الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن. فهو كما ثبت عنه في حديث عبد الله بن عمر حيث قال له " إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم.

                                                              فقال: لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها وتفرقتما وليس بينكما شيء ".


                                                              فجوز ذلك بشرطين:

                                                              أحدهما: أن يأخذ بسعر يوم الصرف، لئلا يربح فيها وليستقر ضمانه.

                                                              والثاني: أن لا يتفرقا إلا عن تقابض، لأنه شرط في صحة الصرف لئلا يدخله ربا النسيئة.

                                                              والنهي عن ربح ما لم يضمن قد أشكل على بعض الفقهاء علته، وهو من محاسن الشريعة. فإنه لم يتم عليه استيلاء، ولم تنقطع علق البائع عنه، فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه فإنما يقبضه على إغماض وتأسف على فوت الربح، فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها منه.

                                                              وهذا معلوم بالمشاهدة، فمن كمال الشريعة [ ص: 525 ] ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستولي عليه، ويكون من ضمانه، فييأس البائع من الفسخ، وتنقطع علقه عنه.

                                                              وقد نص أحمد على ذلك في الاعتياض عن دين القرض وغيره: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.

                                                              فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بمسألتين.

                                                              إحداهما: بيع الثمار بعد بدو صلاحها، فإنكم تجوزون لمشتريها أن يبيعها على رءوس الأشجار، ويربح فيها، ولو تلفت بجائحة لكانت من ضمان البائع، فيلزمكم أحد أمرين: إما أن تمنعوا بيعها، وإما أن لا تقولوا بوضع الجوائح، كما يقول الشافعي وأبو حنيفة، بل تكون من ضمانه فكيف تجمعون بين هذا وهذا ؟

                                                              المسألة الثانية: أنكم تجوزون للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة بمثل الأجرة وزيادة، مع أنها لو تلفت لكانت من ضمان المؤجر، فهذا ربح ما لم يضمن.

                                                              قيل: النقض الوارد إما أن يكون بمسألة منصوص عليها، أو مجمع على حكمها.

                                                              وهاتان المسألتان غير منصوص عليهما ولا مجمع على حكمهما، فلا يردان نقضا.

                                                              فإن في جواز بيع المشتري ما اشتراه من الثمار على الأشجار، كذلك روايتان منصوصتان عن أحمد.

                                                              [ ص: 526 ] فإن منعنا البيع بطل النقض، وإن جوزنا البيع - وهو الصحيح - فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك.

                                                              فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه من بيعها أضررنا به، ولو جعلناها من ضمانه إذا تلفت بجائحة أضررنا بها أيضا، فجوزنا له بيعها؛ لأنها في حكم المقبوض بالتخلية بينه وبينها، وجعلناها من ضمان البائع بالجائحة؛ لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه، فلما كانت مقبوضة من وجه غير مقبوضة من وجه رتبنا على الوجهين مقتضاهما، وهذا من ألطف الفقه.

                                                              وأما مسألة الإجارة: فاختلفت الرواية عن أحمد في جواز إجارة الرجل ما استأجره بزيادة على ثلاث روايات:

                                                              إحداهن: المنع مطلقا، لئلا يربح فيما لم يضمن وعلى هذا فالنقض مندفع.

                                                              والثانية: أنه إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة، وإلا فلا؛ لأن الزيادة لا تكون ربحا بل هي في مقابلة ما أحدثه من العمارة.

                                                              وعلى هذه الرواية أيضا فالنقض مندفع.

                                                              والثالثة: أنه يجوز أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها مطلقا، وهذا مذهب الشافعي، وهذه الرواية أصح.

                                                              فإن المستأجر لو عطل المكان وأتلف منافعه بعد قبضه لتلفت من ضمانه، لأنه قبضه القبض التام، ولكن لو [ ص: 527 ] انهدمت الدار لتلفت من مال المؤجر لزوال محل المنفعة فالمنافع مقبوضة،ولهذا له استيفاؤها بنفسه وبنظيره، وإيجارها والتبرع بها، ولكن كونها مقبوضة مشروط ببقاء العين، فإذا تلفت العين زال محل الاستيفاء، فكانت من ضمان المؤجر.

                                                              وسر المسألة: أنه لم يربح فيما لم يضمن، وإنما ربح فيما هو مضمون عليه بالأجرة.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية