الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال حذيفة بن قتادة قيل لرجل كيف تصنع بنفسك في شهواتها فقال ما على وجه الأرض نفس أبغض إلي منها فكيف أعطيها شهواتها ودخل ابن السماك على داود الطائي حين مات وهو في بيته على التراب فقال يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وعذبت نفسك قبل أن تعذب فاليوم ترى ثواب من كنت تعمل له .

وعن وهب بن منبه إن رجلا تعبد زمانا ثم بدت له إلى الله تعالى حاجة فقام سبعين سبتا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة ثم سأل حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه وقال منك أتيت لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك فنزل إليه ملك وقال يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك .

وقال عبد الله بن قيس كنا في غزاة لنا فحضر العدو فصيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول أي نفسي ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك فقلت لأرمقنه اليوم فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم ثم أن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في موضعه حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل فوالله ما زال ذاك دأبه حتى رأيته صريعا فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة .

وقد ذكرنا حديث أبي طلحة لما اشتغل قلبه في الصلاة بطائر في حائطه فتصدق بالحائط كفارة لذلك .

وإن عمر كان يضرب قدميه بالدرة كل ليلة ويقول ماذا عملت اليوم وعن مجمع أنه رفع رأسه إلى السطح فوقع بصره على امرأة فجعل على نفسه أن لا يرفع رأسه إلى السماء ما دام في الدنيا .

وكان الأحنف بن قيس لا يفارقه المصباح بالليل فكان يضع أصبعه عليه ويقول لنفسه ما حملك على أن صنعت يوم كذا وكذا وأنكر وهيب بن الورد شيئا على نفسه فنتف شعرات على صدره حتى عظم ألمه ثم جعل يقول لنفسه ويحك إنما أريد بك الخير .

ورأى محمد بن بشر داود الطائي وهو يأكل عند إفطاره خبزا بغير ملح فقال له لو أكلته بملح فقال أن نفسى لتدعوني إلى الملح منذ سنة ولا ذاق داود ملحا ما دام في الدنيا .

فكذا كانت عقوبة أولي الحزم لأنفسهم والعجب أنك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على ما يصدر منهم من سوء خلق وتقصير في أمر وتخاف أنك لو تجاوزت عنهم لخرج أمرهم عن الاختيار وبغوا عليك ثم تهمل نفسك وهي أعظم عدو لك وأشد طغيانا عليك وضررك من طغيانها أعظم من ضررك من طغيان أهلك فإن غايتهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا ولو عقلت لعلمت إن العيش عيش الآخرة وإن فيه النعيم المقيم الذي لا آخر له ونفسك هي التي تنغص عليك عيش الآخرة فهي بالمعاقبة أولى من غيرها .

التالي السابق


(وقال حذيفة بن قتادة ) المرعشي رحمه الله تعالى (قيل لرجل كيف تصنع بنفسك في شهوتها فقال ما على وجه الأرض نفس أبغض إلي منها فكيف أعطيها شهوتها ) ، رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا عبد الله بن محمد حدثني سلمة حدثنا سهل بن عاصم عن أبي يزيد الرقي قال قال حذيفة بن قتادة قيل لرجل فذكره (ودخل ) أبو العباس (بن السماك ) الواعظ هو محمد بن صبيح البغدادي روى عن التابعين (على داود ) بن نصير (الطائي ) رحمهما الله تعالى (حين مات وهو في بيته على التراب فقال يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وعذبت نفسك قبل أن تعذب فاليوم ترى ثواب من كنت تعمل له ) ، رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا أبي حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد قال سمعت أبا جعفر الكندي في جنازة بشر بن الحارث يقول دخل ابن السماك على داود الطائي حين مات فذكره وقال أيضا حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن إسحاق حدثني أبو بكر بن خلف حدثنا إسحاق بن منصور ببغداد سنة خمس ومائتين قال لما مات داود الطائي شيع الناس جنازته فلما دفن قام ابن السماك فقال يا داود كنت تسهر ليلك إذا الناس نائمون فقال القوم جميعا صدقت وكنت تربح إذا الناس يخسرون وكنت تسلم إذا الناس يخوضون فقال الناس جميعا صدقت حتى عدد فضائله كلها فلما فرغ قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم [ ص: 118 ] قال يا رب إن الناس قالوا ما عندهم مبلغ ما علموا اللهم فاغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس حدثنا محمد بن يحيى الواسطي حدثنا محمد بن بشير حدثنا حفص بن عمر الجعفي قال اشتكى داود الطائي أياما وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مرارا في ليلته فأصبح مريضا فوجدوه قد مات ورأسه على لبنة ففتحوا باب الدار ودخل ناس من إخوانه وجيرانه ومعهم ابن السماك فلما نظر إلى رأسه قال يا داود فضحت القراء فلما حملوه إلى قبره خرج في جنازته خلق كثير حتى خرج ذوات الخدور فقال ابن السماك يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وحاسبت نفسك قبل أن تحاسب فاليوم ترى ثواب ما كنت ترجو وله كنت تنصف وتعمل فقال أبو بكر بن عياش وهو على شفير القبر اللهم لا تكل داود إلى عمله قال فأعجب الناس ما قال أبو بكر حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا أحمد بن راشد حدثنا محمد بن حسان الأزرق حدثنا ابن مهدي قال بلغني أن داود الطائي يوم مات وهو في بيت على التراب وتحت رأسه لبنة فبكيت لما رأيت من حاله ثم ذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه فقلت داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وعذبت نفسك قبل أن تعذب فاليوم ترى ثواب من كنت له تعمل (و ) روي (عن وهب بن منبه ) اليماني رحمه الله تعالى قال (إن رجلا تعبد زمانا ) طويلا (ثم بدت له إلى الله حاجة فقام سبعين سبتا يأكل في كل سبت أحد عشر تمرة ثم سأل حاجة فلم يعطها فرجع إلى نفسه وقال منك أتيت لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك فنزل إليه ملك وقال يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك ) ، رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس .

(وقال عبد الله بن قيس ) هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وكان عمر ولاه غزاة فارس وهو الذي فتح تستر ونزل الهرمزان من الحصن على حكم عمر فأرسله مع أنس إلى المدينة فأمنه عمر وأسلم الهرمزان (كنا في غزاة لنا فحضر العدو فصيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت لا والله لأعرضنك اليوم على الله أخذ أو تركك فقلت لأرمقنه اليوم فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في موضعه حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعا ) على الأرض (فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة ) ، رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس .

(وقد ذكرنا حديث أبي طلحة ) الأنصاري (لما اشتغل قلبه في الصلاة في حائطه ) بطائر حسن الصوت فأدار نظره إليه واتبعه فلم يدر كم صلى (فتصدق بالحائط كفارة لذلك ) وكذا تأخير ابن عمر صلاة المغرب حتى طلعت نجمة فأعتق رقبة وقد ذكر كل من ذلك في كتاب الصلاة وهذا مستحب فعقوبة النفس على التقصير سنة الأولياء ولا يجب إلا جبر الفرائض (و ) ذكرنا أيضا (أن عمر ) رضي الله عنه (كان يضرب قدميه بالدرة كل ليلة ويقول ماذا عملت اليوم ) يحاسبها ويعاقبها (وعن مجمع ) بن صمغان التيمي رحمه الله تعالى وكان من الورعين حكى عنه الأعمش وسفيان وأبو حيان التيمي ترجمه صاحب الحلية (أنه رفع رأسه إلى السطح فوقع بصره على امرأة فجعل على نفسه أن لا يرفع رأسه إلى السماء ما دام في الدنيا ) ، رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (وكان الأحنف بن قيس ) التيمي (لا يفارقه المصباح بالليل فكان يضع إصبعه عليه ويقول لنفسه ما حملك على أن صنعت يوم كذا وكذا ) ثم يقول قل نار جهنم أشد حرا رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (وأنكر وهيب بن الورد ) المكي أبو أمية اسمه عبد الوهاب ولكنه اشتهر بوهيب (شيئا على نفسه فنتف شعرات ) كانت ( على صدره حتى [ ص: 119 ] عظم ألمه ثم جعل يقول لنفسه ويحك إنما أريد بك الخير ) ، رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ورأى ) أبو عبد الله (محمد بن بشر ) بن الفرافصة بن المختار بن رويح العبدي الكوفي ثقة حافظ مات سنة ثلاث ومائتين روى له الجماعة (داود ) بن نصير (الطائي ) رحمه الله تعالى (وهو يأكل عند إفطاره خبزا بغير ملح فقال له لو أكلته بملح فقال ) إن (نفسي لتدعوني إلى الملح منذ سنة ولا ذاق داود ملحا ما دام في الدنيا ) ، رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سهل بن عاصم حدثنا شهاب بن عباد حدثنا محمد بن بشر قال دخلت وداود الطائي المسجد فصليت معه المغرب ثم أخذ بيدي فدخلت معه البيت فقام إلى دن له كبير فأخذ منه رغيفا يابسا فغمسه في الماء ثم قال ادن فكل قلت بارك الله لك فأفطر فقلت له يا أبا سليمان لو أخذت شيئا من ملح قال فسكت ساعة ثم قال إن نفسي نازعتني ملحا ولا ذاق داود ملحا ما دام في الدنيا قال فما ذاقه حتى مات وقال أيضا حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا أحمد بن عمران الأخنس حدثنا الوليد بن عقبة قال كان يخبز لداود الطائي ستون رغيفا فيعلقها بشريط يفطر كل ليلة على رغيفين بملح وماء فأخذ ليلة فطره فجعل ينظر إليه قال ومولاة له سوداء تنظر إليه فقامت فجاءته بشيء من تمر على طبق فأفطر ثم أحيا ليلته وأصبح صائما فلما أن جاء وقت الإفطار أخذ رغيفيه وملحا وماء قال الوليد بن عقبة فحدثني جار له قال جعلت أسمعه يعاتب نفسه يقول اشتهيت البارحة تمرا فأطعمتك واشتهيت الليلة تمرا لا ذاق داود الطائي تمرة ما دام في دار الدنيا قال محمد بن إسحاق في حديثه فما ذاقها حتى مات وحدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا أحمد بن علي بن الجارود حدثنا أبو سعيد الأشج حدثني عبد الله بن عبد الكريم عن حماد بن أبي حنيفة قال جئت داود الطائي والباب عليه مغلق فسمعته يقول اشتهيت جزرا فأطعمتك ثم اشتهيت جزرا وتمرا آليت أن لا تأكليه أبدا فاستأذنت وسلمت ودخلت فإذا هو يعاتب نفسه حدثنا إبراهيم بن أحمد بن أبي الحصين حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن حسان سمعت إسماعيل بن حسان يقول جئت إلى باب داود الطائي أريد أن أدخل عليه فسمعته يخاطب نفسه فظننت أن عنده إنسانا يكلمه فأطلت الوقوف بالباب ثم استأذنت فقال ادخل فدخلت فقال ما بدا لك من الاستئذان علي قال قلت سمعتك تتكلم فظننت أن عندك إنسانا تخاصمه قال لا ولكن كنت أخاصم نفسي اشتهت البارحة تمرا فخرجت فاشتريته فلما جئت بالتمر اشتهت الجزر فأعطيت الله عهدا أن لا آكل التمر والجزر حتى ألقاه (فهكذا كانت عقوبة أولي الحزم لأنفسهم ) إذا خانت نفوسهم وضيعت الحدود (والعجب أنك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على ما يصدر منهم من سوء خلق وتقصير في أمر وتخاف أنك لو تجاوزت عنهم لخرج أمرهم عن الاختيار وبغوا عليك ثم تهمل نفسك وهي أعظم عدو لك وأشد طغيانا عليك وضررك من طغيانها أعظم من ضررك من طغيان أهلك فإن غايتهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا ولو عقلت لعلمت أن العيش عيش الآخرة ) ومعيشة الدنيا زائلة عن قريب (وإن فيه ) أي : في عيش الآخرة (النعيم المقيم الذي لا آخر له ونفسك هي التي تنغص عليك عيش الآخرة فهي بالمعاقبة أولى من غيرها ) والعناية بأحوالها أوكد من غيرها والله الموفق .




الخدمات العلمية