الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس ولم يشاهد إبليس ولا حدثه بذلك فاعلم أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة وتارة في اليقظة على سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة كما يكون في المنام وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوة العالية كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

التالي السابق


(فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله) ، أي هذه الحكاية التي أوردها عن إبليس، من أين مأخذها؟ (و) ذلك فإنه معلوم قطعا بأنه (لم يشاهد إبليس ولا حديثه بذلك) في نشر جنوده، (فاعلم أن) هذا وأمثاله يعد في جملة مكاشفات أرباب القلوب; لأن (أرباب القلوب) الصافية (يكاشفون بأسرار الملكوت) ويشاهدونها، والملكوت ما بطن من الكون ولا تدركه الحواس الخمس، ولا يقبل القسمة والتجزي، ويقابله الملك، ويعبران بالغيب والشهادة أيضا، (تارة على سبيل الإلهام) الرباني، (بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون) ، وهو صنف من أصناف الوحي الثلاثة، (وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة) في النوم، وهو أيضا صنف من أصناف الوحي التسعة، (وتارة في اليقظة على سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة) وذلك فإن الإنسان إذا ارتقى من قوة الحس إلى قوة التخيل، ومنها إلى قوة الفكر، ومنها إلى إدراك حقائق الأمور التي في العقل، وهذي القوى متصلة اتصالا روحانيا، فربما عرض لها من قوة قبول بعضها من بعض الآثار، أن ينعكس في بعض الأمزجة منحطة، كما تصاعدت على سبيل الفيض فيؤثر حينئذ العقل في القوة الفكرية، والقوة الفكرية في القوة المتخيلة، وتؤثر المتخيلة في الحس، فيرى الإنسان أمثلة الأمور المعقولة، أعني حقائق الأشياء ومباديها وأسبابها، كأنها خارجة عنه، وكأنها يراها ببصره، ويسمعها بأذنه، (كما يكون في المنام) أي كما أن النائم يرى أمثلة الأشياء المحسوسة في القوة المتخيلة، ويظن أنه يراها من خارج، وربما كانت صحيحة مبشرة أو منذرة في المستأنف، وربما رأى الأمور بأعيانها، من غير تأويل، وربما رآها مرموزة تحتاج إلى تأويل، كذلك حال هذا المستيقظ إذا استقرت فيه هذه القوة العالية أخذته عن المحسوسات حتى كانت غابت عنها فيشاهد في القوة المتخيلة ما انحدر إليها من علو الخفا بإرادة الله إياه إلى العقل، ومن العقل إلى الفكر، ومن الفكر إلى المتخيلة، ويسمع ما لا يشك فيه، وتلك الأمور ليست في زمان فمستقبلها وماضيها واحد; لأنها حاضرة معا فالأمور لائحة فيه له، فيشاهد مستقبلها كما يشاهد ماضيها، وإذا أخبر بها كانت صحيحة، وكانت وحيا، والله أعلم .

(وهذا أعلى الدرجات) ; لأنه من مقام الأنبياء وهو غاية شرف الإنسانية والأفق الأعلى منه فلم يبق له الارتقاء من هذا المقام، بسعيه وجهده بل تنحط إليه الأمور الإلهية، والجذبات الربانية وحيا وإلهاما، (وهي من درجات النبوة العالية) الشأن والقدر، (كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) ، أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه، عن ابن عمر والإمام أحمد أيضا عن ابن عباس، ولفظهم: الرؤيا الصالحة، وقد تقدم تخريج هذا الحديث في أول الكتاب، واعلم أن الإنسان إذا [ ص: 446 ] جعل أقصى سعيه بما يستفيده من حواسه ترقية قواه إلى ما يقرب من الرب عز وجل بطريق الرياضات النفسانية، والمجاهدات الشرعية، أيده الله تعالى بحقيقة الضد واستكملت صورة الإنسانية فيه وتصورت نفسه بحقائق الأشياء فيبلغ في هذه المرتبة متصاعدا فيها إلى فيها إلى آية أفقه التي إن تجاوزها لم يكن إنسانا بل صار ملكا كريما إلى أن تدركه العناية الأزلية وتهب نفحات ألطاف الحق فتنخرق الحجب النورانية، ويشاهد الأنوار الربانية، ويتقوى بقوة لم تكن في استعداد الإنسان مجبولة تسمى خفيا لأنها كانت متمكنة لم يخرجها من القوة إلى الفعل إلا سطوات الأنوار الربانية، فبالارتقاء إلى مقام الخفي يستعد للترقي من أواخر الأفق الإنساني إلى أوائل آفاق ما فوقها، فيستعد لقبول الفيض الرباني بلا واسطة، وهذا مقام الأنبياء بأن ينبئه الحق تعالى بإراءة آياته في آفاق نفسه عما يشاء كما يشاء، أما الأولياء بالإلهام، وأما الأنبياء بالوحي بحسب استعداد كل واحد منهم .

وقد ذكرنا آنفا أن الإلهام صنف من أصناف الوحي الثلاثة، الرؤيا الصادقة صنف من أصناف الوحي التسعة، فربما تتشوف نفسك إلى معرفة ذلك تفصيلا، فاعلم أن الله جل شأنه جعل أقسام كلامه مع عباده ثلاثة وحيا بلا واسطة، وكلاما من وراء حجاب وإرسال الرسول وهو جبريل عليه السلام، وغيره من الملائكة .

ثم جعل أصناف الوحي ثلاثة: وحيا للعجماء بالإجراء والتسخير، ووحيا للأولياء بالإلهام، ووحيا للأنبياء تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، ولكل ذلك أمثلة وأدلة ليس هذه محل ذكرها .

وقال بعض الحكماء الإسلاميين: إن أصناف الوحي يجب أن يكون بعد أصناف قوى النفس، وذلك أن الفيض الذي يأتي النفس، إما أن تقبله بجميع قواها، أو ببعضها، وقوى النفس تنقسم إلى قسمين، وهما الحس والعقل، وكل واحد من هذين ينقسم إلى أقسام كثيرة، وأقسامها إلى أقسام كثيرة، حتى ينتهي إلى الجزئيات، التي لا نهاية لها، وإنما عرض هذا الانقسام بحسب الآلات والمدركات الكثيرة، فأما قواها التي هي الحواس، فمنها ما هو في أفق الحيوان البهيمي، ومنها ما هو في أفق الإنسان، وأعلاها مرتبة ما هو في أفق الإنسان، أعني حس البصر، والسمع، إلى آخر ما ذكره وأيد به قوله .

وأما ما جاء على لسان العلم من أصناف الوحي على نبينا صلى الله عليه وسلم، فمنها الرؤيا الصالحة، ومنها ما يبدو في اليقظة فيسمع صوتا، أو يرى ضوءا، ومنها ما يرى ملكا فيكلمه، ومنها ما يظهر الملك في أفق الملكية، ومنها ما ينفث الملك في الروع، ومنها ما نزل به جبريل على قلبه، ومنها ما يلقيه الله في القلب من غير واسطة، ومنها ما يأتي الملك متمثلا في صورة إنسان، ومنها ما كان سرا بينه وبين ربه، فلم يحدث به أحدا، ومنها ما يحدث به الناس، وذلك على صنفين، فمنه ما كان مأمورا بكتبه قرآنا، ومنه ما لم يكن مأمورا بكتبه قرآنا فلم يكن قرآنا، والله أعلم .




الخدمات العلمية