الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الخطاب التربوي الإسلامي

الأستاذ الدكتور / سعيد إسماعيل علي

لماذا إسلامية «الخطاب التربوي»؟

ولعلها الضرورة التي تفرض أن نطرح هـذا التساؤل في بدايات الدراسة، مع أن أسلافنا من علماء الأمة لم يجدوا أبدا ضرورة لمثل هـذا التساؤل الذي يفرض إضافة صفة «الإسلامية» إلى عناوين ما يكتبونه من أوراق وكتب ورسائل، وهكذا لا نجد الإمام أبا حامد الغزالي يسمي كتابه الموسوعي الشهير (إحياء علوم الدين) بـ «الإسلامي»، كما لم نجد أيا من المربين، عندما يتحدث عن «آداب المعلمين» مثل القابسي ، أو «آداب المتعلمين» عند آخرين، إلى إضافة «الإسلاميين» أو «عند المسلمين»؛ ذلك لأن التوجه العام للثقافة والحضارة في تلك الأزمنة كان هـو العقيدة الإسلامية، وكانت الأمة هـي الأمة الإسلامية.

لكن الوضع الآن اختلف، فعلى الرغم من أننا نعيش مجتمعات إسـلامية، لكن الذي يكتب في المجال الإسلامي أو من منظور إسلامي يجد نفسه مضطرا إلى أن يعلن ذلك على رأس خطابه، حيث لم تصبح العقيدة عند بعض المسلمين وبعض البلدان الإسلامية اتجاها «أيديولوجيا» ، وهو الأمر الذي قد يفسر الفرق في الاستخدام المصور للواقع بين «مسلم» و «إسلامي»، على اعتبار أن المصطلح الأول يشير إلى مجرد انتماء الإنسان إلى العقـيدة الإسلامية، أما الثاني فيشير إلى اعتبار الإسلام «نهجا مجتمعيا»، أو وفقا للمصطلح المعاصر «أيديولوجيا». [ ص: 33 ] بل إن المسألة تزداد إلحاحا في الحقل التربوي، حيث إن « الخطاب التربوي » على وجه الخصوص يعاني من إنكار وجود «الإسلامية» بين كثرة لا ينبغي أن تنكر من العاملين في المجال التربوي، وبالتالي، فكيف يمكن لنا أن نضمن هـذه الدراسة جزءا خاصا بكيفية التعامل مع (الآخر) مثلا، خاصة وأن القطاع الإسلامي في هـذا (الآخر) لا يعترف أصلا بوجود خطاب تربوي إسلامي؟ إن نقطة البدء هـنا هـو الانطلاق من مسلمة يسلم بها العاملون في العلوم التربوية، ألا وهي أن العملية التربوية هـي مجموعة من الإجراءات التنفيذية التي تستهدف بناء إنسان بمواصفات معينة، وهي بهذا المعنى لا بد أن ترتكز إلى تصور كلي يحدد هـذه المواصفات، وقبل ذلك يحدد الهدف من بناء هـذا الإنسان، ثم يوجه النظر إلى كيفية نقل هـذه المواصفات من مستوى التصور النظري والأمل المحلق إلى مستوى الفعل والتنفيذ. ولقد كانت عناية فلاسفة التربية على مر العصور هـي تحديد مثل هـذا التصور الكلي العام، منذ أن بدأ فيلسوف الإغريق الشهير «أفلاطون» ذلك في كتابه (الجمهورية) ، كى يتوالى بعده المفكرون والفلاسفة، مثل «أرسطو» في (السياسة) و «جان جاك روسو» في (إميل) ، وغير هـذا وذاك مما يصعب حصره في هـذه الدراسة المحدودة. وعندما نجد في الكتابات التي ترصد اتجاهات الفكر التربوي، منذ القدم، حتى الآن، وصفا لاتجاه بأنه مثالي أو واقعي، أو طبيعي، أو تجريبـي، أو مسيحي، أو يهودي، أو براجماتي ، أو ماركسي ، أو وجودي ، أو تحليلي ، [ ص: 34 ] أو نفسي... إلخ، فإنما يعني هـذا استناد التربية إلى إطار فكري عام.. ولنسمه ما شئنا: فلسفة، مذهب، عقيدة، أيديولوجيا ، فالفكرة واحدة، ألا وهي الانطلاق من تصور فكري كلي شامل يرسم الخطوط العريضة لبناء شخصية الإنسان كما ينبغي أن يكون.

فما الغريب، اتساقا مع هـذا، أن ينطلق بعضنا من عقيدته الإسلامية ليستنبط تربية إسلامية تسعى إلى صياغة الشخصية الإنسانية بما يتفق والتصور الإسلامي، على أساس الإيمان بأن خالق الإنسان هـو الأدرى والأعلم بكيفية بناء شخصيته؟ هـناك الدعوة الشهيرة، بأن وصف هـذه التربية بأنها «إسلامية» يحمل اتهاما للتصورات التربوية الأخرى بأنها غير إسلامية، وهذا مردود عليه، فوصف حزب مثلا بأنه «وطني» لا يعني اتهام الأحزاب الأخرى بأنها غير وطنية، ووصف حزب آخر بأنه «تقدمي» لا يعني اتهام الأحزاب الأخرى بأنها متخلفة، بل إن وصفنا لشخص بأنه على خلق كريم، لا ينبغي أن يحمل على أنه اتهام لغيره بأنه على خلق غير كريم. وهناك من بلدان العالم العربي والإسلامي من يدرس لأبنائه مقررا باسم «التربية الوطنية»، ولا يقع في وهم أحد أن وجود هـذا المقرر يعني أن غيره من المقررات مثل اللغات والعلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية غير وطنية !! أما القول: بأن العلم لا جنسية له، فهذا صحيح فيما يتصل بالعلوم التي تقع خارج نطاق العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة، والتربية بصفة خاصة. إن الفيزياء في روسيا لن تختلف عن الفيزياء في مصر أو في الولايات المتحدة الأمريكية [ ص: 35 ] المتحدة الأمريكية إلا من حيث «الموضوعات» و «درجة التقدم»، وهكذا الأمر بالنسبة للرياضيات والكيمياء وما شابه هـذه العلوم. لكن الأمر لا بد أن يختلف عندما نكون بصدد تربية الإنسان، فلا يمكن لإنسان أن يقوم بالعمل التربوي من أجل تشكيل جانب من جوانب شخصية فرد آخر إلا إذا كان يعمل وفق «نموذج فكري» أو «تصور نظري»، فإذا أردنا أن نصمم منهجا دراسيا على سبيل المثال، فإن مثل هـذا العمل لا يتم إلا في ضوء خريطة عامة تجيب عن السؤال الشهير: ماذا نعلم؟ لكننا إزاء هـذا السؤال نتردد في الإجابة قبل أن نجيب عن سؤال يسبقه هـو: لماذا نعلم؟ وإذا تساءلنا: لماذا نعلم، نجد أنفسنا أمام قضية «الهوية» و «النموذج الفكري» الذي يرشدنا إلى ما نعلمه.

وهناك من يرددون القول: بأن الاستناد إلى منطلق ديني يجعل النقد والمناقشة محفوفة بالمخاطر، إذ قد يتعرض الناقد إلى الاتهام بالكفر، وخاصة إذا اتصلت التربية بمصدري الإسلام الأساسين: القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا أيضا مردود عليه بالإشارة إلى الاختلافات الشهيرة بين المذاهب الفقهية الكبرى، إذ انطلق كل فقيه بخالص عقله، وإخلاص قلبه، يقرأ النص الديني، يفهمه بما قدره الله له من الاستعدادات الإدراكية، وظهر كثيرون يعارضونه دون أن يتهم أحد الآخر بالكفر. وإذا كان هـذا في مجال القضايا الفقهية، التي يتصل معظمها بالحلال والحرام، فما بالنا بالقضايا التربوية، وكثرتها من الشئون المعاشية التي تخضع كثيرا لمتغيرات الزمان والمكان، بحيث لا تقع هـذه الكثرة تحت طائلة التحريم [ ص: 36 ] أو التحليل؟! فإن يرى مفكر أن طريقة كذا هـي الأنسب في التعليم، بينما يرى آخر أن طريقة غيرها هـي الأنسب، لا يحملنا بأي حال من الأحوال على أن نتهم أيهما بالكفر؛ لأنه خالف الآخر! وأن يرى مفكر أن علم كذا من الأفضل أن يتم تدريسه في المرحلة الابتدائية بدلا من الثانوية أو العكس، لا يتيح لأحدهما أن يتهم مخالفه بأنه قد انحرف عن صحيح الدين!! صحيح أننا لا نستطيع أن ننكر أن هـناك من يمكن أن ينهضوا بمثل هـذا الموقف المضاد للتفكير، لكنهم عادة ما يشكلون «نتوءات» تخرج عن حد الاعتدال والوسطية التي عرف بها الإسلام، وهو الأمر الذي لم يخل منه مجتمع على مر التاريخ. ولعل مربط الفرس في كثير من المجادلات التي تسير على هـذا الطريق، سواء في مجال التربية أو في غيرها، هـو نظرة هـذا الطرف وذاك إلى الإسلام، ذلك أننا نجد الموقف نفسه على وجه التقريب عندما يكون موضوع الحديث في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في الفن، أو في الأدب.. إلخ، فالناظر إلى الإسلام باعتباره علاقة خاصة بين الفرد وربه تتمثل في أداء العبادات، يرى بناء على ذلك أن المعاملات الدنيوية إنما هـي شأن بشري صرف للإنسان أن يصرفه وفقا لرؤاه وخبراته ومصالحه، متغير من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان.

وما هـكذا تكون نظرتنا –مع ملايين من المسلمين– إلى الإسلام، تلك التي تقوم على اعتبار أنه «منهج حياة» إذ يتجاوز حدود الزمان والمكان في ثوابته المتفق عليها، يترك مساحات واسعة لإعمال الرأي والعقل وفقا لمتغيرات الزمان والمكان بحيث لا تتعارض مع الأصول والثوابت. [ ص: 37 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية