الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه ولا نشاهد شيئا من ذلك فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة فاعلم ؟ أن لك ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا .

أحدهما : وهو الأظهر والأصح والأسلم أن تصدق بأنها موجودة وهي تلدغ الميت ولكنك لا تشاهد ذلك فإن هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية ، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل وما كانوا يشاهدونه ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك وإن كنت آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت ؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا بل هي جنس آخر وتدرك بحاسة أخرى .

المقام الثاني : أن تتذكر أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصيح في نومه ويعرق جبينه وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد .

المقام الثالث : أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها وهو السم ، ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم ، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر ، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة ، فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب ، وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب السبب ، يراد لثمرته لا لذاته .

وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإن كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما حتى يرد بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه فصار يعشق ماله وعقاره وجاهه وولده وأقاربه ومعارفه ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو استرجاعه منه فماذا ترى يكون حاله أليس يعظم شقاؤه ويشتد عذابه ويتمنى ويقول : ليته لم يكن لي مال قط ولا جاه قط فكنت لا أتأذى بفراقه فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعة واحدة .


ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلك الواحد

فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا فتؤخذ منه الدنيا وتسلم إلى أعدائه ، ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسره على ما فاته من نعيم الآخرة والحجاب عن الله عز وجل فإن حب غير الله يحجبه عن لقاء الله والتنعم به فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته وحسرته على ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد وذل الرد والحجاب عن الله تعالى ، وذلك هو العذاب الذي يعذب به إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم كما قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم وأما من لم يأنس بالدنيا ولم يحب إلا الله وكان مشتاقا إلى لقاء الله فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاساة الشهوات فيها وقدم على محبوبه وانقطعت عنه العوائق والصوارف وتوفر عليه النعيم مع الأمن عن الزوال أبد الآباد ولمثل ذلك فليعمل العاملون .

والمقصود أن الرجل قد يحب فرسه بحيث لو خير بين أن يؤخذ منه وبين أن تلدغه عقرب آثر الصبر على لدغ العقرب فإذا ألم فراق الفرس عنده أعظم من لدغ العقرب وحبه للفرس هو الذي يلدغه إذا أخذ منه فرسه فليستعد لهذه اللدغات فإن الموت يأخذ منه فرسه ومركبه وداره وعقاره وأهله وولده وأحبائه ومعارفه ويأخذ منه جاهه وقبوله بل يأخذ منه سمعه وبصره وأعضاءه وييأس من رجوع جميع ذلك إليه ، فإذا لم يحب سواه وقد أخذ جميع ذلك منه فذلك أعظم عليه من العقارب والحيات وكما لو أخذ ذلك منه وهو حي فيعظم عقابه فكذلك إذا مات ; لأنا قد بينا أن المعنى الذي هو المدرك للآلام واللذات لم يمت بل عذابه بعد الموت أشد ; لأنه في الحياة يتسلى بأسباب يشغل بها حواسه من مجالسة ومحادثة ويتسلى برجاء العود إليه ويتسلى ، برجاء العوض منه ، ولا سلوة بعد الموت إذ قد انسد عليه طرق التسلي ، وحصل اليأس فإذا كل قميص له ومنديل قد أحبه بحيث كان يشق عليه لو أخذ منه فإنه يبقى متأسفا عليه ومعذبا به ، فإن كان مخفا في الدنيا سلم وهو المعني بقولهم : نجا المخفون وإن كان مثقلا عظم عذابه وكما أن حال من يسرق منه دينار أخف من حال من يسرق منه عشرة دنانير فكذلك حال صاحب الدرهم أخف من حال صاحب الدرهمين وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم : صاحب الدرهم أخف حسابا من صاحب الدرهمين وما من شيء من الدنيا يتخلف عنك عند الموت إلا وهو حسرة عليك بعد الموت فإن شئت فاستكثر وإن شئت فاستقلل ، فإن استكثرت فلست بمستكثر إلا من الحسرة ، وإن استقللت فلست تخفف إلا عن ظهرك .

التالي السابق


(فإن قلت: فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه ولا نشاهد شيئا من ذلك) أي: من أنواع العذاب من الحيات والعقارب (فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة؟ فاعلم أن لك ثلاثة مقامات في التصديق بأمثال هذا: أحدها وهو الأظهر والأصح والأسلم أن تصدق بأنها موجودة وهي تلدغ الميت) نظرا لظاهر الأخبار الصحيحة (ولكنك لا تشاهد ذلك فإن هذه العين) التي تبصر بها الأمور الظاهرة (لا تصلح لمشاهده الأمور الملكوتية، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت) فإنه ضد عالم الشهادة (أما ترى الصحابة) رضوان الله عليهم (كيف كانوا يؤمنون) أي يصدقون (بنزول جبريل) عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم (وما كانوا يشاهدونه) على هيئته التي هو عليها ويؤمنون مع ذلك بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان (يشاهده) مشاهدة عيان (فإن كنت لا تؤمن بهذا) القدر (فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك) من كل شيء (وإن آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا) ولا من جنس عقاربه (بل هي من جنس آخر وتدرك بحاسة أخرى) غير حاسة البصر (المقام [ ص: 406 ] الثاني: أن يتذكر أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصيح) من ذلك الألم (ويعرق جبينه) من شدته (وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا) لا يتحرك (ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد، المقام الثالث: أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها وهو السم، ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة، فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب، وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب، والسبب يراد لثمرته لا لذاته، وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإنه كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما حتى نزل بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أنه لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه فصار يعشق ماله وعقاره وجاهه وولده وأقاربه ومعارفه ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو استرجاعه منه فماذا ترى يكون حاله أليس يعظم شقاؤه) ويكثر أسفه (ويشتد عذابه ويتمنى) ويتلهف (ويقول: ليته لم يكن لي مال قط ولا جاه قط فكنت لا أتأذى بفراقه) ولا أتألم عند انقطاعه (فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعة واحدة) كما قال الشاعر:


( ما حال من كان له واحد غيب منه ذلك الواحد

فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا فتؤخذ منه الدنيا وتسلم إلى أعدائه، ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسره على ما فاته من نعيم الآخرة والحجاب عن الله تعالى) وهو أعظم ما يتحسر عليه (فإن حب غير الله يحجبه عن لقاء الله والتنعم به فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته وحسرته على ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد وذل الرد والحجاب عن الله تعالى، وذلك هو الذي يعذب به إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم كما قال تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ) فحجابهم عن ربهم سبب لدخولهم الجحيم (وأما من لم يأنس بالدنيا) ولم يطمئن إليها (ولم يحب إلا الله وكان مشتاقا إلى لقاء الله فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاساة الشهوات فيها) فكان الموت في حقه تحفة وإطلاقا عن السجن (وقدم على محبوبه وانقطعت عنه العوائق والصوارف وتوفر عليه النعيم مع الأمن عن الزوال أبد الآباد) وإليه أشار القطب سيدي على وفا قدس سره [ ص: 407 ]

سكن الفؤاد فعش هنيئا يا جسد غدا النعيم هو المقيم للأبد

(ولمثل ذلك فليعمل العاملون، والمقصود أن الرجل قد يحب فرسه بحيث لو خير بين أن يؤخذ منه وبين أن تلدغه عقرب آثر الصبر على لدغ العقرب) على أخذ الفرس منه (فإذا ألم فراق الفرس عنده أعظم من لدغ العقرب وحبه للفرس هو الذي يلدغه إذا أخذ منه فرسه فليستعد لهذه اللدغات فإن الموت يأخذ منه فرسه ومركبه وداره وعقاره وأهله وولده وأحباءه ومعارفه ويأخذ منه جاهه وقبوله بل يأخذ منه سمعه وبصره وأعضاءه ويأسف عن رجوع جميع ذلك كله إليه، فإذا لم يحب سواه وقد أخذ جميع ذلك منه فذلك أعظم عليه من العقارب والحيات وكما لو أخذ منه وهو حي فيعظم عقابه فكذلك إذا مات; لأنا قد بينا أن المعنى الذي هو المدرك للآلام واللذات لم يمت بل عذابه بعد الموت أشد; لأنه في الحياة يبتلى بأسباب تشغل بها حواسه من مجالسة ومحادثة ويبتلى برجاء العود إليه، ويبتلى برجاء العوض عنه، ولا سلوة بعد الموت إذ قد أفسدت عليه طرق التسلي، وحصل اليأس فإذا كل قميص له ومنديل قد أحبه بحيث كان يشق عليه لو أخذ منه فإنه يبقى متأسفا عليه ومعذبا به، فإن كان مخفا من الدنيا سلم وهو المعني بقولهم: نجا المخفون) والمشتهر على الألسنة فاز المخفون، وهو بمعناه، وفي حديث أبي الدرداء: أمامكم عقبة كئود لا يجوزها المثقلون رواه الحاكم في المستدرك وهو في النهاية لابن الأثير بلفظ: إن بين أيدينا عقبة كئودا لا يتجاوزها إلا الرجل المخف، وفي الحلية لأبي نعيم في قصة التقاء عمر بن الخطاب بأوس القرني وعرض عليه نفقة وأباها أنه قال: يا أمير المؤمنين، إن بين يدي ويديك عقبة كئودا لا يجاوزها إلا كل ضامر مخف، وعند الطبراني من حديث أنس: يا أبا ذر أعلمت أن بين أيدينا عقبة كئودا لا يصعدها إلا المخفون؟ وقد قال الشاعر:


هذا الزمان الذي قال الرسول لنا خفوا الرحال فقد فاز المخفونا



(وإن كان مثقلا عظم عذابه) واشتد تعبه (وكما أن حال من يسرق منه دينار أخف من حال من يسرق منه عشرة دنانير فكذلك حال صاحب الدرهم أخف من حال صاحب الدرهمين وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: صاحب الدرهم أخف حسابا من صاحب الدرهمين) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا قلت: بل رواه الحاكم في تاريخه من حديث أبي هريرة بلفظ: ذو الدرهمين وذو الدينار أشد حسابا من ذي الدينار، وقد روي نحو ذلك من قول أبي ذر قال أحمد في الزهد: حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان، حدثني سليمان عن إبراهيم التميمي عن أبيه عن أبي ذر قال: ذو الدرهمين أشد حسابا من ذي درهم واحد.

رواه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه (وما من شيء في الدنيا يتخلف عنك عند الموت إلا وهو حسرة عليك بعد الموت فإن شئت فاستكثر وإن شئت فاستقلل، فإن استكثرت فلست مستكثرا إلا من الحسرة، وإن استقللت فلست تخفف إلا عن ظهرك) وروى أبو نعيم في الحلية من طريق أبي أسماء الرحبي أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء شعثة ليس عليها أثر المجاسد والخلوق قال: فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السوداء؟ تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم وإن خليلي عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلة وأنا إن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير.




الخدمات العلمية