الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

788 . وتعرف الصحبة باشتهار أو تواتر أو قول صاحب ولو      789 . قد ادعاها وهو عدل قبلا
وهم عدول قيل لا من دخلا      790 . في فتنة ، والمكثرون ستة
أنس ، وابن عمر ، والصديقة [ ص: 128 ]      791 . البحر ، جابر أبو هريرة
أكثرهم والبحر في الحقيقة      792 . أكثر فتوى وهو وابن عمرا
وابن الزبير وابن عمرو قد جرى      793 . عليهم بالشهرة العبادله
ليس ابن مسعود ولا من شاكله      794 . وهو وزيد وابن عباس لهم
في الفقه أتباع يرون قولهم

التالي السابق


هذه الأبيات تجمع ست مسائل :الأولى : فيما تعرف به الصحبة ، وذلك إما بالتواتر ، كأبي بكر ، وعمر ، وبقية العشرة في خلق منهم ، وإما بالاستفاضة والشهرة القاصرة عن التواتر ، كعكاشة بن محصن ، وضمام بن ثعلبة ، وغيرهما . وإما بإخبار بعض الصحابة عنه أنه صحابي كحممة بن أبي حممة الدوسي ، الذي مات بأصبهان مبطونا ، فشهد له أبو موسى الأشعري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حكم له بالشهادة ذكر ذلك أبو نعيم في تاريخ أصبهان . وروينا قصته في مسند أبي داود الطيالسي ، ومعجم الطبراني . على أنه يجوز أن يكون أبو موسى إنما أراد بذلك شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قتله بطنه وفي عمومهم حممة ، لا أنه سماه باسمه ، والله أعلم [ ص: 129 ] .

وإما بإخباره عن نفسه أنه صحابي بعد ثبوت عدالته قبل إخباره بذلك . هكذا أطلق ابن الصلاح تبعا للخطيب ، فإنه قال في الكفاية : وقد يحكم بأنه صحابي إذا كان ثقة أمينا مقبول القول ، إذا قال صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثر لقائي له ، فيحكم بأنه صحابي في الظاهر ، لموضع عدالته ، وقبول خبره ، وإن لم يقطع بذلك كما يعمل بروايته . هكذا ذكره في آخر كلام القاضي أبي بكر ، والظاهر أن هذا كلام القاضي ، قلت : ولا بد من تقييد ما أطلق من ذلك بأن يكون ادعاؤه لذلك يقتضيه الظاهر . أما لو ادعاه بعد مضي مائة سنة من حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لا يقبل وإن كانت قد ثبتت عدالته قبل ذلك ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : "أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن على ظهر الأرض" ، يريد انخرام ذلك القرن . قال : ذلك في سنة وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا واضح جلي . وقد اشترط الأصوليون في قبول ذلك منه أن يكون قد عرفت معاصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال الآمدي : فلو قال من عاصره أنا صحابي مع إسلامه ، وعدالته ، فالظاهر صدقه ، وحكاهما ابن الحاجب احتمالين من غير ترجيح ، قال : ويحتمل أن لا يصدق لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه .

الثانية : الصحابة كلهم عدول ، لقوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ ، ولقوله تعالى : [ ص: 130 ] كنتم خير أمة أخرجت للناس قيل : إن المفسرين اتفقوا على أنه وارد في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي سعيد الخدري : "لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ، ولا نصيفه" ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته أيضا من حديث ابن مسعود "خير الناس قرني" ، وقد سبق تفسير القرن في أول هذه الترجمة ، ولغير ذلك من الأحاديث الصحيحة ، ولإجماع من يعتد به في الإجماع من الأئمة على ذلك ، ثم إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم . وأما من لابس الفتن منهم - وذلك من حين مقتل عثمان - فأجمع من يعتد به أيضا في الإجماع على تعديلهم إحسانا للظن بهم ، وحملا لهم في ذلك على الاجتهاد .

هكذا حكى ابن الصلاح إجماع الأمة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم وفيه نظر ، فقد حكى الآمدي وابن الحاجب قولا : أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا ، [ ص: 131 ] وقولا آخر : أنهم عدول إلى وقوع الفتن ، فأما بعد ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة ، وذهبت المعتزلة إلى فسق من قاتل عليا منهم ، وقيل : يرد الداخلون في الفتن كلهم ; لأن أحد الفريقين فاسق من غير تعيين ، وقيل : يقبل الداخل فيها ، إذا انفرد ; لأن الأصل العدالة وشككنا في فسقه ، ولا يقبل مع مخالفه لتحقق فسق أحدهما من غير تعيين .

والذي عليه الجمهور كما قال الآمدي وابن الحاجب : إنهم عدول كلهم مطلقا . وقال الآمدي : إنه المختار ، وحكى ابن عبد البر في الاستيعاب إجماع أهل الحق من المسلمين ، وهم أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول .

الثالثة : المكثرون من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة : أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق ، وعبد الله بن عباس - وهو البحر - ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة ، وأكثر الستة حديثا أبو هريرة ، قال ذلك أحمد بن حنبل وغيره ، وأشرت إلى كون أبي هريرة أكثرهم حديثا ، بقولي : (أكثرهم) ، ولم يتعرض ابن الصلاح لترتيب من بعد أبي هريرة في الأكثرية ، وبعضهم مقارب لبعض . والذي يدل عليه كلام بقي بن مخلد : أن أكثرهم أبو هريرة ، روى خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا ، ثم ابن عمر ، روى ألفي حديث وستمائة وثلاثين ، ثم أنس ، روى ألفين ومائتين وستة وثمانين ، ثم عائشة روت ألفين ومائتين وعشرة ، ثم ابن عباس ، روى ألفا وستمائة وستين حديثا ، ثم جابر ، روى ألفا وخمسمائة وأربعين [ ص: 132 ] حديثا . وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف إلا هؤلاء ، وأبو سعيد الخدري ، فإنه روى ألفا ومائة وسبعين حديثا .

الرابعة : أكثر الصحابة فتوى عبد الله بن عباس ، قاله أحمد بن حنبل أيضا .

الخامسة : في بيان العبادلة من الصحابة ، وقيل لأحمد بن حنبل : من العبادلة ؟ فقال : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمرو ، قيل له : فأين ابن مسعود ؟ قال : لا ، ليس من العبادلة ، قال البيهقي : وهذا لأنه تقدم موته ، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم فإذا اجتمعوا على شيء قيل : هذا قول العبادلة .

وقولي : (وهو وابن عمر ) ، الضمير عائد على البحر ، وهو ابن عباس ; لأنه أقرب مذكور ، وما ذكر من أن العبادلة هم هؤلاء الأربعة ، هو المشهور بين أهل الحديث وغيرهم . واقتصر صاحب الصحاح على ثلاثة ، وأسقط ابن الزبير . وأما ما حكاه النووي في التهذيب : أن الجوهري ذكر فيهم ابن مسعود ، وأسقط ابن العاص ; فوهم ، نعم . . وقع في كلام الزمخشري في المفصل أن العبادلة : ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس وكذا قال الرافعي في الشرح الكبير في الديات ، وغلطا في ذلك من حيث الاصطلاح ، قال ابن الصلاح : ويلتحق بابن مسعود في [ ص: 133 ] ذلك سائر العبادلة المسمين بعبد الله من الصحابة ، وهم نحو مائتين وعشرين نفسا . أي : فلا يسمون العبادلة اصطلاحا ، وإلى ذلك أشرت بقولي : (ولا من شاكله) أي : ولا من أشبه ابن مسعود في التسمية بعبد الله .

وقول ابن الصلاح : أنهم نحو مائتين وعشرين كأنه أخذه من الاستيعاب لابن عبد البر ، فإنه عد ممن اسمه عبد الله مائتين وثلاثين ، ومنهم من كرره للاختلاف في اسم أبيه أو في اسمه هو ، ومنهم من لم يصحح له صحبة ، ومنهم من لم يرو وإنما ذكره لمعاصرته على قاعدته ; وذلك فوق العشرة فبقي نحو مائتين وعشرين ، كما ذكر ، ولكن قد ذكر الحافظ أبو بكر بن فتحون فيما ذيله على الاستيعاب مائة وأربعة وستين رجلا زيادة على ذلك ، وفيهم أيضا من عاصره ولم يره ، ومن كرره للاختلاف في اسمه أيضا ، واسم أبيه ، ومن لم تصح صحبته ، ولكن يجتمع من المجموع نحو ثلاثمائة رجل .

السادسة : في بيان من كان له من الصحابة أتباع يقولون برأيه ، قال ابن المديني : "لم يكن من صحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة : عبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقوله ، ويفتون الناس" . انتهى .

فقولي في البيت : (وهو) أي : ابن مسعود .




الخدمات العلمية