الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
نماذج من الخطاب

نعرض في الجزء الحالي عددا من نماذج مختلفة من أشكال « الخطاب التربوي الإسلامي »، وهي:

- كتب مدرسية.

- أطروحات علمية لنيل درجة الماجستير .

- حلقة مناقشة بين خبراء في التربية الإسلامية.

ونبدأ بالفئة الأولى...

هنا نجد بين أيدينا كتبا مدرسية في التربية الإسلامية لمرحلة التعليم الأساسي في دولتين من الدول العربية الإسلامية نشير إليها باعتبارها «أمثلة» لنوع واحد من «الخطاب التربوي الإسلامي»:

ففي كتاب الصف السادس ( الأردن ) ، نجد من دروس الفقه المقدمة موضوعا عن (ثبوت شهر رمضان) ، حيث يجيء بالكتاب ما هـو معتاد في مثل هـذا الشأن من أنه «تثبت رؤية هـلال شهر رمضان بشهادة مسلم واحد في الأقل ممن يوثق بدينه».

ولا نريد أن نقف موقف فقيه يفتي، فلسنا من أهل الاختصاص في هـذا الشأن، ولكننا نتساءل عن إغفال هـذا «الخطاب» للطرق العلمية الحديثة في رؤية هـلال شهر رمضان؟ لا نقصد بطبيعة الحال تفصيلا لما يقوم به علماء [ ص: 68 ] الفلك، ولكننا نقصد الإشارة العامة، بحيث يتعلم التلميذ أن العلم قد استطاع أن يصل إلى تحديد دقيق في هـذا الشأن، وأن المسلمين لا يخاصمون العلم، فالعلم إنما يرصد سنن الله في خلقه، وكلما كشف الإنسان عن سنة من هـذه السنن زاد إيمانه عمقا ورسوخا، وهذا ما تدعو إليه آيات قرآنية عديدة عندما يدعو الله سبحانه وتعالى مخلوقه الإنسان أن ينظر ويتأمل ويتفكر في مظاهر الكون المختلفة، على أساس أن مثل هـذا التأمل والنظر والتفكر يوقفه على عظمة الخالق بناء على أن التيقن من روعة المخلوق تؤدي بالضرورة إلى التسليم بعظمة الخالق.

وفي الكتاب نفسه نجد وحدة دراسية كاملة عن بعض القيم والفضائل الأخلاقية، وهذا أمر جيد في حد ذاته، لكننا نجد الحديث عنها وكأن هـذه القيم مصابيح معلقة في الفضاء، لا يبين «الخطاب» علاقات التفاعل بينها وبين المتغيرات المجتمعية. وعلى سبيل المثال جميل أن يتناول الكتاب قيمة مثل قيمة (الرحمة) وبيان أهميتها وآثارها ومشروعيتها، وأن يسوق أمثلة من السلوك القائم عليها من حياة سلفنا الصالح، لكن ماذا عن الوضع في أيامنا هـذه؟ ألسنا نلمس تراجعا مخيفا للرحـمة كقـيمة أخـلاقية عليا؟ ترى ما المتغيرات المجتمعية سياسيا واقتصاديا وثقافيا التي أدت إلى ذلك؟ هـنا سوف نجد أهمية التطرق إلى ما يغلب على مجتمعاتنا من نزعات استهلاكية وخاصة في غير الضروريات، مما يشكل ضغطا مستمرا على كثيرين في أهمية الكسب المادي حتى يمكن أن يلاحق ما أصبح يشبه «السعار» الاستهلاكي، ويترتب [ ص: 69 ] على ذلك ارتفاع مستمر في القيم المادية، وبالتالي تراجع في القيم غير المادية، وتسير جماعات بسرعة مؤسفة نحو «الأثرة» بدلا من الإيثار ... وهكذا. وفي كتاب التربية الإسـلامية للصف السـابع ( الأردن ) يقدم، ضمن ما يقدم درسا عن أساليب الرسول (في مواجهة قريش ) ، ويستنتج من هـذه الأساليب دروسا منها:

1- تقديم الأدلة والبراهين المادية والعقلية في الدعوة إلى الله.

2- الصبر والثبات في تحمل الصعوبات التي تواجه الداعية.

3- رفض كل المغريات المادية التي تصرف الداعية عما يدعو.

وجميل جدا أن يدير نص «الخطاب» درسـا حول هـذه المبادئ، لكننا ما دمنا في نطاق كتاب مدرسي، وليس كتابا عاما، يكون من الأجمل حقا تضمين الدرس ما يوثق العلاقة بين ما يحمله موروثنا الإسلامي في هـذا الشأن، من خلال طرف من سيرة الرسول، وحياة التلاميذ المعاصرة، خاصة وأن الاتهامات تتكاثر على المسلمين في أيامنا هـذه بأن هـناك مفارقة بين الدين الإسلامي وممارسات المسلمين، وبين التفكير القائم على الأدلة المنطقية والبراهين العقلية. وكذلك فإن ما يواجهه المسلمون في عصرنا الحالي من صور متعددة للهجوم والاعتداء وتشويه الحقائق لا ينبغي أن يبث في قلوبنا رعبا ويأسا خوفا من ألا نستطيع مواجهة هـذه القوة العاتية الباغية التي استكبرت في الأرض تريد أن تسيرنا على حيث تريد. كذلك يقدم الكتاب درسا عن (الوقت في الحياة الإسلامية) ، وهو من الموضوعات التي وفق في إيرادها إلى حد كبير نظرا لما أصبح مسلما به من أن [ ص: 70 ] الوقت شكل من أشكال «الثروة»، وأنه ينفرد عن كافة أشكال الموارد بأن كلا منها يمكن تعويضه، أما هـو فهذا مستحيل.

لكن الكتاب اكتفى -كالعادة- ببيان بعض جـوانب القـضية، كما تبدت في سنوات الإسلام الأولى، دون أن ينتهزها فرصة ليعرج على حياتنا المعاصرة، كاشفا للتلاميذ صورا لتبديد الوقت عند كثير من أبناء أمتنا. كذلك فإن تناول الوقت من المفروض أن يتصل اتصالا وثيقا بجملة المتغيرات المجتمعية، حيث فرض المجتمع الزراعي مضمونا وتعاملا ما مع الوقت، وهو الأمر الذي يختلف إلى حد كبير عنه في المجتمع الصناعي.

وعند تناول الكتاب لموضوع ( صلاة الكسوف والخسوف ) وفق في إيراد حديث رسول الله عندما كسفت الشمس في اليوم الذي توفي فيه ابنه (إبراهيم) وظن الناس أن هـناك علاقة سببية بين الأمرين، فقال النبي: ( الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله... ) ، فالكتاب يورد هـذا الحديث لبيان أنه يؤكد ضرورة الصلاة وقتها، لكنه لا ينتهز هـذه الفرصة ليؤكد على جانب آخر بالحديث ألا وهو هـذه النـزعة العلمية الواضحة التي تحرص على الابتعاد عن النـزعات الخرافية التي تربط بين ظاهرتين ليس بينهما ارتباط سببـي، إذ إن مثل هـذا النظر العلمي، نحن أشد ما نكون حاجة إليه، فضلا عن إذاعته بين الآخرين للتأكيد على «علمية» الإسلام، وهذا بعد مهم من الأبعاد التربوية التي لا بد من التأكيد عليها. [ ص: 71 ]

وفي كتاب التربية الدينية الإسلامية للصف الثاني الإعدادي بمصر (الفصل الدراسي الأول) نجد أنه، بينما ينص في مقدمة الوحدة الأولى الخاصة بالقرآن الكريم على أهمية أن يتدبر الطالب معانيه، إلا أنه عندما يورد نصا لسورة الفرقان، نجده يحفل بتوضيح بعض الكلمات، لكنه يترك الكثير بدون توضيح لمعناها، مثل كلمات: ( ثبورا ) ، ( عتوا ) ، ( تبرنا ) ... ومن شأن هـذا أن تغمض معاني الآيات المتضمنة مثل هـذه الكلمات على الطالب.

وقد كان من الممكن أن يترك مثل هـذه الكلمات بغير شرح منه، لكن، في الوقت نفسه يوجه التلاميذ إلى أن يبحثوا بأنفسهم عن معناها في مصادر يرشدهم إليها، وهذا هـو الأسلم؛ لأنه بذلك يدربهم على «التعلم الذاتي»، ومهارة من مهارات البحث العلمي.

والشيء نفسه يتكرر بالنسبة للمستشهد به من سورة الأنعام.

والكتاب يحسن بالفعل تضمينه موضوعا يبين أن الإسلام هـو منهج الله للعالمين، خاصة وأنه يحرص على إبراز عدد من المعاني الأساسية التي يتعلمها الطالب من مثل هـذا الدرس، مثل: محاربة التطرف، حقوق الإنسان، الموارد وحسن استخدامها.

لكن الغريب أنه بقراءة النص المكتوب، لا نلمس إشارات صريحة إلى مثل هـذه القضايا، بل إن الآيات القرآنية المستشهد بها لا تتضمنها، وهو الأمر الذي تكرر في مواضع عدة، فهل مثل هـذه القضايا التي يعلن الكتاب أنها متضمنة في الدرس، يتركها للمعلم كي يوجه إليها المناقشة مع الطلاب؟ [ ص: 72 ] والأمر الذي يثير الدهشة أكثر هـو ما أعلنه الكتاب في الدرس الخاص بـ (يسر الإسلام في الصلاة) من قضايا مثل: السياحة وتنمية الوعي السياحى، احترام العمل وجودة الإنتاج، الصحة الوقائية والعلاجية - البيئة والمحافظة عليها، إذ لا نجد في محتويات الدرس شيئا من هـذا، إلا إذا كانت وظيفة هـذا الإعلان مجرد المسايرة لأفكار ترددها أجهزة الدولة وأجهزة الإعلام، وهو أمر لا غبار عليه في حد ذاته، شريطة ألا يكون هـناك لي لذراع النصوص.

وكتاب الصف الثالث الإعدادي (الفصل الدراسي الثاني) في مصر أيضا، يتضمن نصا مطولا من سورة الحج للتلاوة والاستماع، وفي موضع آخر خاص بالعبادات يفصل القول في الحج وحكمته وأركانه وأحكامه، وقد يكون السبب في هـذا أن يكون هـناك ارتباط بين الجزئين، لكن الحقيقة أنه بذلك يقع في سلبية التكرار، مما كان يفضل معه أن يكون نص التلاوة والاستماع من سورة أخرى فتزداد المعرفة الدينية لدى الطالب، خاصة وأن حجم الكتاب صغير للغاية، لا يتجاوز الستين صفحة، «ببنط» كبير نسبيا، فضلا عن الصور والرسوم. وننتقل بعد ذلك إلى الفئة الثانية...

وبالنسبة للأطروحات العلمية فسوف نعرض فيما يلي لثلاث أطروحات في التربية الإسلامية كان لي حظ مناقشتها، في كلية الشريعة بجامعة اليرموك بالأردن . وبداية فهذا أمر محمود بالفعل أن تلتفت كلية [ ص: 73 ] متخصصة في علوم الدين بأن يكون من برامجها برنامج في التربية الإسلامية، لكن المشكلة هـنا أن شكوى علماء الدين من أن باب «الفتوى الدينية» في السنوات الأخيرة قد جرؤ عليه من لم يتخصصوا في علوم الدين، تبرز لنا القضية نفسها بوجه آخر وهو أن بعض الإخوة الأعزاء من علماء الدين، حتى يبيحوا لأنفسهم أهلية تناول قضايا التربية ومشكلاتها، قد نظروا إلى التربية من منظور تصل به درجة الاتساع الحد الذي يجعلها تشمل كل شيء في الحياة، ناسين أن الأصل كان هـكذا في بداية الأمر، لكن التخصص المعرفي قد تناول الكثير من المجالات بحيث وجب أن تختص التربية بمجال بعينه، فها قد أصبحت هـناك علوم للإعلام، التي تقوم بدور تربوي ملحوظ، وأصبحت هـناك دراسات متخصصة في الدعوة، التي تشارك أيضا بمهام تربوية، وهناك علوم، وليس علم واحد، تتناول الأسرة من جوانبها المختلفة، والأسرة كما نعلم هـي الوسيط التربوي الأكثر أهمية... وهكذا.

من هـنا فقد أصبح لزاما على المتحدث في التربية أن يركز على المشكلات والقضايا المتصلة بالنظام التربوي، وخاصة في مؤسسات التعليم، دون أن يعني هـذا تصور وجود حواجز بين النظام التربوي وغيره من النظم المجتمعية الأخرى؛ ذلك لأن من الضـروري الوعي بأن فهم النظام التربوي لا يستقيم إلا في ظل فهم هـذه النظم المجتمعية الأخرى، ولكن هـذا الوعي بالعلاقة التفاعلية بين النظام التربوي والنظم المجتمعية الأخرى يحتاج إلى دربة ومهارة وتعمق. [ ص: 74 ] وعلى سبيل المثال فالأطروحة التي بين أيدينا هـي عن «المحبة وآثارها التربوية في الإسلام»، نوقشت في أواخر عام 2003م. هـنا ندرك أن «المحبة» ليست مجرد سلسلة من العواطف والانفعالات والتعبيرات الوجدانية التي تنتظمها المحبة، فهي، شأن أي شكل من السلوك البشري مرتبطة بالضرورة بالسياقات المجتمعية القائمة، ومن هـنا نجد أن الأطروحة، كشكل من أشكال «الخطاب التربوي الإسلامي» تغفل هـذا تماما. وما يوضح هـذه القضية، الوعي بأن المناخ المجتمعي الذي يقوم على القهر والاستبداد، يفرز العديد من «الفيروسات» التي تصيب قيم المحبة بالمرض، فتتمحور حول الذات، وتتحول معاييرها إلى معايير مادية فحسب، وتنشر الذعر والخوف والجبن والأنانية، فإلى أي حد أدت مسيرة المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث في مثل هـذا المناخ إلى «تلويث» المحبة وتحويلها عن مسارها المفروض أن تكون بالله ومع الله ولله؟!

إن عدم وضوح «المفهوم» الخاص بالتربية يؤدي بالتالي إلى اختلاط «المجال» بمجالات أخرى، فتتميع القضية، ويتحول الحديث في التربية إلى جملة من المواعظ وعمليات التحليق في سموات علا لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم! وهكذا نجد من بين موضوعات الأطروحة موضوعات مثل: مقومات المحبة بين الجيران، غياب المحبة وضعفها بين الجيران، غياب المحبة بين الموظفين، طرق تنمية المحبة بين الموظفين... إلخ ونحن لا نقلل من هـذه الموضوعات، لكن هـناك علوما أخرى تتولى أمرها، فمثلا، يختص علماء الاجتماع بدراسات لا حصر لها عن (العلاقات [ ص: 75 ] الاجتماعية) و (التفاعل الاجتماعي)، فيما يتصل بالجيران، وهناك كذلك علم النفس الاجتماعي. أما ما يتصل بالموظفين، فهناك علوم الإدارة التي تختص بذلك.

أما التناول «العلم تربوي» لمثل هذه الزوايا، فهو يحصرها في أفراد المجتمع التعليمي، من معلمين، ورجال إدارة تربوية، وعمال، وطلاب، وآباء الطلاب وأمهاتهم.

إن غفلة «الخطاب التربوي الإسلامي» عن مثل هذا التناول، تجعله يحرث في أرض لا يملك مقومات حراثتها فيجئ زرعه غير مثمر.

ثم إن مثل هذه الدراسة – مثل كثير من هذا النوع – يغلب عليها الانحصار في دائرة «ما ينبغي أن يكون»، وآية ذلك أن العنوان إذ يشير إلى «آثار»، فهذا يعني البحث في ما هو «كائن»، لكن هذا التعامل مع الواقع وما هو كائن يهمل إهمالا تاما، وبهذا يفقد «الخطاب التربوي الإسلامي» فرص التفاعل مع حياة الناس ومعيشتهم، فيفقد القدرة على التأثير، وينعزل في قوقعة «الينبغيات»، فينصرف عنه كثيرون على اعتبار أنه «مغترب» عن حياة الناس.

وكان موضوع الرسالة الثانية هو «مدى سلطة الآباء على الأبناء في ميزان التربية الإسلامية والتربية الوضعية»، ونوقشت أوائل عام 2002م، فماذا نجد؟ [ ص: 76 ]

أرجو أن يطمـئن القارئ أنني لن أخوض به في غمار تفاصيل فنية مما يجري في مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه ، وإنما أتوقف بصفة خاصة عند عدد من العموميات والقضايا الكلية. فأحد مظاهر «العلمية» في الأنساق المعرفية، أن تكون هـناك «حدود آمنة ومعترف بها»، إذا صح هـذا التعبير السياسي، بين هـذا النسـق وذاك، فلا يتم خلط مثلا بين (الجغرافيا) و (التاريخ) ، على الرغم من التسليم بوجود أوجه اتصال بينهما، وهكذا الأمر في سائر الأنساق.

لكن كثرة من الباحثين –صغارا كانوا أو كبارا- ما زالوا مع الأسف الشديد يخلطون بين المعرفة التربوية وبين غيرها من المعارف الأخرى، خاصة في تلك المجالات التي نسميها بالمعارف البينية.

فعلى سبيل المثال، فإن «فلسفة التربية» تقيم جسرا بين «الفلسفة» وبين «التربية».

والشيء نفسه بالنسبة لـ (التربية الإسلامية) ، فهي تسعى إلى أن تقيم جسرا بين العلوم الشرعية الإسلامية وبين العلوم التربوية، وتأتي المهارة بالقدر الذي يتوافر فيه الوعي بحدود كل من المجالين.

وفي الرسالة المشار إليها نجد أن صياغة العنوان قد جاءت بصورة تجعل معالجة الموضوع معالجة أقرب إلى أن تكون «فقهية» في الغالب والأعم؛ لأن الباحثين في العلوم التربوية وعلماءها لا يتعاملون مع الآباء باعتبارهم أصحاب (سلطة) ، ولكن على اعتبار أنهم أصحاب (واجبات) و (مسئوليات) تجاه أبنائهم، وشتان بين المنظورين. [ ص: 77 ]

المنظور الأول (السلطة) : ينطلق من منطلق (حقوق) للآباء على أبنائهم، ويتوقع (عقوبات) على من لا ينفذ (أوامر) من أصحاب السلطة.

والمنظور الثانى (المسئوليات والواجبات) : يتجه أكثر إلى الأبناء من حيث احتياجاتهم وقدراتهم واستعداداتهم وميولهم ومستقبلهم، وتغلب عليه نظرة (الترغيب) لا (الترهيب) .

ثم تبرز لنا النـزعة (الرجولية) التي تسيء فهم قوامة الرجل على المرأة، ولا تكاد ترى المرأة على الخريطة التربوية في تربية الأبناء، مع أن هـذا الشأن بالذات هـو بالقطع (شركة) بين كل من الأب والأم. ذلك أن مفهوم (الآباء) قد ضيق في الدراسة كلها بحيث اقتصر على الذكور وحدهم، وهذا أمر لا يتسق مع المفهوم القرآني واستخداماته، فباستقراء آيات القرآن الكريم نجد أن المصطلح (الآباء) :

- عندما يجيء بصيغة المفرد، كما في قوله عز وجل : ( يا أخت هـارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ) (مريم:28) ، فإنه ينصرف إلى الذكر.

- وعندما يجيء بصيغة المثنى، كما في قوله تعالى: ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ) (النساء:11) ، فإنه ينصرف إلى الذكر والأنثى.

- أما إذا جاء بصيغة الجمع، كما في قوله سبحانه: ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) (البقرة:200) ، فإنه يشمل الذكور والإناث، سواء الأب والأم المباشرين، أو الجدود. [ ص: 78 ]

وهكذا تغيب (الأم) عن العمل التربوي، على الرغم مما هـو معروف لدى الكثيرين أن الأم تكاد أن تكون صاحبة التأثير الأكبر على الطفل في سنواته الأولى، قبل الالتحاق بالمدرسة. بل إن هـموم الأسرة المعاصرة أجبرت الكثير من الآباء على أن يتغيبوا معظم ساعات اليوم عن أبنائهم بحيث أصبح الأبناء وكأنهم مسئولية الأمهات وحدهن. لكن، ما دام المنظور الذي تم التعامل به مع تربية الأبناء هـو (السلطة) ، فإن الأمر يكون للأب.

وقد أصبح من المسلم به في الفكر التربوي، في العالم كله، ضرورة أن تكون التربية في السنوات الأولى للطفل في يد الأم، ومن هـنا نفهم ذلك الحرص على أن تكون دور الحضانة ورياض الأطفال قائمة على مربيات إناث، حيث يكون الطفل في هـذه المرحلة ما زال ملتصقا بأمه، بل إن سنوات التعليم الابتدائي الأولى هـناك توسع واضح في «تأنيثها».

صحيح أن الباحث يبرز الرأي الفقهي الإسلامي بضرورة أن تكون الحضانة في سنوات العمر الأولى للأم، لكنه يقف عن حد إبراز الجوانب الفقهية والقانونية، بينما مسألة مثل هـذه تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والتعزيز لبيان الحكمة التشريعية في أن يوكل الأمر للأم، وهناك مئات الدراسات النفسية والاجتماعية والتربوية التي يمكن أن تبرز ذلك، وبهذا نفيد مجالين في وقت واحد، أولهما المجال الفقهي التشريعي الإسلامي، ببيان أنه يتسق تماما مع ما تقرره العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية، وثانيهما، المجال التربوي نفسه، ببيان أن الحكمة الإلهية تعززه وتؤكده. [ ص: 79 ]

ومن عنوان الرسالة يفهم القارئ أنها ليست عن التربية الإسلامية فقط وإنما كذلك عن ( التربية الوضعية ) ، ورغم تحفظنا على مثل هـذه المقارنة، لكن القارئ لا يجد إلا النـزر اليسير عن هـذه التربية الوضعية، لا عن طريق قراءة مظانها لدى مفكريها وفلاسفتها، وإنما من خلال كتاب عرب مسلمين، فكأن الباحث هـنا مثله مثل قاض يكتفي بسماع أقوال شهود الإثبات، ولا يتيح لنفسه فرصة ولو واحدة ليسمع أحدا من شهود النفي!!

إن الأمر القرآني واضح لا لبس فيه: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وهو أمر عام يحتم على المسلم ألا يخوض في مسألة إلا إذا كان على دراية كافية بجوانبها المختلفة حتى يقترب الرأي والحكم إزاءها من العدل الذي هـو فريضة إسلامية، لا مع المسلمين من أبناء أمتنا فقط وإنما كذلك مع الآخرين.

فمن أدرانا أن هـذا الشاهد العربي المسلم الذي يكتب عن التربية الغربية قد فهم بالفعل ما أراد هـذا المفكر الغربي قوله؟ ومن أدرانا أنه لم يقتطع جزءا من منظومة فكرية متكاملة ليعطينا انطباعا سلبيا معينا؟ ومن أدرانا.. ومن أدرانا..؟ نحن نعيب على الساسة الغربيين وعلى الشعوب الغربية أنهم يتلقون معلوماتهم عنا من خلال أجهزة إعلامهم المتحيزة التي تتجاهل الكثير من الحقائق الخاصة بنا، وتزيف بعضها الآخر، وتعرض بعضا ثالثا بصورة تكاد توحي بقيم يراد لها أن تتغلغل في القلوب، ومفاهيم يراد لها أن تقتحم العقول، فهل نفعل مثلهم، وخاصة في مجال البحث العلمي، فلا نسمع ونقرأ لهم ونكتفي بشهادة بعض كتابنا عليهم لنصدر أحكامنا على تربيتهم؟!! [ ص: 80 ]

(الوضعية) على أساس أنها (الغربية) ، وهذا غير صحيح، فالوضعية المقصودة تشير إلى فلسفة أنتجها بشر، ومن هنا فهذا وصف ينطبق – مثلا – على التربية البوذية في الهند، وعلى التربية في الصين المعتمدة على (كونفوشيوس) ، وغيرهما، وهما ليستا من الغرب!!

وفي البلدان العربية صور من التربية التي لا تعتمد على مصدر ديني، وفي بلدان غربية تربيات تعتمد على مصدر ديني... وهكذا.

ويشوب «الخطاب» لدى عدد غير قليل الاعتماد على «تعميمات» جازمة، كاسحة، تتسم بالغلو، ومثال ذلك ما نراه لدى باحثنا هنا من أحكام يصف بها المجتمعات الغربية بـ «الانحلال الأخلاقي المريع»، و «تهتك لأواصر الأسرة» و «فساد في صفوف أجيال أبناء الغرب» و «انتشار مخيف للجريمة»، علما بأن مثل هذه الأحكام القاطعة الكاسحة لا تستند إلى دليل علمي وبرهان منطقي، ولا تقوم على إحصاءات وتقارير، وهذا ظلم صارخ، فمهما اختلفنا عقائديا مع الغرب، فإن ديننا يأمرنا بالصدق في القول، بالعدل في الحكم، ولو صدقت هذه الأحكام بهذه الدرجة المقدمة، والصورة القاطعة لانهار الغرب توا، ولما أنجز هذه المنجزات التكنولوجية والمعرفية المذهلة التي نعتمد عليها حتى أصبحنا «عيالا» عليه!!

ثم نجد كيف تؤدي غلبة النظرة القانونية الفقهية في تناول مسألة تربوية بالدرجة الأولى إلى إقحام مسائل غريبة تماما على العقل التربوي، مما يظهر [ ص: 81 ] ثم نجد كيف تؤدي غلبة النظرة القانونية الفقهية في تناول مسألة تربوية بالدرجة الأولى إلى إقحام مسائل غريبة تماما على العقل التربوي، مما يظهر التربية الإسلامية بمظهر غريب قد لا يتسق تماما مع المعالجة العلمية التربوية والنفسية، مثال ذلك: - سلطة الآباء في اختيار التنوع الغذائي، فالأمر هـنا هـو أمر توجيه وإرشاد وليس قهرا وقسرا، واسألوا الأطباء –وهم أصحاب الاختصاص في هـذا الجانب– عن هـذا!

- سلطة الآباء في اختيار اللعب المناسب للأبناء. وهذا أمر مؤسف حقا، فالمسألة مرة أخرى لا بد أن ترجع إلى «قدرات» لهذا أو ذاك لدى الطفل، وليس علينا إلا الإرشاد والتوجيه و «توفير الفرص» لا الجبر والقهر!!...

وهكذا، في أمور كثيرة، أبرزها:

- سلطة الآباء في التعليم، إذ قد يكون هـذا مفهوما في المرحلة الأولى، أما أن يمتد الباحث بالأمر إلى ما بعد البلوغ والمراهقة، فهذا تنكره مختلف البحوث التربوية والنفسية، وما تعرفه كل الدنيا في هـذا الشأن هـو ما اصطلح عليه باسم (التوجيه التربوي) ، و (الإرشاد الطلابي) .

- ويحار المرء حقيقة في هـذه النـزعة لدى بعض الباحثين في التركيز على «الوجه العقابى»، وخاصة في المجال التربوي، وهذا هـو الفارق الأساس بين [ ص: 82 ] المعالجة القانونية والمعالجة التربوية، إن المعالجة القانونية تأتي في كثير من الأحيان للتدخل (بعد) حدوث الخطأ، ومن ثم يكون الأمر أمر (عقاب) ، أما المعالجة التربوية فهي تتجه إلى المرحلة السابقة على الفعل... إنها تحرص على بث قيم من شأنها أن تميل بالإنسان إلى (السوية) في السلوك، ومن هـنا قيل بحق إن التربية هـي بطبيعتها (وقائية) ، مما يجعلها تلح على الأبعاد الخلقية والدينية والإنسانية، وتتوسل بالترغيب والحوافز ولين الجانب في غير تسيب أو ضعف.

- والأدهى والأمر حقا أن يركز الباحث ويتوسع في أحاديث نبوية تعزز توجهه «العقابي»، وصفت من بعض المحققيـن بأن في بعض رواتها ضعفا وتساهلا في الإسناد، مثل حديث: ( علق سوطك حيث يراه أهلك، ولا تضربهم به، واضربهم بنعلك ضربا غير مبرح ولا شائن للوجه ) !!!

ولو شئنا أن نشير إلى أحاديث نبوية في العطف والرحمة والرفق والحب والمودة للصغار لاحتجنا إلى كتاب كامل، ويكفينا أن رسول الله هـو الذي وصفه المولى عز وجل قائلا:

( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك... ) (آل عمران:159)

الآية، فلماذا هـذا الحرص الغريب على إبراز الوجه العقابي والتغافل عن الوجه الآخر؟ هـل نريد أن نقدم الدليل الشرعي لغير المسلمين على أن ديننا إذ يعاملنا بالعصا والعنف والضرب بالنعال يغرس فينا بذور التطرف والإرهاب ؟ إن كل الروايات لا تذكر أبدا أن رسول الله قد ضرب أحدا ممن هـم في دائرة بيته وأسرته. [ ص: 83 ]

وفي الأحاديث الصحيحة، ( عن أنس رضي الله عنه قال: «خدمت رسول الله عشر سنين، بأبي وأمي هـو، ما رأيت معلما مثله، والله ما زجرني ولا كهرني، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلت كذا أو لو كان كذا ؟. ) .

هذه عظمة رسول الله... هـذا هـو المربي الأول للبشرية..

أليست أفعال رسول الله جزءا أساسا من السنة؟

ورحم الله ابن خلدون الذي عقد فصلا بعنوان: (في أن الشدة بالمتعلمين مضرة بهم) ، أشار فيه إلى كم كبير من الأخطار النفسية والتربوية لاستخدام العنف مع الأطفال مما أيدته بعد ذلك مئات البحوث والدراسات التربوية والنفسية. وموضوع الرسالة الثالثة هـو «مشكلات طلبة كليات الشريعة في الجامعات... وعلاجها من منظور إسلامي»، نوقشت أوائل عام 2002م، فماذا نجد؟ أول ما استوقفنا هـو العنوان، فهو يشير إلى حالة من «اللاتعيين» و «اللاتحديد» التي يصاب بها بعض الباحثين، مما يحيل حديثهم إلى تحركات في هـواء تتسم بالعشوائية، وبالتالي فإن جهد الباحث في مثل هـذه الدائرة لا بد أن ينتهي به إلى الدوران حول النفس، والعجز عن تقديم نظرات مجدية للفكر التربوي الإسلامي، فضلا عن الإفلاس الذي يصيب به حركة الواقع التي تتطلب إشارة إلى جزئيات بعينها وقضايا محددة، فمثل هـذا يتيح الفرصة للإمساك بحركة الواقع وتوجيهها. [ ص: 84 ] فمشكلات الطلاب متعددة ومختلفة، فمنها ما يتصل بالتحصيل الدراسي، أو بالعلاقة بالأساتذة، أو بالأمور الإدارية، أو الجوانب الصحية، أو ما يتصل بالمناخ المجتمعي العام، أو بالثقافة العامة، أو بالثقافة التخصصية، أو بالعلاقة بين الزملاء من الطلاب، أو بالجوانب الاقتصادية، أو بالمهارات القرائية، أو بالمهارات البحثية... وهكذا.

وأن يزعم باحث أنه من خلال رسالة ماجستير ، يمكن أن يتصدى لكل هـذه المشكلات مجتمعة، فهذا جموح غير محسوب، ونقش على الماء، حتى أن جمهرة العامة تردد أن الذي يزعم التصدي لكل شيء لن يستطيع التصدي لشيء، على اختلاف الصيغ اللفظية المعبرة عن هـذا المعنى، فضلا عما يصير إليه الحديث من تسطيح لا يسمن ولا يغني من جوع! كذلك فأن ينص باحث بعد عدم تحديد «المشكلات» التي سيتناولها، على «... وعلاجها» فهذا يشير إلى عدم وعي بوظيفة البحث العلمي، فالعادة أن الباحـث بعد أن يشـرح ويحلل ويرصد ويشخص (يقترح) ما يتصوره مؤديا إلى «علاج» المشكلة أو المشكلات، إذا تم الأخذ به فهو إذا لا «يعالج» بالفعل؛ لأن العلاج هـو من شأن أصحاب السلطة والتنفيذ، ويرتبط بتشريعات وقرارات وأموال وتجهيزات... وهكذا.. بل إن جهات التنفيذ يمكن أن تقتنع بالمقترحات وتشرع في تنفيذها ثم لا يتم العلاج والحل!

ثم هـذا أيضا الذي نص عليه العنوان: «... من منظور إسلامي»، فالبحث كان يجرى في كلية شريعة، فماذا يكون منظور أي دراسـة فيها؟ [ ص: 85 ] إن ما يدخل في باب «المسلمات» و «المنطلقات» لا يجب أن يجيء في العنوان؛ لأن هـذا معناه أنه بحاجة إلى بحث وبرهان، وليس هـذا هـو منطق التعامل مع «المسلمات» و «المنطلقات». ثم إن الأمر ما دام تناولا لمشكلات طلابية، فهناك كثير من المشكلات التي لا أعرف حقا كيف تتم معالجتها من منظور إسلامي، وعلى سبيل المثال: تكثير عدد قاعات الدراسة! أو: تخفيض المصروفات! أو إفساح المجال لممارسة الأنشطة! أو تكثير عدد أعضاء هـيئة التدريس!... وهكذا، فهي حلول يمكن أن يفكر فيها جميع أبناء الوطن، حتى هـؤلاء الذين ليسوا من كليات الشريعة، ولنتذكر القاعدة التي تقول: إن ما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة، يمكن أن يدخل تحت مظلة الإسلام.

إن هـذا إنما يشير إلى ما حدث من توسع غير محمود العواقب لصفة «الإسلامي»، أثار سخرية كثيرين، وأفقد الكلمة الكثير مما يجب لها من تقدير.

وعندما نجيء إلى مرحلة الحل والعلاج نلمس المفارقة الشديدة بين التصورات والتخيلات وبين حركة الواقع وإمكاناته، ولو سقنا مثالا على ذلك، اقتراحا يطالب بعدم إلزام الطالب بكتاب مقرر واحد، وإنما إحالته إلى مراجع مختلفة، وهو «مثال» و «حلم» تربوي حقا، نراه متحققا في كثير من البلدان المتقدمة، لكن الوضعية القائمة في كثير من بلداننا تجعل منه أمنية عصية على التنفيذ، وجاء هـذا من أن الباحث لم يسأل نفسه: هـل توجد بالمكتبة أماكن تتسع كي تضم من بعض الكتب العديد من النسخ؟ وهل [ ص: 86 ] تتوافر طاولات ومقاعد لاستقبال معظم الطلاب، حيث سيكون هـناك استنفار منهم ما دام نظام الدراسة سيقوم على الاعتماد على عدة مراجع في كل مقرر، وهل يراعى في تنظيم الجدول الدراسي وجود أوقات تسمح بالاختلاف إلى المكتبة؟... وهل؟ وهل؟

لقـد قالوا في أمثالنا الشعبية: «اطبخي يا جارية، قالت الجارية: كلف يا سيدي!!» إن من يقترح.. لا بد ألا يغفل عن الظروف القائمة والإمكانات المتاحة، وإلا تحول الحديث عن العلاج إلى حديث عبثي، أشبه بمن يرى ضرورة أن تتوافر لكل مواطن سيارة خاصة، وكوب لبن يوميا، «وفيلا» للسكن.. وما سار على هـذا النهج!!

وإذا كان المثالان السابقان يتصلان بباحثين ما زالا على الطريق، بمعنى أنهما يصنفا عادة في فئة «صغار الباحثين» أو المبتدئين، فإن الأزمة تحتد عندما نجيء إلى مستويات عليا علميا وعمليا، ومن هـنا... نجيء إلى الفئة الثالثة...

والموقف موضوع الحديث، هـو أن جهتين مهمتين على قدر عال من الناحيتين العلمية والتنفيذية كلفتا باحثا كبيرا بوضع كتاب في (أصول التربية الإسلامية) يكون مرجعا لطلاب ومعلمي كليات التربية في العالم العربي. ونرجو أن يتذكر القارئ أن المؤلف ما شرع في وضع الكتاب إلا بعد وضع «خطة»، وأن المؤلف لم يشرع في التأليف إلا بناء على الموافقة على [ ص: 87 ]

العربية لمناقشة الكتاب.

تصور صاحبنا (المؤلف) أن مرجعا جامعيا إذ يخضع لمناقشة، فمعنى هذا:

أن يكون المدعوون إلى مناقشة الكتاب المرجع من أهل الاختصاص في فرعين اثنين هما عمادا الكتاب، أولهما (أصول التربية) كما هو متعارف عليها في كليات التربية في الوطن العربي، وثانيهما (التربية الإسلامية) ، ولا بأس من أن يزيد على هاتين الفئتين من هو متخصص في علوم الشريعة الإسلامية.

ويترتب على ما سبق أن يكون العدد محدودا قد لا يزيد عن عشرة أفراد، حيث هناك فرق كبير بين «مناقشة مرجع جامعي» وبين اجتماع لندوة عامة أو مؤتمر لمناقشة قضية عامة؛ وأن تتاح فرصة لا تقل عن شهر لمن يدعون إلى هذا الاجتماع حتى تتاح لهم الفرصة للقراءة المتأنية الناقدة للكتاب.

لكن ماذا حدث بالفعل ؟

تبين أن ليست هناك فكرة واضحة ودقيقة للفرق بين نسقين معرفيين، أحدهما خاص بكليات التربية، والآخر خاص بمدارس وزارات التربية والتعليم، ذلك أن اسمهما – بكل أسف – يكون واحدا في معظم البلدان العربية...

فالجمهرة الكبرى من طلاب المدارس العربية يدرسون مقررا «يسمى التربية الإسلامية»، والذي يسمى في بعض البلدان أحيانا «التربية الدينية الإسلامية». فإذا ما عرفنا أن مثل هذا المقرر يتصل بالتثقيف الديني، لتعليم الأبناء آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية، والسيرة النبوية، والعبادات، وسير بعض الصحابة والغزوات العسكرية، لأدركنا أن هذا المضمون يختلف كثيرا عن مضمون «التربية الإسلامية» الذي تعرفه كليات التربية، فهي هنا ببساطة شديدة تعني بيان - عن طريق البحث والدراسة- وجهة النظر [ ص: 88 ] وسير بعض الصحابة والغزوات العسكرية، لأدركنا أن هـذا المضمون يختلف كثيرا عن مضمون «التربية الإسلامية» الذي تعرفه كليات التربية، فهي هـنا ببساطة شديدة تعني بيان -عن طريق البحث والدراسة- وجهة النظر الإسلامية في القضايا والمشكلات والمفاهيم التي يحفل بها عالم التربية والتعليم.

الأولى كما تعرفها مدارس وزارة التربية، أشبه بأن تكون تربية إسلامية تطبيقية، والثانية أشبه بأن تكون تربية إسلامية نظرية.

الأولى تسعى إلى تعليم الأبناء ممارسة عبادات مثل الصلاة والصوم مثلا، والثانية تحلل وتشرح الحكمة من كل منهما، وأثرهما على السلوك.

فإذا عرفنا أن كثيرين ممن تمت دعوتهم لمناقشة الكتاب كانوا من مسئولي تعليم التربية الدينية الإسلامية في وزارات التربية العربية، وهم لهم كل التقدير والاحترام والاعتزاز، لكنهم من الناحية المعرفية ليسوا أهل الاختصاص المطلوب، وهم موظفون في وزارات التربية وليسوا أساتذة جامعيين أو باحثين في العلوم التربوية، وقد نجد من بينهم من لم تسبق له دراسة علوم تربوية متخصصة.

وأمر مثل هـذا لا يقتصر خطره على توجيه مجرى المناقشة إلى غير المطلوب، بل إنهم قد يشيعون مفاهيم وأحكاما تجانب الصواب.

ومن ناحية أخرى فإن عددا آخر من أعضاء هـيئات التدريس ببعض الجامعات والكليات لم يكونوا أيضا من أهل الاختصاص في أصول التربية. إن رد الأمور إلى أهل الكفايات مبدأ على درجة كبيرة من الأهمية، حيث هـو ضمان للإثراء المعرفي وتصويب المسيرة الأكاديمية، لكن عندما [ ص: 89 ] تتحول المسألة إلى «خواطر» و «مجاملات»، بغض النظر عن الأهلية العلمية والكفاية المهنية، فإن هـذا لا بد أن يؤدي بدوره إلى «إفقار» المجال المعرفي من مصادر تغذية أساسية له، بل ويدخله في متاهات يكتنفها الضباب والغموض وقلة البضاعة العلمية، وتكون المحصلة النهائية أن يتحول هـذا الجهد إلى عملية عشوائية لا تسمن ولا تغني من جوع. ثم نأتي للمسألة الثانية، ألا وهي المتصلة بالناحية العددية، إذ فوجئ صاحبنا بعدد ربما قد لا يقل عن الخمسين شخصا، بحيث أصبحت المناقشة أيضا غير مثمرة، فمع هـذا العدد الكبير بالنسبة للموضوع، يمكن أن تجد تناقضات واضحة، فهذا يريد دفع الموضوع إلى يمين، وذاك يرى أن هـذا خطأ ولا بد أن يتجه إلى يسـار، والقياس مع الفـارق.

إن هـذا الاختلاف لا يجيء من باب «التنوع» و «التعددية»، وإنما يقترب إلى حد كبير من «التشتيت»؛ لأن القضـية المطروحـة لم تكن قضية عامة، كلما كثرت فيها الآراء وتعددت الرؤى وتنوعت كلما اكتسبت القضية وضوحا وثراء.. إنه -مرة أخرى- كتاب أكاديمي مرجـعي جامـعي تم تأليفه بالفعل، وما يحتاجه هـو بعض التصويبات أو الإضافات أو الحذف. ولعل هـذا ينقلنا إلى مسألة أخرى نبهنا إليها القارئ فيما سبق، فما دام الكتاب المرجعي قد تم بناء على مخطط شبه تفصيلى اتفق عليه، يصبح من ترف التفكير، بل ومن عبثيته أن يقترح هـذا أو ذاك منظورات مختلفة تماما عما أسس عليه الكتاب. [ ص: 90 ]

إن الأمر هـنا أمر بناء سكني، ما تم إنشاؤه بناء على «مخطط» وضعه مهندسو «تصميم»، واتفق عليه، فعندئذ لا يجوز لأحد أن يعيب -مثلا- احتواء المبني على أربع طوابق، ويرى أن يكون خمسة، وآخر يرى ألا يزيد عن ثلاثة، ويجيء آخر ليـرى أن الشقـة كان ينبغي أن تضـم أربع غرف لا ثلاث... وهكذا... إن المسألة ليست مسألة إجراءات وتفصيلات جزئية، وإنما هـي مظاهر خلل في منهجية التفكير تجعل الكثير مما نفعل لا نتيجة له ولا ثمر.

ويأتي بعضهم للمناقشة وقد «برمج» عقله على أفكار بعينها وتوجهات بذاتها، بحيث إذا رأى وسمع –قبل أن يتكلم– ما قد يبدد فهما لديه، فإنه لا يدخل ذلك في الاعتبار، ويصر على قول ما يريد قوله، بحجة أنه لم يقتنع بما سمع. إن الأمر ليس هـنا أمر اقتناع، وإنما أمر تصريح صرح به مؤلف الكتاب بأنه يعني بكذا.. كذا، ومع ذلك يصر هـؤلاء على أن هـذا غير صحيح. إن هـذا يجوز عندما نكون بصدد تعريف قاموسي متفق عليه، لكن عندما يصر كاتب بأنه يقصد –مثلا– بمصطلح ( المدرسة ) لا ذلك البناء المعروف في عالم التعليم وإنما تجمعا فكريا أو علميا ينهج نهجا مشتركا، فيجيء واحد ليقول ويلح على أن المدرسة هـي بناء يضم عددا من الفصول بها تلاميذ... وهكذا؟ إنه عناد ومكابرة وتعصب.

وأعجب كل عجب أن تسعى هـيئتان علميتان كبيرتان –على المستوى الإسلامي العام– لمحاولة ربط الفكر التربوي في كليات التربية بالوطن العربي بأصوله الإسلامية، وتدعو أستاذا من إحدى الجامعات الإسلامية للمشاركة [ ص: 91 ] في جهد التأصيل الإسلامي، فإذا به يعلن استنكاره؛ لأن يسمى الكتاب المطروح للمناقشة «أصول التربية الإسلامية»، وأن الواجب كان يقتضي أن يسمى «بأصول التربية» فقط! مؤكدا أن «أصول التربية» واحدة عند كل الأمم من حيث التصنيف لا من حيث المضمون الذي يختلف من مجتمع ومن ثقافة إلى أخرى، ثم يسـوق ما تصوره برهانا على رأيه بأن الدول الغربية لا تسمي مثل هـذا النسق المعرفي بأصول التربية الغربية أو المسيحية!! ولن أتوقف طويلا أمام ما اعترف به الأستاذ الناقد في كلمته من أنه غير متخصص في أصـول التربية، إذ يكفي إعـلانه هـذا ليسقط القيمة العلمية لما قال، وإنما في هـذه الدعوى الخطيرة، فعلى الرغم من أن المؤلف قد كتب جزءا في كتابه بعنوان «لماذا الإسـلامية؟»، جـاء فيه ما خـلاصته أن التربية باعتبارها عملية تنفـيذية، لا بد أن تجـرى بناء عـلى «تصور» أو «مخطط» أو «تصميم» أو «فلسفة» أو أيديولوجية .. إلى غير هـذا وذاك من تسميات، وأن التصور أو الفلسفة التي يجب أن تقوم عليها عملية بناء الإنسان، لا بد أن تكون هـي نفسـها التي وضعـها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وسنة نبيه، على اعـتبار أن خـالق الموضوع هـو الأدرى والأعـلم بطبيعـته وما يناسبه. كذلك فإن ما غاب عن الزميل أن الغربيين لا يصفون التربية التي يقدمونها بالغربية؛ لأنهم يقدمونها على أساس أنها النموذج الوحيد الصحيح الذي ينبغي أن يسود العقل التربوي في كل أنحاء العالم، وهم في موقع قوة [ ص: 92 ] يمكنهم من أن يفرضوا نموذجهم على العالم، إن لم يكن عن طواعية واختيار فعن طريق وسائل كثيرة غير مباشرة.

إن الشيء نفسه لاحظناه في عصـور الحضـارة الإسـلامية الزاهرة، كما أسلفنا، فالكتابات التربوية -مثل غيرها- لم تلصق بها صفة «الإسلامية» في أغلب الأحوال.. لماذا؟ للسبب نفسه، سيادة الاعتقاد واليقين بأن النموذج المقدم هـو النموذج الذي يحمل أقصى درجة من الصحة والسلامة؛ لأنه منطلق من قواعد الإسلام وتصوره، وهذا النموذج ينبغي أن يسود العالم. لكن العرب والمسلمين يقفون الآن موقف المستضعفين.. يهددهم طوفان النموذج الحضاري الغربي، ومن هـنا يسعون إلى الحفاظ على ثوابت الثقافة الإسلامية، ومن هـنا يجيء هـذا الحرص على هـذه التسميات: التربية الإسلامية، الاقتصاد الإسلامي، الفلسفة الإسلامية، الأخلاق الإسلامية، الإعلام الإسلامي... وهكذا.

والذي يدعو إلى الدهشة حقا أن المؤلف عقد عدة صفحات أوضح فيها أن الشائع في الكتابات التربوية في العالم العربي هـو التعامل مع معنى «أصول التربية» على أنها «أسس التربية»، وعلى هـذا فهناك أسس فلسفية، وأسس اجتماعية، وأسس اقتصادية... وهكذا، أما هـو فهو ينهج نهج فقهاء المسلمين، فيتعامل مع كلمة «الأصول» بمعنى «المصادر»، ومن ثم عالج الموضوع على اعتبار أن القرآن الكريم هـو الأصل الأول، وأن السنة النبوية هـي الأصل الثاني... وهكذا. [ ص: 93 ]

ومع ذلك يصدر هـذا الرأي الذي أشرنا إليه، وكذلك يقف آخر ليعلن أنه كان يتمنى لو أن المؤلف تناول الموضوع من خلال «الأسس» بالمعنى المشار إليه آنفا!! كذلك فإن صاحبنا –مؤلف الكتاب– كان قد عقد فصلا في بداية الكتاب أسماه «البنية المفاهيمية»، وصارح قارئه بأنه يقصد بهذا.. شرح وتوضيح وبيان بعض المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الكتاب كله، مثل هـذا الذي أشرنا إليه، من حيث معنى الأصول، والتربية، والإسلامية.. إلخ، لكن واحدا من المناقشين يقف ليؤكد أن المفروض أن يتناول المؤلف تحت هـذا الاسـم: «البنية المفاهيمية» مفاهيم مثل كذا وكذا، وراح يعدد كما كبيرا مما تصوره مفاهيم، بينما هـي « مبادئ» و «خصائص» و «اتجاهات» وليست «مفاهيم».

وعلى سبيل المثال، القـول: بأن التربية الإسـلامية تربية متكامـلة، أو شاملة، فهذا مما يدخل في هـذا وذاك، لكنه ليس «مفهوما»، ومثل هـذه الخصائص أو المبادئ هـي بالضرورة، تجيء في سياق الحديث عما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من أفكار وآراء تربوية. وليست هـذه هـي وظيفة فصل أول؛ لأنه يكون بمثابة «عقد اتفاق» بين المؤلف والقارئ، يشرح فيه المؤلف توجهه ومنهجه والمعاني التي يقدم بها هـذا الموضوع وذاك، فهذا صورة من صور الأمانة والموضوعية، عندما يصارح الكاتب قارئه منذ الصفحة الأولى بالعملة الفكرية التي يتعامل بها معه.

وكما أشرنا أكثر من مرة، فإن الكتاب المرجع موجه إلى طلاب كليات التربية وباحثيها، ومن المعروف أن مناهج التعليم في هـذه الكليات [ ص: 94 ] تخلو من الثقافة الدينية، فإذا كتب كتاب في التربية الإسلامية، ونهج نهج الفقهاء في تناول الأصول الإسلامية، يصبح من الضرورة أن يتوافر قدر كاف من المعلومات الأساسية الخاصة بكل من القرآن الكريم والسنة النبوية خاصة. والذي يطلع عليها من أهل التربية يشعر بأن الكثير منها جديد بالنسبة له فيؤسس لمعرفته التربوية الإسلامية، لكن لو اطلع عليها أستاذ متخصص في العلوم الشرعية، فإن مثل هـذه المعلومات بالنسبة له تعتبر مكررة وعامة. ومنهج التفكير السوى الذي يحكم على مـدى ضرورة هـذا الموضوع أو ذاك هـو مدى حاجة «الزبون»، مع الاعتذار عن سوق هـذا التعبير التجاري، وطالب التربية هـو «زبوننا» وليس طالب كليات الشريعة، ومن ثم فهذه المعلومات تمثل احتياجا أساسيا له، لكن ماذا نقول والقائم بالفتوى في مسألة تربوية ليس من أهل العلم التربوي، وإن كان من أهل العلم الشرعي؟

وماذا إذا رأى القارئ كاتبا يتناول بالبحث والتحليل قضية تعليم المرأة، وهو بصدد بيان جوانب تربوية في السنة النبوية؟!

هنا يبرز ناقد يقف ليقول: إن هـذا الجزء ينبغي أن يتناول تعليم الرجال مع النساء؛ لأن النساء –كما هـو معروف في النهج النبوي الشريف– هـن ( شقائق الرجال ) (أخرجه الترمذي ) .

إن هـذا حق لا شبهة فيه، لكن الناقد ينسى أن الكتاب كله –حيث يتجاوز ثلاثمائة وخمسين صفحة– موجه إلى كل من النساء والرجال؛ ولأن المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية –كما يجب أن نعترف– قد تخلفت قرونا طويلة، وجب أن تحظى بمزيد من العناية بالنسبة لهذه القضية بالذات، تماما [ ص: 95 ] كما نرى اثنين يسيران على الطريق ثم يتخلف أحدهما لظروف ما فتبعد الشقة بينه وبين صاحبه، فنطلب منه وممن له صلة أن يضاعف من خطوات السير حتى يلحق بصاحبه. إنها قضية اهتم بها كثيرون، وما زالوا، نظرا لاستمرار سيل الاتهامات الموجهة إلى وضعية المرأة في الإسلام، وعندما يستمر الاتهام قائما ومتكررا، فلا بد ألا نكل من تكرار البيان والتوضيح والشرح.

ومن المفروض في علماء الشريعة بصفة خاصة أن يحرصوا على قرن أحكامهم بالدليل بحكم تمرسهم بالفتوى والأحكام الدينية على وجه العموم، لكن ماذا تقول عندما تسـمع واحدا من هـؤلاء يطلق أحكاما بغير برهان أو دليل، ولا يسوق أمثلة، ويقدم البديل، كأن يقول مثلا: إن أسلوب الكتاب ينهج نهج (المقامات) ، فماذا يفعل المؤلف إذا أراد أن يرضي صاحبنا؟ أليس من المفترض في مثل هـذا الموقف أن يقدم لنا المعايير والشروط والمواصفات التي تجعل من طريقة الكتابة تنتمي إلى أسلوب المقامة، ثم يسوق أمثلة متعددة من صفحات الكتاب ليطبق عليها هـذه المعايير ليؤكد أنها بالفعل صيغت بأسلوب المقامة، حتى يتيح للكاتب الفرصة أن يعيد صياغتها؟ ودون أن نقصد بأي حال من الأحوال أن ننتقص من قدر زملائنا علماء العلوم الشرعية، فإن المشهور أن يتهمهم آخرون بالميل إلى أسلوب الوعظ والإرشاد في خطابـهم العام، ويـبدو أنه مـن كثرة تكرار هـذا الاتهام الذي لا يصدق إلا على بعضهم فقط، فإن واحدا أراد أن يقوم بالفعل نفسه، فيتهم [ ص: 96 ] الكتاب -موضوع حديثنا- بأنه يمتلئ بالوعظ والإرشاد دون أن يقدم أمثلة من صفحات الكتاب على ذلك، ثم ينبه المؤلف إلى أن الأسلوب العلمي المنهجي يقتضي أن تكون مثل كذا وكذا، أما أن يساق هـذا الحكم مرسلا هـكذا، فعلام يدل إلا على ارتداد السهم على مطلقه؛ لأن التهم المرسلة هـي من نفس قبيلة الكلام الذي نتهمه بأنه مجرد وعظ وإرشاد ليس إلا!

وماذا عن حكمه أيضا باتهام الكتاب بانعدام التطابق بين الشكل والمضمون؟ هـل حدد لنا ماذا يدخل في نطاق الشكل وماذا يدخل في نطاق المضمون، ثم أشار لنا إلى مواضع بعينها لا يكون فيها تطابق بين الشكل والمضمون؟ كلا، إنه يكتفي بإصدار هـذا الحكم: لا تطابق في الكتاب بين الشكل والمضمون!!

وقدم الكتاب صفحات مطولة عن التوظيف التربوي للقصة القرآنية، ثم يقف نفس العالم المشار إليه في الفقرات السابقة ليقول: إن القارئ لا يستفيد منها!! ولا أدري حقا على أي أساس يطلق هـذا الحكم؟ هـل قام باستطلاع رأي قراء كثيرين وسألهم عما استفادوه من هـذا الجزء فأفادوه بالنفي، فأصدر حكمه هـذا، علما بأن الكتاب لم يطرح على القراء بعد؟ أم أنه وحده لم يشعر بالاستفادة فتصور أنه ممثل لكل من يقرأ وأصدر حكمه القاطع بألا فائدة من هـذا الجزء؟!!

ثم نجيء لأستاذ آخر يعلن عن اكتشاف يوحي بأنه قد انفرد به، فيؤكد أن الكتاب هـو سلسلة محاضرات ألقاها المؤلف على طلبته بإحدى كليات التربية العربية في أواسط السبعينيات! [ ص: 97 ]

إن المأساة هـنا تكمن في أمرين، أولاهما: أن المؤلف نفسه في كلمته المطولة التي طولب فيها بتلخيص الكتاب أعلن أن بدايات تفكيره في الموضوع ترجع إلى أول السبعينيات في صورة بحث محدود الصفحات، غير متعمق القضية، وأنه لما كلف أثناء قيامه بمهمة التدريس في بلد عربي عام 75 قام بتأليف أول كتاب صدر في العالم العربي بعنوان «أصول التربية الإسلامية» عام 76، وأنه ظل منذ ذلك الحين يطور ويغير في كتابه هـذا فصار كذا وكذا إلى درجة أن تولدت منه عدة كتب، كل منها كان يختص بنقطة واحدة أو فصل واحد من الكتاب الأول، فكيف بالله يزعم الأستاذ الباحث هـذا الذي قال بعد هـذا الذي تم التصريح به سلفا؟!

ثانيهما: إن الأستاذ لو كان قد قرأ الكتاب بالفعل، ووضعه بجوار الكتاب الأول الذي تم تأليفه منذ 27 عاما لعرف بكل يسر وسهولة أن الكتابين مختلفان بنسبة كبيرة قد لا تقل عن التسعين بالمائة.

إن هـذا لم يكن نقدا بأي صورة من الصور ولكنه افتئات فاضح على الحقيقة، ويتم هـذا في محفل علمي إسلامي، تحت مظلة التربية الإسلامية!

ومن الأمثلة الأخرى المنبئة بخلل واضح في منهج التفكير، مسألة تتصل بالتصنيف، فللتصنيف عند أهل المنطق أسس وقواعد، لا بد من مراعاتها حتى لا يحدث تداخل في فئات التصنيف، فإذا تحدثت عن طلاب الجامعات من حيث هـم بنين وبنات، فلا يصح أن أطالب بالحديث –مثلا– عن طلبة الطب؛ لأن هـذه الفئة تتداخل مع الفئتين المشار إليهما. [ ص: 98 ]

وفي الكتاب المذكور، صنف المؤلف مفكري التربية الإسلامية ، وفقا لمنهج البحث لدى كل فئة، ومن هـنا تناول: المدرسة الفقهية، المدرسة الصوفية، المدرسة الكلامية، المدرسة الفلسفية، المدرسة العلمية ( العلوم الطبيعية والرياضية ) .

لكننا نجد الأستاذ المذكور يطالب بأن يتناول المؤلف المربين الإباضيين، والمربين الفاطميين ! فالأساس هـنا مختلف؛ لأن هـاتين الفرقتين تتداخلان مع المدرسة الفقهية، وكذلك الكلامية، وأيضا الفلسفية.

والأكثر مدعاة للحزن حقا أن يقف آخر ليقول بأعلى صوته: إن مؤلف الكتاب بدأ من حيث بدأ غيره، ولم يبن عليها، وإن هـذا لا يؤدي إلى تراكم معرفي، الذي هـو طريق الإثراء والتجديد.

والنصف الثاني من الكلام –الذي هـو من صياغتنا– لا خلاف عليه، بل هـو مطلب وضرورة لا بد من الإلحاح عليها، لكن هـل النصف الأول من الكلام حقيقي؟

إن صاحبنا المؤلف قد بدأ العمل العلمي في التربية الإسلامية منذ أول السبعينيات، ولم يكن ما هـو موجود في الساحة العربية كلها إلا كتابات قد لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، ومنذ ذلك الوقت، وهو يكتب البحوث والدراسات ويضع الكتب، ويحاضر في الملتقيات والندوات والمؤتمرات، حتى لقد تجاوز رصيده من البحوث المائة، وتجاوزت كتبه العشرة، مما لم يتحقق لأحد في طول الوطن العربي وعرضه، فضلا عن عشرات رسائل الماجستير [ ص: 99 ] والدكتوراه التي أشرف عليها، وكذلك عشرات ناقشها، فهل يتصور بعد هـذا، أن يطاوع لسان واحد أن ينطق بهذا الذي نطق به؟

والحق أنه لا تفسير لما قال إلا أحد أمرين، إما أنه لا يتابع ويقرأ ما كتبه صاحبنا المؤلف، ومن ثم كان عليه ألا يصدر هـذا الحكم الجائر الذي أصدره، وإما أنه يعلم، لكنه أصر على الحديث بعكس ما يعلم، وكل من الفرضين يبعث على المرارة حقا.

وإننا هـنا لنتذكر بالمناسبة هـذه الموجة من الكتابات والأحاديث التي ترى ضرورة الحوار مع (الآخر) ، ألسنا بحاجة حقا قبل هـذا أن نحسن التحاور الصادق مع بعضنا بعضا؟!

وأخيرا أبى باحث آخر إلا أن يفجر قنبلة تنسف المشروع كله رأسا على عقب عندما اتهم الكتاب بأنه يقوم على نظرة سماها «باللاهوتية»، وعندما فسر عبارته هـذه نعى على الكتاب أنه مبني على مقولة تذهب إلى أن الدين -ممثلا في القرآن والسنة- هـو المحرك الأساس للتاريخ!

إن وجه العجب حقا هـو أن المشروع كله مبني على أساس السعي «للتوجيه الإسلامي» للعلوم التربوية، حتى لقد هـمس المؤلف لما جاوره في المحفل تعقيبا (هذا شرف لا أدعيه وتهمة لا أنكرها) !!

إن هـذا الذي عرضنا له، قد يبدو أمرا يتصل بمواقف جزئية، لكننا سقنا الحديث عنها باعتبارها مظاهر لنهج تفـكيري غير سوي يبدد ويهدر أكثر مما يبني وينشئ، يفرق ويجزئ أكثر مما يصل ويربط، والخاسر هـنا ليس فردا أو أكثر من فرد، ليس رسالة أو كتابا وإلا لهان الأمر، ولكن الخاسر هـو مجمل العقل الإسلامي، ومن ثم الأمة. [ ص: 100 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية