الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

أنه في المحرم تقدم أمير المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونودي بذلك في الأسواق ، وأريقت الخمور ، وكسرت الملاهي ، ونقضت دور يلجأ إليها المفسدون .

وفيه: قتل رجلان كان السبب في قتلهما أن امرأة كانت تطر وتأخذ أموال الناس وتنفقها عليهما ، ثم مالت إلى أحدهما دون الآخر ، فظفر به الآخر فقتله ، فظفرت بالقاتل أخت المقتول [فجرحته ، فجاء أخوها] فقتله فقبرا من ساعتهما .

وفيه: قتل منفوخة المسلحي بالكرخ بين السورين ، فرت الشحنة وكبس دار الطاهر نقيب الطالبيين ، وقد كان لجأ إليها جماعة من المتهمين ، فقبض عليهم وأخذ منهم أموالا ، فاتفقت السنة والشيعة على الاستغاثة على الشحنة ، فتغيب فطلبه الأتراك ، فأخذ مسحوبا إلى الباب فاعتقل ، وأمر برد ما أخذ وأخرج منفوخة فأحرق على بابه .

وفي صفر: تقدم المقتدى بإحضار زعيم الكفاة أبي منصور محمد بن محمد بن الحسين بن المعوج إلى الديوان فخلع عليه ، فحضره أرباب الدولة ، وخرج التوقيع بتقليده المظالم ، وكان فيه: "ولما رأى أمير المؤمنين في محمد بن محمد بن الحسين [ ص: 256 ] من العفاف والديانة والثقة والصيانة قلده المظالم ، وقد أخذ عليه [تقوى] الله وطاعته والسعي في كل ما كان يزلفه عنده ويقربه من أمير المؤمنين" فكان كل ما قرئ هذا قبل الأرض ، ثم خرج فجلس بباب النوبي ، ثم دعا الأمراء بالمعروف فكانوا أعوانه ، وكان صينا نزها .

وفي هذا الشهر: ثارت الفتنة بين السنة والشيعة ، وقتل جماعة منهم أبو الحسن بن المهتدي الخطيب ، وكانت الوقعة بين جامع المنصور والقنطرة العتيقة ، فتولى قتال أهل السنة العميد والشحنة ، ثم حاصر الطائفتان أياما فلم يقدر أحد أن يظهر ، فجبي لهما مال تولى جبايته النقيبان ، فتقدم أمير المؤمنين بالقبض على النقيبين [فحبس النقيبين] ، فأنكرا ما فعلا ، وألزم العميد الشحنة رد ما أخذا .

وفي هذا الشهر: قدم خدم ابن أبي هاشم [من مكة] بخرق الدم معلقة على حراب الأضاحي ، وخرج حجاب الديوان لتلقيهم ، وعادوا والقراء بين أيديهم ، فنزلوا وقبلوا العتبة الشريفة ، وصاروا إلى دار الضيافة ، فأدر عليهم ما جرت به العادة .

وبعث في هذه السنة صفائح ذهب وفضة لتعلق على الباب ففعل ذلك ، وقلع كل ما كان [على الباب مما] عليه اسم صاحب مصر ، وكتب اسم المقتدي .

وفي صفر أيضا: دخل عريف الصناع والفعلة والصناع معه على العادة إلى دار الخلافة ، فخرج المقتدي بالله يمشي في الدار ، فخرج إليه ثلاثة من الرجال فقبلوا الأرض وقالوا: نحن رجال من رؤساء نهر الفضل صودرنا وعوقبنا ، ولنا أربعة أشهر على الباب لم ينجز لنا حال ، فتوصلنا إلى أن دخلنا في حد الروزجارية فقال: فمن فعل بكم هذا؟ قالوا: ابن زريق الناظر بواسط ، فوعدهم الجميل فخرجوا ، وتقدم من ساعته [ ص: 257 ] بإيضاح الحال ، فإن كان كما ذكروا فليعزل ابن زريق عن أعمال واسط ، وليصعد به منكلا . ثم تقدم إلى صاحب المظالم أن لا يطوى حال أحد من الرعية ، ثم وصل أولئك وأحدرهم وأصحبهم من يستوفي من ابن زريق ما لهم ، وينفذ فيه ما تقدم به .

وفي جمادى الأولى: وصل الشريف العلوي الدبوسي ، كان قد استدعاه النظام للتدريس بمدرسته ببغداد فتلقي ، وكان بعيد النظر في معرفة الجدل ، فدرس في النظامية بعد موت أبي سعد المتولي .

وفي جمادى الآخر: بدأ الطاعون بالعراق ، وكان عامة أمراضهم حمى الربع ، ثم يتعقبها الموت ، فلما كثر ذلك أمر المقتدي بتفرقة الأدوية والأشربة على المحال ، ثم فض عليهم المال .

وفي هذا الشهر: وقعت نار بواسط فأحرقت سوق الصيدلة من الجانبين ، ووصل صدقة بن مزيد من المعسكر السلطاني من أصبهان فنزل النهروان ، وطلب من الديوان أن يتلقى كما كانت عادة أبيه فلم يجب إلى ذلك ، فعدل إلى بلاده .

وفي هذا الشهر: سار ملك شاه فنزل الموصل في رجب ، ثم مضى إلى قلعة جعبر ، وقد كان تحصن بها شاري يعرف بسابق بن جعبر في عدد من السلوح يغيرون ويلجئون إليها ، فراسله السلطان في تسليمها وأن يؤمنه على نفسه وماله ، فلم يجب ، فنصب العرادات ، ونقب السور ، وفتحت وقتل عامة من كان فيها ، وقبض على سابق ، وأرادوا قتله بالسيف ، فوقعت عليه زوجته وقالت: لا أفارقه أو تقتلوني معه ، فألقوه من أعلى السور فتكسر ، ثم ضرب بالسيوف نصفين فألقت نفسها وراءه فسلمت ، فقال لها السلطان: ما حملك على هذا؟ فقالت: إنا قوم لم يتحدث عنا بالخنا ، فخفت أن يخلو بي من الترك في القلعة ، فيقول الناس ما شاءوا . فاستحسن ذلك منها .



وفي رجب: وقعت صاعقة في خان الخليفة المقابل لباب النوبي فأحرقت جزءا [ ص: 258 ] من كنيسة الخان ، وفتتت أسطوانة حتى صارت رميما ، وسقط منها مثل كباب القطن الكبار نارا ، فخر الناس على وجوههم ، وسقطت أخرى بخرابة ابن جردة فقتلت غلاما تركيا ، وسقطت أخرى على جبل آمد فصار رمادا ، ووقعت صواعق في البرية لا تحصى في ديار الشام .

وفي رمضان: كثرت الوحول في الطرقات ، فأمر أمير المؤمنين بتنظيفها ، وأقيم عدد من الفعلة لتنظيفها ومائة من البهائم لنقلها .

وفي أول يوم من شوال: حضر الموكب النقيبان والأشراف والقضاة والشهود ، فنهض بعض المتفقهة وأورد أخبارا في مدح الصحابة ، وقال: ما بال الجنائز تمنع من ذكر الصحابة عليها بمقابر قريش وربع الكرخ [والسنة ظاهرة] ويد أمير المؤمنين الباسطة القاهرة . فطولع بما قال ، فخرج [التوقيع] بما معناه: أنهى ما ارتكب بمقابر قريش من إخمال ذكر صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي عنهما ، وتورطهم في هذه الجهالة ، واستمرارهم على هذه الضلالة التي استوجبوا بها النكال ، واستحقوا العظيم الخزي والوبال ، وإنما يتوجه العتب في ذلك نحو نقيب الطالبيين ولولا ما تدرع به من جلباب الحلم ، وأسباب يتوخاها لتقدم في فرضه ما يرتدع به الجهال ، فليؤجر بإظهار شغل السنة في مقابر باب التبن وربع الكرخ من ذكر الصحابة على الجنائز ، وحثهم على الجمعة والجماعة ، والتثويب "بالصلاة خير من النوم" وذكر الصحابة على مساجدهم ومحاريبهم أسوة بمساجد السنة ، والتقدم بمكاتبة ابن مزيد ليجري على هذه السنة في بلاده فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . [ ص: 259 ]

وفي شوال: وصل رسول السلطان بكتب تتضمن الدعاء للمواقف المقدسة ، والاعتذار من تأخره عن الخدمة ، وأنه بسعادة الخدمة فتح حلب ، وأنطاكية ، والرها ، وقلعة جعبر ، وطرفا من بلاد الروم ، وهو في أثر هذه الخدمة ، فخرج من بغداد النقيبان طراد والمعمر ، فخدماه بالموصل ، وتلاهما عفيف ، ثم ذوو المناصب ، فلما وصل الصالحين نفذ من الإقامات ما لا يحصى ، وخرج الموكب لتلقيه فتوجه الوزير أبو شجاع والنقيبان والجماعة والقراء والطبول والبوقات فبلغوه عن المقتدى [بأمر الله] السلام والتهنئة بالتقدم ، فقام وقبل الأرض ثم دخل بغداد .

التالي السابق


الخدمات العلمية