الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              3402 390 \ 3260 - وعن ابن أبي نعم ، وهو عبد الرحمن- قال حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله لمن الزرع؟ ولمن الأرض؟ فقال زرعي ببذري وعملي لي الشطر، ولبني فلان الشطر فقال أربيتما، فرد الأرض على أهلها، وخذ نفقتك

                                                              [ ص: 440 ] في إسناده: بكير بن عامر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض ".

                                                              وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه ".

                                                              وعنه قال " كان لرجال فضول أرضين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه ".

                                                              وعنه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ".

                                                              وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤجرها إياه ".

                                                              وفي لفظ آخر " من كانت له أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه ولا يكرها ".

                                                              وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان له فضل أرض فليزرعها، أو ليزرعها [ ص: 441 ] أخاه ولا تبيعوها "، قال سليم بن حبان: فقلت لسعيد بن ميناء: ما " لا تبيعوها يعني الكراء ؟ قال نعم ".

                                                              وعن جابر قال " كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصيب من القصري، ومن كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها ".

                                                              وعنه قال " كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث، أو الربع وبالماذيانات، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها ".

                                                              وهذه الأحاديث متفق عليها، وذهب إليها من أبطل المزارعة.

                                                              وأما الذين صححوها: فهم فقهاء الحديث كالإمام أحمد والبخاري وإسحاق والليث بن سعد وابن خزيمة وابن المنذر وأبي [ ص: 442 ] داود، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وهو قول عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة وابن سيرين وسعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومحمد بن عبد الرحمن ومعاذ العنبري وهو قول الحسن وعبد الرحمن بن يزيد.

                                                              قال البخاري في صحيحه: قال قيس بن مسلم عن أبي جعفر " ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع " قال البخاري: وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وعامل عمر الناس على " إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا "، وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فينفقان جميعا [ ص: 443 ] فما يخرج فهو بينهما، ورأى ذلك الزهري.

                                                              وحجتهم: " معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع " وهذا متفق عليه بين الأمة.

                                                              قال أبو جعفر " عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع ".

                                                              وهذا أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم، ولم يبق بالمدينة أهل بيت حتى عملوا به، وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده.

                                                              ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخا، لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به، فنسخ هذا من أمحل المحال.

                                                              وأما حديث رافع بن خديج: فجوابه من وجوه.

                                                              [ ص: 444 ] أحدها: أنه حديث في غاية الاضطراب والتلون.

                                                              قال الإمام أحمد: حديث رافع بن خديج: ألوان.

                                                              وقال أيضا: حديث رافع: ضروب.

                                                              الثاني: أن الصحابة أنكروه على رافع، قال زيد بن ثابت - وقد حكي له حديث رافع - " أنا أعلم بذلك منه، وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين قد اقتتلا، فقال إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع " وقد تقدم.

                                                              وفي البخاري: عن عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس " لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها ؟ قال: إن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها، ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما ".

                                                              فإن قيل: إن كان قد أنكره بعض الصحابة عليه، فقد أقره ابن عمر، ورجع إليه ؟

                                                              فالجواب: أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يحرم المزارعة، ولم يذهب إلى حديث رافع، وإنما كان شديد الورع، فلما بلغه حديث رافع خشي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في المزارعة شيئا لم يكن علمه، فتركها لذلك.

                                                              وقد جاء هذا مصرحا به في الصحيحين " أن ابن عمر إنما تركها [ ص: 445 ] لذلك ولم يحرمها على الناس ".

                                                              الثالث: أن في بعض ألفاظ حديث رافع ما لا يقول به أحد، وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق.

                                                              ومعلوم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن كرائها مطلقا، فدل على أنه غير محفوظ.

                                                              الرابع: أنه تارة يحدثه عن بعض عمومته، وتارة عن سماعه، وتارة عن ظهير بن رافع ، مع اضطراب ألفاظه، فمرة يقول " نهى عن الحقل "، ومرة يقول " عن كراء الأرض "، ومرة يقول " لا يكاريها بثلث، ولا ربع، ولا طعام مسمى "، كما تقدم ذكر ألفاظه.

                                                              وإذا كان حديث هكذا وجب تركه والرجوع إلى المستفيض المعلوم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده الذي لم يضطرب ولم يختلف.

                                                              الخامس: أن من تأمل حديث رافع، وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض وحمل مجملها على مفسرها ومطلقها على مقيدها علم أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد، وهو المزارعة الظالمة الجائرة، فإنه قال " كنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ".

                                                              وفي لفظ له " كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع " كما [ ص: 446 ] تقدم.

                                                              وقوله " ولم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه، وأما شيء مضمون معلوم فلا بأس "

                                                              وهذا من أبين ما في حديث رافع وأصحه، وما فيها من مجمل أو مطلق أو مختصر، فيحمل على هذا المفسر المبين المتفق عليه لفظا وحكما.

                                                              قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر إذا نظر إليه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز.

                                                              وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل.

                                                              فلا تعارض إذن بين حديث رافع وأحاديث الجواز بوجه.

                                                              السادس: أنه لو قدر معارضة حديث رافع لأحاديث الجواز، وامتنع الجمع بينها لكان منسوخا قطعا بلا ريب؛ لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين، ويستحيل نسخ أحاديث الجواز لاستمرار العمل بها من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي واستمرار عمل الخلفاء الراشدين بها وهذا أمر معلوم عند من له خبرة بالنقل كما تقدم ذكره فيتعين نسخ حديث رافع.

                                                              [ ص: 447 ] السابع: أن الأحاديث إذا اختلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد تقدم ذكر عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم وغيرهم من الصحابة بالمزارعة.

                                                              الثامن: أن الذي في حديث رافع: إنما هو النهي عن كرائها بالثلث، أو الربع لا عن المزارعة، وليس هذا بمخالف لجواز المزارعة، فإن الإجارة شيء والمزارعة شيء فالمزارعة من جنس الشركة يستويان في الغنم والغرم فهي كالمضاربة بخلاف الإجارة، فإن المؤجر على يقين من المغنم، وهو الأجرة والمستأجر على رجاء، ولهذا كان أحد القولين للمجوزين المزارعة: أنها أحل من الإجارة وأولى بالجواز؛ لأنهما على سواء في الغنم والغرم، فهي أقرب إلى العدل، فإذا استأجرها بثلث أو ربع كانت هذه إجارة لازمة، وذلك لا يجوز، ولكن المنصوص عن الإمام أحمد جواز ذلك.

                                                              واختلف أصحابه على ثلاثة أقوال في نصه.

                                                              فقالت طائفة: يصح ذلك بلفظ المؤاجرة ويكون مزارعة، فيصح بلفظ الإجارة كما يصح بلفظ المزارعة.

                                                              قالوا: والعبرة في العقود بمعانيها وحقائقها لا بصيغها وألفاظها.

                                                              قالوا: فتصح مزارعة، ولا تصبح إجارة وهذه طريقة الشيخ أبي محمد.

                                                              الثاني: أنها لا تصح إجارة ولا مزارعة.

                                                              أما الإجارة: فلأن من شرطها كون العوض فيها معلوما متميزا معروف الجنس والقدر، وهذا منتف في [ ص: 448 ] الثلث والربع.

                                                              وأما المزارعة: فلأنهما لم يعقدا عقد مزارعة.

                                                              إنما عقدا عقد إجارة وهذه طريقة أبي الخطاب.

                                                              الثالث: أنها تصح مؤاجرة ومزارعة، وهي طريقة القاضي وأكثر أصحابه.

                                                              فحديث رافع: إما أن يكون النهي فيه عن الإجارة دون المزارعة، أو عن المزارعة التي كانوا يعتادونها، وهي التي فسرها في حديثه.

                                                              وأما المزارعة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه من بعده فلم يتناولها النهي بحال.

                                                              التاسع: أن ما في المزارعة من الحاجة إليها والمصلحة، وقيام أمر الناس يمنع من تحريمها والنهي عنها؛ لأن أصحاب الأرض كثيرا ما يعجزون عن زرعها ولا يقدرون عليه، والعمال والأكرة يحتاجون إلى الزرع، ولا أرض لهم، ولا قوام لهؤلاء ولا لهؤلاء إلا بالزرع، فكان من حكمة الشارع ورحمته بالأمة وشفقته عليها، ونظره لهم: أن جوز لهذا أن يدفع أرضه لمن يعمل عليها، ويشتركان في الزرع هذا بعمله، وهذا بمنفعة أرضه، وما رزقه الله فهو بينهما، وهذا في غاية العدل والحكمة، والرحمة والمصلحة.

                                                              وما كان هكذا فإن الشارع لا يحرمه ولا ينهى عنه، لعموم مصلحته وشدة الحاجة إليه، كما في المضاربة والمساقاة، بل الحاجة في المزارعة آكد منها في المضاربة، لشدة الحاجة إلى الزرع إذ هو القوت والأرض لا [ ص: 449 ] ينتفع بها إلا بالعمل عليها بخلاف المال.

                                                              فإن قيل: فالشارع نهى عنها، مع هذه المنفعة التي فيها، ولهذا قال رافع " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا " ؟

                                                              فالجواب: أن الشارع لا ينهى عن المنافع والمصالح، وإنما ينهى عن المفاسد والمضار وهم ظنوا أن ذلك المنهي عنه منفعة، وإنما هو مضرة ومفسدة مقتضية للنهي، وما تخيلوه من المنفعة فهي منفعة جزوية لرب الأرض لاختصاصه بخيار الزرع وما سعد منه بالماء، وما على أقبال الجداول، فهذا - وإن كانت منفعة له - فهو مضرة على المزارع، فهو من جنس منفعة المربي بما يأخذه من الزيادة، وإن كان مضرة على الآخر.

                                                              والشارع لا يبيح منفعة هذا بمضرة أخيه،

                                                              فجواب رافع: أن هذا وإن كان منفعة لكم فهو مضرة على إخوانكم فلهذا نهاكم عنه.

                                                              وأما المزارعة العادلة التي يستوي فيها العامل ورب الأرض فهي منفعة لهما، ولا مضرة فيها على أحد، فلم ينه عنها،

                                                              فالذي نهى عنه مشتمل على مضرة ومفسدة راجحة في ضمنها منفعة مرجوحة جزوية، والذي فعله وأصحابه من هذه مصلحة ومنفعة راجحة، لا مضرة فيها على واحد منهما، فالتسوية بين هذا وهذا تسوية بين متباينين لا [ ص: 450 ] يستويان عند الله ولا عند رسوله.

                                                              وكذلك الجواب عن حديث جابر سواء.

                                                              وقد تقدم في بعض طرقه " أنهم كانوا يختصون بأشياء من الزرع من القصري ومن كذا ومن كذا.

                                                              فقال صلى الله عليه وسلم من كان له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه
                                                              "، فهذا مفسر مبين ذكر فيه سبب النهي، وأطلق في غيره من الألفاظ، فينصرف مطلقها إلى هذا المقيد المبين، ويدل على أن هذا هو المراد بالنهي.

                                                              واتفقت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتآلفت، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وبان أن لكل منها وجها، وأن ما نهى عنه غير ما أباحه وفعله، وهذا هو الواجب والواقع في نفس الأمر، والحمد لله رب العالمين.




                                                              الخدمات العلمية