الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
نحو تجديد الخطاب التربوي

التجديد: ضرورة.. ومفهوما.. وقواعد:

إننا نقرأ في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة:3) ،

جد في السنة النبوية الشريفة قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (أخرجه أبو داود في الملاحم) ، فيشير لنا المنهج الإسلامي ووسطيته أن ليس هـناك تناقض بين اكتمال الدين بتمام الوحي وختم النبوة والرسالة، وبين التجديد الدائم أبدا لهذا الدين، الذي اكتمل بختم الوحي وتمام القرآن الكريم، ذلك أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأركان العقيدة فيه: الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، أما الشريعة فهي تتناول ما ينهجه المسلم ويسلكه ويقيمه من عبادات، وقيم، ومعاملات، كي يعتقد هـذه العقيدة ويتدين بها.

ولكل من العقيدة والشريعة أصول وقواعد وأركان، اكتملت بتمام الوحي الذي اكتمل به الدين، لكن الإنسان المسلم، بحكم استخلاف الله سبحانه وتعالى له، في عمارة الأرض، وسياسة المجتمع، وتنمية العمران، لا بد وهو يقوم بمسئوليات هـذه الخلافة، من إقامة أبنية أخرى، فكرية وحضارية، يبدعها هـو فوق هـذه الأصول والقواعد والأركان. [ ص: 124 ]

وعملية النهوض الحضاري وقودها الرئيس الذي لا يختلف عليه اثنان هـو: المعرفة المتجددة المتطورة؛ لأن كل ما نفعله يستند إلى هـذا النوع من المعرفة، فلكي نعيش، يتعين علينا بكل بساطة أن نحول الموارد المتاحة لنا إلى الأشياء التي نحتاج إليها، وهو ما يتطلب تجديدا في المعرفة.

وإذا أردنا أن نعيش في الغد أفضل مما نعيش اليوم، وإذا أردنا أن نرفع مستوى حياتنا كأسرة أو كبلد، وأن نحسن صناعة، ونعلم أولادنا أفضل تعليم، وأن نحافظ على بيئتنا المشتركة، فعلينا أن نقوم بما هـو أكثر من تحويل المزيد من الموارد؛ لأن الموارد شحيحة، وعلينا أن نستخدم هـذه الموارد بالطرق الكفيلة بتوليد عائد متزايد بما نبذله من جهود ونقوم به من استثمارات، وهذا أيضا يتطلب معرفة تتحسن وتتطور وتتجدد يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة.

ويعتبر تجديد التعليم للأفراد والبلدان مفتاح تطوير المعرفة وتطويعها ونشرها، فالتجديد والتطوير في التعليم الأساسي يزيد من قدرة الناس على التعليم وتفسير المعلومات، ولكن تلك هـي البداية فقط؛ لأن هـناك حاجة كذلك؛ تطويرا وتجديدا للتعليم العالي والتدريب الفني من أجل بناء قوة عمل قادرة على مسايرة التيار المتدفق في التدفق التكنولوجي ، ذلك التيار الذي يضغط الأدوات ويزيد من سرعة انخفاض رأس المال البشري.

وفي خارج غرف الدراسة، تشكل بيئات عمل الناس ومعيشتهم مجالا لمزيد من تجديد التعلم، فيما وراء المراحل العمرية المرتبطة بالتعليم الرسمي، وذلك بالإضافة إلى أن نطاق منافع التعليم المتطور يمكن أن تمتد إلى ما هـو [ ص: 125 ] أبعد من دائرة المتعلمين، فتعليم الأم ما يستجد من المعرفة ينعكس في شكل رعاية صحية أفضل، وتغذية أفضل لأبنائها، كما أن المزارعين المتابعين للتطوير المعرفي يميلون إلى الأخذ بالتكنولوجيات الجديدة قبل غيرهم، وهم بذلك يوفرون لمن يتبعونهم معلومات قيمة ومجانية عن أفضل الطرق لاستعمال الأساليب الجديدة.

ولكي يقوم «خطاب التربية الإسلامية» بما هـو مأمول له في عصرنا الحاضر، وفي المستقبل، فلا بد من أن يرتكز تجديده إلى ثلاث ركائز: العقل، والنص، والأدوات:

فأما العقل فأول شروطه، ليكون في ذلك التجديد مساهما، «الحرية»، ونعني بها انطلاقة ذاتية غير متأثرة بمنفعة شخصية، أو هـوى متبع، أو فكرة سابقة مسيطرة.

وأما النص، فشرطه: المناسبة والمواءمة للإنسان كله، داخله وخارجه، ظاهره وباطنه، وكلنا يدرك أن الإنسان -والقياس مع الفارق- كالآلة التي تحتاج إلى دليل يبين تركيبها وطريقة عملها وتشغيلها، وهذا الدليل من فعل صانع الآلة، وكذلك الإنسان ومن باب أولى لا بد له –كما أسلفنا– من دليل يجد فيه تركيبته ووصفه ووظيفته، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان من صانعه، فلنبحث عن صانعنا، وقد بحثنا فكان الله عز وجل ، ودليله إلينا كتابه القرآن الكريم، فإن كان هـناك شك في الصانع، أو في الدليل، من حيث الثبوت والنقل، فليقدم كل ما عنده، وبيننا وبينه الحوار والمجادلة بالتي هـي أحسن. [ ص: 126 ]

وأما الأدوات، فيجب استنفار كل ما كان، وما صار في خدمة النص، تستخدمها الحركة العقلية. والاقتصار على أدوات ما ضية يفقد التجديد بعض مصداقيته، كما أن اعتماد الأدوات المستجدة فقط يجعل التجديد قطيعة مع النص، لأننا لم نعتبره من خلال السابقين فقط، ومثالنا على ذلك أن أسلافنا قد اعتمدوا أدوات منها المنطق واللغة والبلاغة، واليوم يطلع علينا عالم الاستنباط بأدوات جديدة منها: اللسانيات، والإنسانيات، والتحريات الأثرية، والاجتماعيات، والنفسيات.. إلخ، فلم لا تتقن من قبلنا وسائل نتفاعل بها مع النص الإلهي لخدمة التربية؟

ولابد أن يكون من الواضح لنا أن التجديد هنا يطال «الخطاب»، وليس الدين نفسه، لأن الدين كما هو مرتكز في أذهاننا جميعا ثابت في عناصره الأساسـية والجوهرية، وفي نصوصـه الثابتة، وبالتالي فإن التجديد لا يمكن أن يطال القيم الأساسية والمبدئية للدين، وإنما يطال الجوانب القابلة للتغيير والتطور، وأبرز ما يمكن أن يكون ميدانا للتجديد هو قراءة النصوص الإسلامية وقراءة المفاهيم الإسلامية، التي تتغير من مرحلة إلى مرحلة، ومن عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، على نحو يكون التجديد فيه هو القراءة التي تحاول أن تستلهم النص الديني في ثوابته الأساسية، ولكن في الوقت نفسه أن تضفي على هذه القراءة روح العصر التي تتم فيه هذه القراءة، وبالتالي يصـبح لكل عصر، ولكل مرحلة سماتها المميزة لقراءة النص الإسلامي. [ ص: 127 ]

ومن هـنا كان من المهم للغاية الالتزام بعدد من القواعد المنهجية في هـذا التجديد، هـي:

أولا: إن التجديد الذي يريد « الخطاب التربوي الإسلامي » هـو الذي لا ينقطع ولا ينفصل عن التأصيل، وإن ما نريده هـو التجديد وليس الإحياء، فالتجديد هـو أعمق من الإحياء، ذلك أن الإحياء بعث للروح، والتجديد بناء وتطوير، والتكامل بينهما. والإحياء قد يسبق التجديد، ويكون مقدمة له. والتجديد لا يعني مجرد المعاصرة، كما لا يعني مجرد التجديد، بمعنى التغير التلقائي الذي لا يخضع لتخطيط.

ثانيا: إن التجديد الذي نريده في «الخطاب التربوي الإسلامي» ليس دينيا منقطعا عن الجانب المدني، ولا مدنيا مفصولا عن الجانب الديني.

ثالثا: إن التجديد في «الخطاب التربوي الإسلامي» إنما يكون بعودة الفروع إلى الأصول، وانطباق الأصول على الفروع.

وإذا كان «الخطاب التربوي» القديم قد اشتغل على الصعيد الداخلي بالأبعاد التربوية للإشكاليات الناتجة عن الفهم البشري للإسلام ولعقائده وتصوراته، مثل القضايا الكلامية والعقائد وشروحها، والعمق فيها والتفلسف فيها، فقد اشتغل على الصعيد الخارجي بالجولات والحوارات مع الأفكار التي احتك بها مع الجماعات التي اعتنقت الإسلام، وانتقلت أفكارها إلى المجتمع الإسلامي، كالفلسفة اليونانية والديانات القديمة الموجود كاليهودية والنصرانية والزرادشـتية والبراهمية، وهذه كلها ديانات كان [ ص: 128 ] لها وجود وحضور وممثلون، ولها مؤلفات وأفكار رائجة في البلدان التي انتشر فيها الإسلام، وقد اشتغل « الخطاب التربوي الإسلامي » بهذه القضايا، وكان لزاما عليه أن يشتغل بها.

و «الخطاب التربوي الإسلامي المعاصر» له قضاياه التي يعيشها اليوم، مثل العدل التربوي، وتمويل التعليم، والتعليم المستمر، والتعليم المفتوح.

فهذا اختلاف بين القديم والحديث من حيث مادة العمل والمعارك، وهو اختلاف طبيعي، يبقى القاسم المشترك للقديم والحديث والمعاصر معا هـو المرجعية الإسلامية، والفضاء الإسلامي الذي يتحرك ويتنفس فيه هـذا «الخطاب».

ويمكن الحديث عن «خطاب إسلامي تربوي تقليدي» ولو كان معاصرا، و «خطاب إسلامي تربوي معاصر»، ولو كان تقليديا، وهذه هـي مسألة التقليد والتجديد في الفكر و «الخطاب الإسلامي».

«فالخطاب الإسلامي التجديدي» هـو: «الخطاب» الذي يعتمد البحث والنظر والدليل والحجـة، ويبدع ويبـتكر ويتعامل مع النصوص مباشرة، كما يتعامل مع واقعه فيفهمه ويستوعبه ويستخرج له الحلول من هـدي الإسلام ومقاصده، دون أن يلتزم بالتقليد أو يتقيد بما اشتغل به السابقون من حيث إنهم أغلقوا أبوابهم على علومهم فقط، واشتغلوا بما أعطاه سـابقوهم فقط، حتى ولو كان معاصرا، فلدينا اليوم تقليديون معاصرون كثر منكمشون في البحث بين سطور القديم، باحثون عما قاله فلان، ومحققون لما رواه أو كتبه فلان!! [ ص: 129 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية