الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فاكتبوه ) فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما : الكتابة وهي قوله ههنا ( فاكتبوه ) الثاني : الإشهاد وهو قوله : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : فائدة الكتابة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل ، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ، ويدخل فيه الجحد ، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين ؛ لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين ، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه ، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه ، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري ، وقال النخعي : يشهد ولو على دستجة بقل ، وقال آخرون : هذا الأمر محمول على الندب ، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين ، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد ، وذلك إجماع على عدم وجوبهما ، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " وقال قوم : بل كانت واجبة ، إلا أن ذلك صار منسوخا بقوله ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) [ البقرة : 283] وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة ، وقال التيمي : سألت الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : ( فإن أمن بعضكم بعضا ) واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتابة شرطين :

                                                                                                                                                                                                                                            الشرط الأول : أن يكون الكاتب عدلا وهو قوله : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) واعلم أن قوله تعالى : ( فاكتبوه ) ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكن ، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتبا ، فصار معنى قوله : ( فاكتبوه ) أي لا بد من حصول هذه الكتابة ، وهو كقوله تعالى : (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء ) [ المائدة : 38] فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل ، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إما الإمام أو نائبه أو المولى ، فكذا ههنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتابة من أي شخص كان .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( بالعدل ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : إذا كان فقيها وجب أن يكتب بحيث لا يخص [ ص: 97 ] أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها ، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيها عارفا بمذاهب المجتهدين ، وأن يكون أديبا مميزا بين الألفاظ المتشابهة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية