الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 582 ] 6 - باب: الانتصار من الظالم

                                                                                                                                                                                                                              لقوله جل ذكره: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما [النساء: 148]. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون [الشورى: 39]. قال إبراهيم : كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. [فتح: 5 \ 99]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الانتصار من الظالم مباح بهذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته ويؤذيه بما فعل به.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إلا من ظلم الآية. [النساء: 148] يدعو على ظالمه أو يخبر بظلمه إياه أو يستنصر منه.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنه الصديق شتمه رجل فسكت، ثم أعاد فرد عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال تعالى: والذين إذا أصابهم البغي الآية. [الشورى: 39] أي: بغي المشركين عليهم، في الذين انتصروا منهم بالسيف. أو إذا بغى عليهم باغ كره أن يستذلوا لئلا يجترئ عليهم الفساق، فإذا قدروا عفوا كما ذكر عن إبراهيم، وقد أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" عن قبيصة، ثنا سفيان، عن منصور عنه - كما ذكره البخاري، وفي رواية أخرى كما ذكرنا - ولفظه: قال منصور : سألته عن الآية قال: كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيتجرأ الفساق عليهم، هذا يرد قول ابن التين : قول [ ص: 583 ] إبراهيم كانوا يكرهون أن يذلوا، زاد غيره: فيجترئ عليهم الفساق. وقد علمت أنه زادها لا غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: معنى الآية: إذا بغي عليهم تناصروا وأزالوه، وقال تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41] أي: استوفى حقه، فأباح الانتصار بهذه الآيات.

                                                                                                                                                                                                                              و (البغي): الظلم، فينتصر المظلوم ممن ظلمه، فيقتص منه جزاء سيئة سيئة مثلها، وقراءة العامة: (ظلم) بضم الظاء، أي: فإنه يذكر ما فعل به كما أسلفناه.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحسن : لا ينبغي أن يدعو عليه وليقل: اللهم أعني عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال قطرب : يريد المكره عليه فإنه موضوع عنه وإن كفر.

                                                                                                                                                                                                                              وقرئ بفتح الظاء، قال الضحاك : فإنه يجهر فيه اعتداء.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إلا من ظلم [النساء: 148] فقال سوءا، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ويكون استثناء ليس من الأول.

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول إبراهيم : إنهم كانوا يكرهون أن يستذلوا فإنه - عليه السلام - قد روي عنه هذا المعنى في استعاذته من غلبة الرجال ومن شماتة الأعداء. [ ص: 584 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فإذا قدروا عفوا) ، فإن العفو أجمل وأفضل لما جاء في ثوابه وعظيم أجره، وقد أثنى الله على من فعل ذلك فقال: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى: 43] وهذه السبيل امتثل الشارع في خاصة نفسه، فكان لا ينتقم لنفسه ولا يقتص ممن جفا عليه ولم يوقره، وقد جفا عليه كثير من الأعراب وقال له القائل: إنك ما عدلت منذ اليوم. فآثر الأخذ بالعفو وليسن لأمته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي لما ذكر قول إبراهيم : سببه أنه قد تنتهك حرمته ويؤخذ ماله ويضيع حقه.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ولما ولي الحجاج العراق قال: لا يؤم مولى. فقال أهل مسجد ليحيى بن وثاب (خ م ت س ق) وكان يؤمهم: قد أمر الأمير أن لا يؤم مولى وأنت مولى. فقال: ليس عن مثلي نهى. وكان أحد القراء وأحد العلماء فمضى إلى قرب قصر الحجاج فجلس يقرأ، فقال الحجاج ما له؟ قيل له: هو مولى وأنت نهيت لا يؤم مولى فقال: ليس عن مثل هذا نهيت، فرجع يحيى فصلى بهم صلاة يؤم ثم قال: إنما كرهت أن تذلوني، فهذا صار إلي فوالله الذي لا إله إلا هو لا أصلي بكم أبدا .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية