين الملطي يقول: سمعت محمد بن هارون يقول: سمعت ابن أبي أويس يقول: حضر رجل من الأشراف عليه ثوب حرير قال فتكلم مالك بكلام لحن فيه قال فقال الشريف ما كان لأبوي هذا درهمان يعلمانه النحو قال: فسمع مالك كلام الشريف فقال: لأن تعرف ما يحل لبسه مما يحرم عليك خير لك من: ضرب عبد الله زيدا وضرب زيد عبد الله .

(وقد روى أنس) -رضي الله عنه- (قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: إذا ظهرت المداهنة) وفي رواية إذا ظهر الادهان أي: الملاينة وترك المجادلة، وأصل ذلك من الدهن الذي يمسح به الرأس ثم جعل عبارة عما ذكرنا (في خياركم والفاحشة في شراركم وتحول الملك في صغاركم والفقه في أرذالكم) وفي نسخة: في رذالكم وفي أخرى في أراذلكم .

قال العراقي: أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن، وقال في التخريج الكبير رواه أحمد وابن ماجه وابن عبد البر في بيان آداب العلم، واللفظ له بإسناد حسن من رواية أبي معبد حفص بن غيلان عن مكحول عن أنس بزيادة في أوله وقال ابن ماجه: إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم قالوا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا قال الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالكم. قال زين بن يحيى أحد رواة الحديث معنى: والعلم في رذالكم، إذا كان العلم في الفساق. اهـ .

قلت: ويروى هذا الحديث عن عائشة، وجدته في الأول من مشيخة أبي يوسف يعقوب بن سفيان القوسي قال: حدثنا الحسن بن الخليل بن يزيد المكي حدثنا الزبير بن عيسى حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: يا رسول الله متى لا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، قال: إذا كان البخل في خياركم وإذا كان العلم في رذالكم وإذا كان الادهان في كباركم وإذا كان الملك في صغاركم. اهـ .

ومن شواهد هذا ما أخرجه البخاري في أول صحيحه من حديث أبي هريرة رفعه: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، وفي الرقاق منه إذا أسند، قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم وذلك من جملة الأشراط، ومعناه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة، وكأنه أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ من الأكابر تلميحا لما روي عن أبي أمية الجمحي رفعه قال: من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر.




الخدمات العلمية