الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الخطاب التربوي الإسلامي

الأستاذ الدكتور / سعيد إسماعيل علي

نقد الخطاب الإسلامي التربوي المعاصر

وقبل أن نبحث عن الدور الذي ينبغي أن يقوم به « الخطاب الإسلامي التربوي »، من الضروري أن نقوم بعملية فحص واختبار لهذا «الخطاب» لنكشف عن مـدى قدرته على الفعل وأهليته للقيام بما هـو مأمـول منه، وهنا يمكن أن نجد عـددا من السـلبيات التي لا ينبغي أن نغض الطرف عنها، من خلال عملية نقد للذات التربوية، فالتشخيص هـو الخطوة الأساسية لسلامة العلاج.

- فإذا كانت السبعينيات قد مثلت حركة نهضة ملموسة في البحث التربوي الإسلامي بعد أن كانت الأعمال التربوية الإسلامية تعد على أصابع اليدين طوال الحقب السابقة، وإذا كنا قد رأينا هـذه الحركة تتنامى عاما بعد عام، بل وشهرا بعد شهر، لكن هـذا النهوض التربوي بدأنا نلمس تراجعا واضحا له منذ أواسط الثمانينيات على وجه التقريب، مما يشير بأصبع اتهام إلى جهود عدد غير قليل بأنها ارتبطت بالحقبة النفطية أكثر من ارتباطها بحماس قلبي واقتناع عقلي «بالخطاب الإسلامي التربوي»، خاصة وأن كثرة من الأعمال التربوية الإسلامية قام بها باحثون كانوا يعملون في دول نفطية عربية، يغلب على توجه الثقافة فيها التوجه الثقافي الإسلامي. وربما يضاف إلى بطء، وربما تراجع «الخطاب التربوي الإسلامي» بعد [ ص: 54 ] الثمانينيات ما تعمد إليه بعض النظم من تقليص لمساحات العمل الديني تحت وهم أن ذلك من شأنه أن يجفف ينابيع الإرهاب!!

- وكشف استقراء كثير من الأعمال العلمية في هـذا المجال عن نقص واضح في الأهلية العلمية للمجاهدة البحثية، فلم يكن بالجمهرة الكبرى من كليات التربية في العالم الإسلامي أي برنامج لإعداد الباحث العلمي في التربية الإسلامية، ومن ثم فقد امتلأ سوق الكتابة بإنتاج فئتين:

فئة تملك الكثير من العلم التربوي والنفسي، لكنها تفتقد الكثير من العلم الشرعي، مما جعل خطابها وكأنه يقف عند حد إنزال القبعة من على رأس «خواجة» ليضع عليها عمامة إسلامية.

والفئة الأخرى، امتلكت الكثير من العلم الشرعي، لكنها افتقدت الكثير أيضا من العلم التربوي والنفسي، مما جعل خطابها يميل إلى الصيغة الوعظية الخطابية، مختلطا بمهمة الدعاة الدينيين.

ومن المؤسف حقا أن الكثرة الغالبة من الكتابات التربوية الإسلامية هـي من هـذين المصدرين.

- وافتقدت نماذج متعددة للخطاب التربوي المنهجية البحثية العلمية التي تمكنها من الإضافة الفكرية والعلمية وتكشف عن المجهول، وتحيي الموروث التربوي، وتخضعه لمحك النقد، وتسلط الأضواء على العلل المفسرة والقوى المحركة، وتقتحم المشكلات، وتتطلع إلى المستقبل.

وعزز من هـذا المقولة المسيطرة بأن المنهجية البحثية أداة محـايدة، فالمنهج التجريبـي مثلا، والمنهج التاريخي، هـما في مختلف الحضارات لهما نفس المدلول، ويقومان بنفس الوظيفة المنوطة بكل منهما، دون أن ينتبه كثير من التربويين إلى المنهج [ ص: 55 ] الأصولي الذي مكن علماء الفقه والشريعة من أن ينتجوا بناء فكريا علميا هـو الذي يعد بالفعل أروع ما أنتجه العقل الإسلامي في عصور الازدهار الحضـاري، والذي يشـكل الإبداع الحقـيقي للعـقل الإسلامي، وقد استخدمه بالفعل مربون مسلمون، مثل ( القابسي ) و ( ابن سحنون ) و ( ابن جماعة ) و ( الزرنوجي ) وغيرهم، وأتاح لهم إنتاجا فكريا تربويا إسلاميا أصيلا.

وإن كان هـذا لا يحجب عن أذهاننا بداية جهود لبعض الباحثين في مواطن متفرقة من العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر على طريق هـذا المنهج.

- وانطلق كثيرون إلى «الماضي الإسلامي» متصورين أن جهدهم العلمي يكون بالكشف عن إنجازاته الحضارية، مؤكدين أن صلاح التربية والتعليم إنما يكون بالعودة إلى مثل هـذا الماضي. والحق أن الاهتمام بالموروث الحضاري على وجه العموم فريضة أساسية، وخاصة في بدايات النهوض الحضاري، حيث يتجه الجهد الفكري إلى استيعاب خبرة الماضي منطلقا بذلك إلى هـدفين:

أولهما: أن يكتسب ثقة في الذات تؤهله أن ينهض ويتابع السير.

والآخر: أن يكتسب خبرة من هـذا الماضي يمكن أن يبني عليها في الحاضر والمسـتقبل.

فإذا أضفنا إلى هـذا وذاك، ما تعرض له العالم الإسلامي -ولا يزال- من حرب ضروس تستهدف كيانه الذاتي، تبين لنا لماذا هـذا الحرص على استيعاب الماضي وكأنه سفينة نجاة وسط بحر متلاطم الأمواج.

ومع الوعي بهذه الحقيقة، لكن هـناك ضوابط متعددة سوف نأتي لذكرها في جزء تال، لكن ما نود أن نشير إليه هـنا هـو ما شـاب كثيرا من هـذه الجهود [ ص: 56 ]

من ميل واضح للانسحاب إلىالماضي، لا الاستدعاء له، والفرق بين الحالتين، أن الباحث في الحالة الأولى يجعل من الماضي حكما على الحاضر، وفي الحالة الثانية يجعل الحاضر حكما على الماضي، مع الأخذ بعين الاعتبار ما سوف نوضحه فيما بعد من التفرقة بين ثوابت «الخطاب الإسلامي التربوي» ومتغيراته.

- واتسمت المعالجات التاريخية الماضوية للموروث التربوي الإسلامي بانطلاقها من عين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، عاكسة بذلك تصورا يصعب تقبله، وهو أن هذا الموروث كان مبرأ تماما من أية سلبيات، فإذا بالأعمال العلمية تبرز الصفحات البيضاء، متغافلة عن أن القمر إذا كان له وجهه المنير، فله أيضا وجه مظلم، والاعتراف الذاتي بالعيوب وصور الخلل والسلبيات هو صورة من صور الثقة بالنفس، والصدق مع الذات ومع الآخرين، وخطوة مهمة على طريق التصويب والإصلاح، وأن يأتي النقد وكشف السلبيات على أيدينا أفضل مائة مرة عن أن يأتينا على يد الأغيار. كذلك فإن شيوع هذه النـزعة في التعامل مع الماضي يمكن أن ترسخ في العقل التربوي المسلم النـزعة الأحادية في التفكير، تلك النـزعة التي تغفل أن لكل موضوع جوانب متعددة، وأن الآراء والمواقف إزاءه يمكن أن تتعدد وتختلف، وأن الحوار بينها هو الطريق الأصوب للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من الحقيقة.

- وأعجب ما رأيناه حقا هو هذا الغرام الواضح لدى بعضهم في تضمين [ ص: 57 ] ما قال به هـذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة التربية الغربيين بآخر من مفكري التربية الإسلامية، ووجه الخلل هـنا أن المنطلق مختلف تماما بين الاثنين، فواحد ينطلق من عقيدة دينية وآخر من منطلق وضعي خاص به هـو، والبيئة متباينة تباينا تاما، بل وهناك أيضا تباين واضـح في الأزمنة، ونجد أنفسـنا على علم مسبقا بالنتيجـة، وليس هـذا مما يتفق مع المنهجية العلمية التي تكشف عما لم نكن نعرفه.

وفضلا عن ذلك فإن هـذا يحمل في طياته أننا نزن (الآخر) بمعاييرنا نحن، وإذا كان هـذا جائزا بالنسبة لنا، فلا بد أن نجوزه أيضا بالنسبة للآخر، أي أن يحكم علينا وفقا لمعـاييره هـو، مما يجعل إمكانات التوافق والحوار شبه مستحيلة، وهو ما يطلق عليه حقا «حوار الطرشان» !!

- وحرص كثيرون فيما يسوقونه من أفـكار تربوية على المقارنة بين ما جاء في المصادر الإسلامية وما جاء في المصادر الغربية، مؤكدين بطبيعة الحال على تفوق الأولى على الثانية وأسبقيتها.

ووجه الخطأ هـنا، أن القائلين بهذا، وبحسن نية، يجعلون من العمل التربوي الغربي جواز المرور للعمل التربوي الإسلامي، وهو الأمر الذي يقف على طرف نقيض من النـزعة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، ومن ثم يقع العقل المسلم في تناقض مع الذات، فإذا وجدوا -على سبيل المثال- أن « إخوان الصفا » قد قالوا بأن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء، سارعوا إلى القول بأنهم بهذا قد سبقوا الفيلسوف الإنجليزي « جون لوك ».

ودون أن ندخل في النوايا، فهم قد عرفوا ما كتبه «لوك» أولا، ثم راحوا يبحثون في التراث التربوي الإسلامي، حتى إذا وجدوا له مثيلا سارعوا بقول ما يقولون! [ ص: 58 ] - ومن سلبيات الاقتصار، في الغالب والأعم، على الاهتمام بالموروث التربوي، الانسحاب من الاشتباك مع هـموم المسلم المعاصر، فكأن الجسم موجود في القرن الحادي والعشرين، أو القرن الخامس عشر للهجرة، والعقل سابح في قرون سابقة خلت، لكن: ماذا يفعل الشباب إزاء ما يصيب بنية القيم من خلل نتيجة هـذا الاكتساح المحيط بنا من كل جانب من مؤثرات الثقافة الغربية؟ وما الواجب عمله إزاء ما فرضته ظروف كثيرين من غياب للأب والأم عن المنـزل، وما تركه هـذا من آثار على بنـية الشخصـية للأبناء؟ وما العمل في ارتفاع كلفة التعليم على الفرد وعلى الدولة؟.. إلى غير هـذا وذاك من قضايا ومشكلات تؤرق مضاجع المسلمين في كل مكان في عصرنا الحاضر، وللأسف الشديد، قلما يتصدى «الخطاب التربوي الإسلامي» لها.

- ويرتبط بهذا الغياب الواضح للأفق المستقبلي عن «الخطاب التربوي» وكأن هـناك خصومة بين التفكير من منطلق إسلامي وبين الاستشراف المستقبلي. ولقد عزز من هـذا بعض المقولات الخاطئة التي فسرت ضرورة التوكل على الله، وعلى مبدأ الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، بأنه من العبث التفكير في المستقبل على أساس أن «المستقبل بيد الله»، وتلك حقيقة، لكن المقولة الشعبية تنطق بقدر غير قليل من الوعي عندما تقول «الرب في التدبير والعبد في التفكير»، فمسئولية العباد في التحسب والتفكير لا تناقض أبدا الإيمان بالقضاء والقدر؛ والدعوة للمسلم [ ص: 59 ] بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا، هـي تأكيد على التحسب في العمل المستقبلي وعد العدة له.

- و « الخطاب التربوي الإسلامي » أحيانا ما يقع في جب النبرة الانفعالية والأساليب اللغوية التي تميل إلى المحسنات البديعية والتراكيب اللفظية ذات الرنين العالي، وكثرة استخدام أفعل التفضيل والتعميمات الكاسحة، فهذا رأي -مثلا- أعظم ما كتب في الموضوع، وتلك الفكرة لم يسبق لأحد أن قال بمثلها أبدا، وذلك عمل هـو أروع من أن يتصـوره أحد.. وما سار على هـذا المنوال، أما تلك الكلمات والعبارات التي تميل إلى استخدام : «ومن المرجح أن..»، و «ربما يكون هـذا..»، و «هناك احتمال بأن...»، وندرة استخدام كلمة «قد» التي لا تقطع تماما، كل هـذا قلما يرد على ألسنة من يصدرون «الخطاب التربوي الإسلامي».

- (والآخر) التربوي غير مقروء كما تشير بعض الخطابات، فهذا يتحدث عن نقد لمقولة ماركسية، فلا يرجع إلى مصادرها على أساس أنها تنطق بكفر، ويعتمد على مصدر إسلامي، وعندما أسأله أن هـذا المصـدر غير محايد في معرفة ما قاله الماركسيون يصر على ما يفعل؛ فكأنه يخشى الإطـلاع على (الآخر) حتى لا ينبهر به ويتأثر، وهذه صورة من صور ضعف الثقة بالذات.

وهذا لا يرى فيما يقولـه (الآخر) ، أيا كان، أي خير، ما دام غير مسلم، أو ما دام مسلما علمانيا!! والحق نقول: إن كثرة من «الآخرين» يقعون هـم كذلك في نفس الخطأ، لكننا نشدد على المسلم بصفة [ ص: 60 ] خاصة؛ لأن واجبه أثقل ومهمته أعظـم، مما يفرض عـليه أن يكون قـدوة ومثلا ونموذجا.

- وهناك من يشعرك خطابه بأنه يكاد يلوي ذراع النصوص حتى تتفق مع ما يريد أن يؤكده من العصرية والمناسبة في النص الإسلامي للعمل به في حاضرنا، وكذلك هـناك من يضع عبارات حديثة لم تظهر إلا منذ سنوات قليلة ليوحي أن الوعي بها كان متوافرا، فهذا يكتب عن «التخطيط التربوي في عهد الرسول »، علما بأن التخطيط التربوي له مفاهيمه وقواعده وأساليبه المتفق عليها بين العلماء المتخصصين، ولا يشين عصر الرسول بأي حال من الأحوال ألا يكون فيه تخطيط تربوي بهذا المعنى المعاصر، لكن هـذا النفر «يقول» الأحداث بغير ما قالت. وآخر ينبهر بالمنجزات التكنولوجية المعاصرة، ويتصور أن عظمة الحضارة الإسلامية تربويا لا بد بناء على ذلك أن يكون لها باع في مجاله فيجـهد نفسه في تحميل الوقائع أيضا ما لا تحتمل ليؤكد أن هـناك في هـذه الفترة أو تلك تكنولوجيا تعليمية، أو أن هـذا النص يشيـر إليها، وهو إنما يريد الإشـارة إلى « وسائل تعليمية » أو « وسائل إيضاح »، وفرق كبير بين الأمرين، فالوسائل موجودة منذ أن وجد الإنسان على سطح هـذه الأرض.

- ويفتقر «الخطاب التربوي الإسلامي المعاصر» من خاصية مهمـة ترتبط ارتباطا وثيقا بالنـزعة العلمية ألا وهي «الجماعية» أو «عمل الفريق». وإذا كان من المشهور في دائرة العلوم الإنسانية أنها في جانب منها [ ص: 61 ] تعبر عن الذات، والأسلوب الخاص، والفلسفة المتبناة من قبل الكاتب، إلا أن المجال التربوي بصفة خاصة يحتاج إلى مثل هـذه النظرة الجماعية، بمعنى «جمع من العلماء»، دون أن نقصد «الإجماع»، فهذا يكاد أن يكون من المستحيل.

ولا شك في أن العمل الذي يقـوم به فريق يحمل من الحق والصـدق ما أهو أكثر مما يحمله عمل الفرد الواحد، من حيث تعدد زوايا الرؤية، والتنوع الفكري، وكثرة الطاقات وفاعليتها، دون أن نقلل هـنا من قيمة بعض الأعمال الفردية التي تصدر عن علماء ومفكرين يتسمون بالتميز بحيث يمكن أن تحظى آراؤهم بقدر كبير من القبول من الجماهير ذات الاهتمام بقضايا التربية.

- وهناك الخلل في ترتيب الأولويات، ومن أمثلة ذلك أن يسوي الداعية في الإلحاح والتشديد بين أمور تتفاوت أهميتها وخطورتها في نظر الشارع ونظر الناس على حد سواء: أليس غريبا -على سبيل المثال- أن يطيل بعض الدعاة الحـديث عن النهي عن قضـايا جزئية خلافية، وألا نرى منهم نفس الاهتمام والحماس حين يتصـل الأمر بقضايا الحرية أو الشورى أو العدل أو توزيع الثروات وتحديد أجور العاملين؟! نقول هـذا دون أن نقصد بأي حال من الأحوال سخرية وتقليلا من هـذا وذاك، لكننا نقصد ترتيب أولويات تحكمه عوامل متعددة.

- ويخضع «الخطاب التربوي» كذلك، شأنه في هـذا شأن «الخطاب الديني الإسلامي» على وجه العموم، إلى الكثير من الضغوط الخارجية، وهو [ ص: 62 ] ما سبق لنا أن أشرنا إلى شيء منه في مواضع سابقة. وعلى سبيل المثال يضغطون لتقليل الساعات المخصصة لتعليم الدين في مدارسنا. ويضغطون لتجاهل الحديث عن فريضة الجهاد. ويضغطون للتغافل عن الآيات القرآنية التي تـندد بممارسات اليهود وتبـرز أفعـالهم الدنيئة. بل ويسعون إلى فرض قضايا بعينها علينا ينبغي أن ننشغل بها وترك أخرى لا ينبغي أن نلتفت إليها، ويصل الأمر إلى ما يشبه التحايل على الناس بتقرير مقرر عن «الأخلاق» مستقل، مع أن لحمة التربية الدينية الإسلامية وسداها هـو الأخلاق.

ولم تكن مثل هـذه الصور السلبية في « الخطاب التربوي » نتوءا منفردا في جسم الأمة، فقد رافقتها مع الأسف الشديد ظاهرة أخرى كان لها خطابها الخاص، الذي لا يقوم على الجدال بالتي هـي أحسن، وإنما على البارود والنار...

فقد شهدنا جماعات عدة، خاصة بين الشباب، تجنح إلى مسالك تصوروها تقربهم من النهوض بالأمة، فإذا بهذه المسالك تنتج العكس:

- دخلوا في صراع مع السلطة بتصورهم أن نجاحهم لا يحمل إلا معنى واحدا هـو امتلاك السلطة، وإذا كان من حق كل مواطن أن يحلم بامتلاك السلطة إلا أن هـذا النفر سعى إلى العنف والترهيب، فإذا بالخسائر المترتبة على هـذا الصراع المتكرر في كثير من أرجاء العالم الإسلامي لا يقل خطورة عن خسائر البلدان الإسلامية المتحاربة في آسيا وإفريقيا ، فالأطراف كلها مسلمة، والرابح الوحيد هـو العدو المتربص في كلتا الحالتين. [ ص: 63 ]

وارتبط بهذا شيوع صـور من التطرف والغلو تقوم على مقولة ترى: «إما الإسـلام كله، وإما تركه كله»، ولو قصد بهذا الإيمان الـكامل بكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فهذا حق؛ لأننا مكلفون بالإيمان بالكتاب كله، ولعل الخلط بين هـذه القضية وبين تطبيق الإسلام –وفق الاستطاعة– هـو علة الغلو والفهم الخاطئ.

ولم يكن الضعف البادي في « الخطاب التربوي الإسـلامي » إلا أحد مظاهر ضعف عام في التعـليم القائم في كثير من البلـدان العربية والإسلامية، مثل:

- افتقاد الفلسفة التربوية العامة، فمن المعروف أن فلسفة التربية هـي التي ترسم الإطار العام الذي يوجه العمل التعليمي، ومن المفروض أن تبنى فلسفة التربية في العالم الإسلامي على العقيدة الإسلامية، لكن الواقع ينبئنا بأن الإطار الفلسفي التربوي العام شبه مفتقد، لا من وجهة النظر الإسلامية فقط، بل من وجهة نظر الفلسفات التربوية الكبيرة المعروفة، ويتحول الوضع إلى ما يشبه «الموزايك» الفلسفي، فهذا يمكن إرجاعه إلى العقيدة الإسلامية، وذاك إلى الفلسفة البراجماتية ، وهذا إلى الاشتراكية ، وذاك إلى غير هـذا وذاك من فلسفات.

- جمودها وعجزها عن مسايرة التطورات الاجتماعية المتسارعة، فالوظيفة الاجتماعية للتربية معقدة أشد ما يكون التعقيد؛ وذلك لأن التربية من جهة خاضعة للمجتمع بتقاليده وقيوده وقيمه وإمكانياته، وإن لم يكن [ ص: 64 ] ذلك منطلقا من منطلق إنساني نبيل كان أثره بليغا على العملية التربوية. ومن جهة أخرى، فإن التربية من أهم العناصر الفعالة في تطوير المجتمع، وهي في الوقت نفسه أهم أداة للمحافظة على القيم السائدة فيه، وعلى توازن القوى العاملة فيه. ولا شك أن افتقاد الفلسفة التربوية الموجهة يؤدي في غالب الأحوال إلى إضعاف القدرة لدى النظام التربوي أن يوازن بين ما هـو مطلوب، في كل اتجاه من هـذه الاتجاهات بالنسبة لوظيفته الاجتماعية.

- الفصل بين التعليم العام والتعليم التقني ، إذ تقوم النظم التعليمية المعاصرة في معظم دول العالم الإسلامي على الفصل بين التعليمين، ويعتقد أن ذلك كان من آثار العصور القديمة، وتعززت في العصور الوسطى الأوربية، حيث كان التعليم العام للسادة الكبار أصحاب السلطة والمال، والتعليم التقني لعامة الناس من الفقراء، وقد أدى هـذا الفصل إلى التمييز بين الناس بغير حق، وضاعف من حدة التباينات الطبقية في المجتمع الواحد، وزاد من أحقادها، كما أنه حرم بعض الأفراد من متابعة الدراسة حسب ميولهم واستعداداتهم ودفع بعضهم الآخر إلى مجالات لا رغبة لهم فيها، مما أدى إلى زيادة نسبة الفاشـلين، وحرمان المجـتمع من مهارات كان من الممكن أن تنبغ لو وجهت التوجيه الصحيح. فإذا جئنا إلى أحد المنظومات الفرعية في نظام التعليم، فإننا يمكن أن نشير إلى عدد من المظاهر السلبية التي تضعف من «الخطاب التربوي» هـذه المنظومـة الفرعية هـي منظومـة المناهج وطرق التدريس، منها: [ ص: 65 ] * تكرار المعلومات وازدواجيتها من مقرر إلى مقرر في الفرقة الدراسية نفسها.

* خلو الكثرة الغالبة من المناهج من محفزات العمل الإنتاجي.

* غياب ملحوظ لما يشير إلى مواكبة المتغيرات العصرية، وكيفية مواجهة تحديات العصر.

* ضعف الارتباط بالواقع والحياة العملية.

* الاعتماد على النقل والترجمة، مع قدم المعلومات أحيانا.

* إغفال المشكلات الاجتماعية في الدراسات الاجتماعية والإنسانية.

* قلة الاهتمام بالفروق الفردية وعلاج المتخلف والضعيف، ورعاية الموهوب وتنمية قدراته.

* ضعف تعليم اللغة الأجنبية الرئيسة مع الحاجة إليها.

* محدودية التقويم بحيث يقتصر على الامتحان القائم على المعرفة.

* اعتماد طرق التدريس على التلقين ونقل المعلومات والتركيز على التحصيل المعرفي في مستوياته الدنيا.

* غياب التوجيه الدراسي والمهني للطلاب، وتعثر الدراسة وضعف المستوى تبعا لذلك.

* غلبة النـزعة السلطوية في العلاقة مع الطالب، وحجب سبل المبادرة والمشاركة والإبداع من قبل الطالب.

* التساهل في المستوى للقبول وللتخرج حتى التعليم العالي المتخصص. [ ص: 66 ] وإذا كان هـذا وذاك مما يمكن اعتباره ضمن الكفاية الداخلية للتعليم، فإن هـناك عددا آخر من المظاهر التي تشير إلى بعض خلل في كفايته الخارجية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

- افتقاد وجود علاقات وقنوات تصل مؤسسات التربية والتعليم في مراحلها بالمجتمع وتطوراته ومتغيراته وحاجاته، مما أدى بها إلى قدر ملحوظ من العجز عن الأخذ بأسباب التجديد والقيام بدورها في المجتمع في آن واحد.

- الانحصار في نطاق مفاهيم ضيقة للتنمية، وحصـر علاقة التعليم بها على المستوى الثانوي، وخاصة على المستوى الجامعي والعالي بصـورة على قـدر من الغموض، وغلبة الصورة الكمية، مما عزل التعليم في بعض البلدان عن أن يكون طاقة تحريك لعجلة التنمية الشاملة.

- ضعف العلاقة بين التربية المدرسية والتربية اللامدرسية والموازية، وعلى سبيل المثال فإن المؤسسات الاقتصادية الكبرى، وخاصة في مجال الصناعة، قد راكمت العديد من الخبرات والمهارات، لكنها افتقدت بدورها الأسس المعرفية، والقواعد النظرية العلمية التي يتم تعلمها داخل مؤسسات التعليم النظامي، والذي افتقد هـو بدوره فرص الالتحام بحركة العمل التطبيقي والممارسة في مواقع العمل.

- كما لوحظ على كثير من الأنظمة التربوية تقولبها في أشكال وصور متكررة في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي.. [ ص: 67 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية