الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
مقدمة

«الخطاب» لغة على وزن فعال من خاطب، ومصدره خطاب، ومخاطبة على وزن مفاعلة، ومعناه الكلام والمحادثة، ومراجعة الكلام والمشاورة فيه، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ( وفصل الخطاب ) أن يحكم بالبينة أو اليميـن، وقـيل معناه أن يفصل بين الحق والباطل، ويميز بين الحكم وضده.

و «الخطاب» رسالة ذات هـدف ودلالة، وهو كلام، منطوقا أو مكتوبا، يمثل وجهة نظر محددة من الجهة التي توجه «الخطاب»، ويفترض فيه التأثير في السامع أو القارئ، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف والملابسات التي صيغ فيها «الخطاب» بدلالة الزمان والمكان.

ويستعمل لفظ «الخطاب» اصطلاحا بمعان شتى، تختلف تبعا لطبيعة الموضوع الذي ينصب عليه «الخطاب»، وتبعا للأغراض التي يتوخى تحقيقها منه، ففي التشريع والقضاء تعني « بلاغة الخطاب» أن يؤسس على البرهان الاستدلالى، على النحو الذي يحدده المنطق، وفلسفة التشريع، والأيديولوجية المتبناة في صياغة التشريعات، وفي أحكام القضاء.

ومعنى هـذا أن «الخطاب» يتجاوز الشكلية اللغوية، ويمتد إلى وسائل الإقناع ونوعية البرهان وأدوات الأسلوب البياني. [ ص: 25 ] وليس بالضرورة أن يكون «الخطاب» الإسلامي هـو نصوص الوحي من القرآن والسنة، وإنما هـو «خطاب» الإسلاميين، في ضوء الثوابت في التعبير عن الرسـالة التي يوجهونـها إلى الآخرين في شـأن من الشـئون أو مجموعة من القضايا العامة، في زمن معين.

وهو «خطاب» للجميع يأخذ بعين الاعتبار كل فئات المجتمع واهتماماته، فيخاطب كل فئة بما يمكنها من فهم «الخطاب» والاستفادة منه.

و «الخطاب التربوي» هـو اللغة المعبرة عن جملة التصورات والمفهومات والاقتراحات حول الواقع التربوي، وصفا، وتحليلا، ونقدا، واستشرافا لمستقبله، أو حول علاقة الوجود بين التربية ومجتمعها، وهو بذلك تعبير عن أيديولوجية منتج «الخطاب» في لحظته التاريخية. و « الخطاب التربوي »، ضمن من ينتجه، قد يعبر عن الرؤية الرسمية الحاكمة في المجتمع حيال تخطيط وتشريع النظام التعليمى الذي يضمن الإبقاء والمحافظة على النظام الاجتماعى القائم، ومن ناحية أخرى فقد يأتي «الخطاب التربوي» معبرا عن التصورات الفكرية المتحررة من قيود المؤسسية، من قبل مفكرين وعلماء وجمعيات ومؤتمرات علمية.

أما « الخطاب التربوي الإسلامي » فتتحدد دائرته من ناحيتين: أولاهما: موضوعه الذي يدور حول القضايا التربوية التي تهم الأمة الإسلامية وتستند إلى ثوابتها من القرآن الكريم والسنة النبوية، [ ص: 26 ] وثانيتهما: الجمهور المستهدف الذي يشكل العاملون في مختلف المؤسسات التربوية ركيزته الأساسية، وإن كان يمكن أن تفيد منه فئات أخرى يقرب عملها من العمل التربوي، مثل من يعملون في مجالي الدعوة والإعلام، فضلا عن مختلف الآباء والأمهات.

و «الخطاب الإسلامي» هـو الذي يقدمه العلماء والمفكرون في كل زمان ومكان، وفي كل مرحلة، وفقا لتلك المرحلة ولظروفها، وهذا «الخطاب الإسلامي الصحيح» هـو خطاب معاصر دائما، من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى زماننا هـذا، فالمعاصرة يجب أن ترتبط بالسلامة والدقة، ولو ادعى أحد أنه يقدم خطابا إسلاميا معاصرا ولكن هـذا «الخطاب» لم يكن مؤصلا تأصيلا سليما، ولا يستند إلى القرآن والسنة استنادا حقيقيا، فلا يمكن اعتباره معاصرا، «فالخطاب» المعاصر هـو الذي تمتد جذوره عميقا في التأصيل، ثم ينظر إلى هـذا العالم نظرة عميقة لفهم الظروف والقوانين التي تحكمه، والحاجات الحقيقية التي يجب أن تعالج في هـذا العصر. وتنبثق أهمية «الخطاب الإسلامي» في أي عصر، من المكانة العالمية للرسالة الإسلامية، وأنها ليست مقصورة على العرب، مع أن جزءا من «الخطاب الإسلامي» لا بد أن يكون داخليا لأبناء الأمة الواحدة في القضايا العامة، إلا أن جزءا مهما منه كذلك لا بد أن يكون خارجيا، موجها إلى سائر شعوب الأرض وأقطارها، ليعكس صورة الحضارة الإسلامية وقيمها الأساسية، ونظرتها إلى المشكلات العالمية وإلى العالم أجمع. [ ص: 27 ] ولا شك أن التربويين الإسلاميين فئة أساسية من فئات الأمة الإسلامية، تنفعل بهمومها التي ترزح تحت وطأتها، وتتشوف لمستقبل يضعها في مكانها الذي يليق بمن كلفوا بحمل الرسالة الإلهية، رسالة الإسلام، ومن ثم كان من الطبيعي أن تحتل قضية «الخطاب التربوي» مكانة عالية على سلم الأولويات البحثية التي يجب أن يطرقها العاملون في الحقل العلمي التربوي، خاصة ونحن نعيش فترة صعبة من فترات التاريخ، جعلتنا –على غير طبيعة رسالتنا الإسلامية– نقف موقف المتهم الذي يحتاج إلى الدفاع عن نفسه، كل من خلال موقعه.

ولما كان معروفا كذلك أن مجال التربية هـو ما يمكن تشبيهه بعملية «صناعة شخصية الإنسان»، وكان الإنسان هـو مدار كل عمل ونظام، تصبح من مسئولية المربين أن يتناولوا قضية «الخطاب التربوي الإسلامي»، ودراسة أبعاده وجوانبه المختلفة سعيا لمزيد من الوضوح الفكري الذي هـو شرط مهم لاستقامة الطريق. لماذا الآن؟ وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن «الخطاب الديني» ، وعندما نقول «الخطاب الديني» فلا بد – قراءة للواقع – أن يكون المقصود هـو الخطاب الديني الإسلامي، فعلى الرغم من وجود ديانتين اثنتين أخريين، وهما اليهودية والنصرانية، إلا أنهما بعيدتان عن هـذه القضية التي بدت ملحة إلحاحا لم تشهده من قبل، وإن دل هـذا على شيء فإنما يدل على أنه بات مطلوبا من [ ص: 28 ] المسلمين عامة، والمثقفين منهم خاصة أن يصدروا خطابا دينيا يرضى عنه المنتمون للديانتين الأخريين. كذلك فإن تخصيص المسلمين بهذا الأمر يحمل اتهاما لم يعد مستترا بأن خطابهم يضر بالآخر.

إن المسـألة ليست قائمة في مضمون «الخطاب الديني الإسلامي»، وإنما هـي في ضعف المسلمين وتخلفهم أمام غيرهم، ومن ثم تتجه المطالبة من القوي -المتقدم- وتتوجه إلى الضعيف المتخلف.

إنك لو فتشت في أي كتاب من الكتب الدينية اليهودية -على سبيل المثال- التي تدرس لألوف من طلاب المدارس الإسرائيلية، بل وتلك التي تدرس في المدارس اليهودية القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، فسوف تجد دعوات واضحة صريحة للكراهية والتعصب والعنف، بل والكذب والتشويه والتزييف لوقائع معاصرة، ولوقائع مضت، لكن لا أحد يلتفت إلى هـذا، وإنما الذعر كله يتبدى من كتب التلاميذ المسلمين الدينية، حيث تتهم زورا وبهتانا بتحريضها على العنف والقتل والإرهاب؛ لأنها تردد الدعوة إلى الجهاد بضوابطه الشرعية، كما أمر بها المولى عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم . هـو منطق التاريخ كله، بل ومـنطق الأحـياء على وجـه العموم. ألا نتذكر تلك القصة البسيطة عن الحمل الذي كان واقفا يشرب عند منحدر نهير، بينما هـناك ذئب يقف على أعلاه، فإذا بالذئب يتهم الحمل بأنه يعكر صفو الماء، ومن ثم فلا بد من معاقبته بالتهامه، مع أن الواقف عند [ ص: 29 ] المنحدر لا يمكن عقلا أن يفعل ذلك بالنسبة لمن يقف عند الموقع الأعلى؟ هـي إذا كانت قصة خيالية، لكن من أبدعها كان يعبر تعبيرا صادقا عن «منطق الأقوياء»، فإذا كنا نؤمن بمبدأ «قوة الحق»، فإن الأقوياء يرون المبدأ بصورة أخرى ألا وهي «حق القوة».

انظر إلى ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية ، الدولة الأقوى، في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م . لقد أصبح علامة فارقة في تاريخ العالم كله، فما من موضوع يطرح، في أي مجال من المجالات إلا وتجد أن تناوله يقوم على أساس هـذه التفرقـة: «ما قبل 11سـبتمبر» و «ما بعد 11 سبتمبر»! إن ما حدث في هـذا اليوم على فظاعته حدث ما هـو أبشع منه، وما يزال، في بلدان كثيرة، فقد التهمت أرض شعب تم تشريد الأغلبية الساحقة من أبنائه في فلسطين، وفي كل يوم ترتكب مجازر وتجريفات وهدم وسحق، لكن لا أحد يجرؤ، حتى من بيـن العرب والمسلمين أنفسهم، أن يؤرخ بما قبل 1948م، وما بعده، باعتباره علامة فارقة على طريق النكبات والهزائم. والأمر نفسه بالنسبة لتاريخ الهزيـمة الكبرى في الخامس من يونيو 1967م.. لماذا؟ لأننا الأضعف، فما يحدث لنا لا يحرك تاريخ العالم، وقد لا يهز فيه شعرة. فها هـنا أيضا نجد صورة من صور «العولمة» ألا وهي «عولمة التاريخ»، بحيث لم تعد قاصرة على ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والحرب. وأرجع بالذاكرة إلى تلك اللحظة التاريخية الخالدة، عندما نزل الوحي على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يبشره برسالة الإسلام، ويأمره بأن يدعو «العالمين» كافة [ ص: 30 ]

الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، تجد تلك اللحظة كانت كذلك لحظـة فارقة في تاريخ العالـم كله، لأن الذين تلقوها في ذلك الوقت كانوا هم الذين يقفون موقف القوة، لكن وفق منطق آخر هو «قوة الحق».

كان هذا المبدأ فعـالا هذه المرة لأنه لـم يكتف بهذا، بل حصـنه بما لا حصر له من مظاهر القوة الأخرى التي تتلخص في أركان النهوض العام الأربع ألا وهي: «العقيدة» و «الحضارة العلمية» و «القوة العسكرية» و «القيادة والتنظيم».

وهكذا، إذا رجعنا مرة أخرى إلى عصرنا الراهن، وجدنا أن أصحاب القوة والهيمنة لابد أن يحصنوا أنفسهم من احتمالات أخطار قد تأتيهم من جانبنا، حيث رأوا أن المسؤولين عما حدث في الحادي عشر من سبتمبر مظهر من مظاهر «إرهاب ديني» يقتضي بالضـرورة إعادة النظر في «الخطاب الديني».

ألا إنه لأمر خطير حقا أن تجئ الدعوة إلى «التطوير» من جانب (الآخر) ، حتى ولو كان ظاهرها حلو المذاق، لامعا براقا، عذب الصوت... إن الدعوة عندما تصدر من موقعنا نحن، تغير الموقف كلية:

فهذا يعني أننا الذين نختار الزمان.. ونختار نحن الهدف.. ونختار نحن مواضع التطوير... ونختار نحن سبل التغيير والتحديث...

وهذا كله يعني أنه يصب في مصلحة الأمة، حيث إنه يبث دماء قوة في عروق أبنائها، أفرادا وجماعات، ونظمها، وبنيتها الكلية.

والعكس صحيح عندما تصدر الدعوة من (الآخر) . [ ص: 31 ]

وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الحديث كثر عن « الخطاب الديني » في «السنوات الأخيرة»، فإن الأمر قد يتطلب توضيحا لا بد منه، وهو أن المقصود بهذا هـو مصطلح «الخطاب» نفسه، ذلك أن استقراء تطورنا الحضـاري في القرنين الماضيـين سوف يجد أن الكلمة وإن لم تستخدم، لكن مضمونها كان مستخدما، وهو ما نراه في دعوات العديد من المجددين الإسلاميين: منذ أن بدأ الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في فترة من فترات القرن التاسـع عشر ينادي بأن طريقة حياتنا لا بد أن تتغير فنعلم في بلادنا من العلوم ما ليس فيها.. وما شهدته مواقـع أخرى وفترات متعددة، مثل: دعوة الإمام الشوكاني إلى نبذ التقليد؛ ودعوة محمد بن عبد الوهاب إلى الرجوع إلى صفاء التوحيد؛ ودعوة الشيخ جمال الدين الأفغاني إلى تحديث الدولة العثمانية ومقاومة الاستبداد؛ ودعوة الشيخ محمد عبده إلى تجديد التعليم الديني؛ ودعوة عبد الحميد بن باديس في الجزائر ؛ والسنوسي الكبير في ليبيا ؛ والحركة المهدية في السودان .. وغيرهم. كانت الميزة الكبرى في مثل هـذه الدعوات أنها صدرت من علماء مسلمين على الأرض الإسلامية، منطلقة من موروث الأمة الحضاري، ومستندة إلى متغيراتها ومشكلاتها وقضاياها في الحاضر، وشاخصة البصر على مستقبل مأمول، فكان لها دورها المشهود في بعض بلداننا من حيث بث بذور اليقظة، وإن لم تؤت جميعها الأكل المنشود لأسباب متعددة ليس هـنا مجال الإشارة إليها، فضلا عن كثرة ما كتب في ذلك. [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية