الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وقول الله بالجر عطف على حديث الإسراء . قوله : " سبحان " علم للتسبيح كعثمان علم للرجل ، وأصله للتنزيه ، والمعنى : أسبح الله الذي أسرى بعبده : أي أنزهه من جميع النقائص والعيوب . قوله : " بعبده " والمراد به النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإنما لم يقل برسوله أو نبيه ; إشارة إلى أنه مع هذا الإكرام الذي أكرمه الله تعالى ، وهذا التعظيم الذي عظمه الله به هو عبده ومخلوقه ; لئلا يتغالوا فيه ، كما تغالت النصارى في المسيح حيث قالوا : إنه ابن الله ، وكما تغالى طائفة من اليهود في عزير عليه الصلاة والسلام حيث قالوا : إنه ابن الله تعالى ، وتعظم أن يكون له ابن ، بل هو واحد أحد فرد صمد ، ليس بأب ولا بابن .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أسرى " مأخوذ من السرى ، وهو سير الليل ، يقال : أسرى وسرى إذا سار ليلا ، وكلاهما بمعنى واحد عند الأكثرين ، وقالالحوفي : أسرى سار ليلا ، وسرى سار نهارا ، وقيل : أسرى سار من أول الليل ، وسرى سار من آخره ، ومعنى أسرى به : أي جعل البراق ساريا به من المسجد الحرام وهو مسجد مكة إلى المسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ليلا " ظرف للإسراء ، وهو للتأكيد ، وفائدته دفع توهم المجاز ; لأن الإسراء قد يطلق على سير النهار كما ذكرناه ، ويقال : هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه ، والعرب تقول : أسرى فلان ليلا إذا سار بعضه ، وسرى ليله إذا سار جميعه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما الحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس ، ثم إلى السماوات ، فهلا أسري به من المسجد الحرام إلى السماوات ؟ .

                                                                                                                                                                                  قلت : ليجمع - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة بين رؤية القبلتين ، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله ، فرحل إليه ليجمع بين أشتات الفضائل ، أو لأنه محل المحشر ، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية ، وكان الإسراء إليه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هل كانت ليلة الإسراء هي ليلة المعراج أيضا ، أو هما متغايرتان ؟ .

                                                                                                                                                                                  قلت : قال ابن دحية : مال البخاري إلى أنهما متغايرتان ; لأنه أفرد لكل منهما ترجمة ، ورد عليه بأنه لا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما ; لأنه ترجم باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء ، والصلاة إنما فرضت في المعراج ، فدل على اتحادهما عنده .

                                                                                                                                                                                  قلت : فيه تأمل ، واختلف السلف في هذا ، فمنهم من ذهب إلى أنهما وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه - صلى الله عليه وسلم - بعد المبعث ، وهذا مذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين ، ومنه من ذهب إلى أن الإسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة ، ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كله وقع مرتين : مرة في المنام ; توطئة وتمهيدا ، ومرة ثانية في اليقظة ، فقالوا : الإسراء في اليقظة ، والمعراج في المنام ، والذين قالوا : الإسراء [ ص: 20 ] في ليلة ، والمعراج في ليلة أخرى ، وأنهما في اليقظة قالوا في الأول رجع من بيت المقدس ، وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع ، وفي الثاني أسري به إلى بيت المقدس ، ثم عرج به من ليلته إلى السماء إلى آخر ما وقع ، ومنهم من قال : بوقوع المعراج مرارا ، منهم الإمام أبو شامة ، واستندوا في ذلك إلى ما أخرجه البزار ، وسعيد بن المنصور من طريق أبي عمران الجوني ، عن أنس ، رفعه قال : " بينا أنا جالس إذ جاء جبريل عليه الصلاة والسلام ، فوكز بين كتفي ، فقمنا إلى صخرة مثل وكرى الطائر ، فقعدت في أحدهما ، وقعد جبريل في الآخر ، فارتفعت حتى سدت الخافقين " الحديث ، وفيه فتح لي باب من السماء ، ورأيت النور الأعظم ، قيل : الظاهر أنها وقعت في المدينة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية