الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإن لم يجد الماء ثم علم أنه كان في رحله أعاد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها فيمن تيمم بعد طلب الماء وصلى ثم وجد الماء في رحله ، فروى المزني هاهنا ، وفي جامعه الكبير أن عليه الإعادة وروى الربيع مثله في الأم ، وحكى أبو ثور ، عن الشافعي أنه قال لا إعادة عليه فاختلف أصحابنا فكان أبو إسحاق المروزي يخرج الإعادة على قولين لاختلاف الروايتين فيجعل ذلك بناء على اختلاف قولين فيمن نسي الفاتحة في الصلاة حتى سلم منها قال في القديم لا يعيد ، فكذا من نسي الماء في رحله ، وقال في الجديد : يعيد ، فكذا من نسي الماء في رحله ، وقال أبو علي بن أبي هريرة وأبو الفياض ليس اختلاف الرواية على اختلاف قولين وإنما هو على اختلاف حالين ثم اختلفا في اختلاف الحالين ، فقال أبو علي بن أبي هريرة : رواية المزني في وجوب الإعادة محمولة [ ص: 387 ] على أن رحله صغير يمكن الإحاطة به ، ورواية أبي ثور في سقوط الإعادة على أن رحله كبير لا يمكن الإحاطة به ، وقال أبو الفياض بل رواية المزني على أن الماء كان موجودا في رحله قبل الطلب ، ورواية أبي ثور على أن الماء وضع في رحله بعد الطلب ، فهذا يشرح المذهب واختلاف أصحابنا فيه ، والصحيح وجوب الإعادة وبه قال أبو يوسف ، وقال أبو حنيفة ومالك ومحمد : لا إعادة عليه ، استدلالا بأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما . أن استعمال الماء مشروط بالقدرة عليه ، والقدرة مع النسيان ممتنعة ، والتيمم مع عدم القدرة جائز .

                                                                                                                                            والثاني : أنهما طالبان في رحله وغير رحله ، فلما كان نسيان الماء في غير رحله لا يوجب الإعادة كان نسيانه في رحله لا يوجب الإعادة .

                                                                                                                                            ودليلنا على وجوب الإعادة قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا والنسيان لا يخرجه من الوجود ، وإنما يخرجه من العلم بالوجود ، وأن نسيان الطهور ، لا يمنع من لزوم القضاء كنسيان الحدث ، ولأن ما لم يكن طهورا في حال الذكر لم يكن طهورا في حال النسيان ، كالماء النجس ، ولأن شروط الطهارة بالذكر لا يسقط فعلها بالنسيان ، كناسي الثوب ليستر عورته ، ولأن كل أصل لزم المسير إليه في حال الذكر لم يسقط بالنسيان حكم ذلك الأصل ، كالمكفر بالصوم ناسيا لما له .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بأن استعمال الماء مشروط بالقدرة فهو أن الناسي ليس بعاجز ، بل حكم القدرة أجري عليه ، وليس كالعادم الموصوف بالعجز ، ألا ترى أن ناسي عضو من أعضاء بدنه غير موصوف بالعجز عن استعمال الماء فيه وعليه الإعادة ، وليس كالذي قطع عضو منه في الصفة بالعجز حيث سقطت الإعادة عنه . وأما الجواب عن استدلالهم بناسي الماء في غير رحله ، فهو ما نذكره في شرح المذهب فيه ، وهو أنه لا يخلو حاله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون قد نسيه بعد أن علم به فهذا حكمه كحكم ناسي الماء في رحله والإعادة عليه واجبة ، ويكون حكم النسيان في الموضعين على سواء .

                                                                                                                                            والحال الثانية أن لا يكون قد علم به ، بل كان في منزله بئر ماء خفيت عليه ، فلم يعلم بها حتى تيمم وصلى ، فقد اختلف أصحابنا فحكي عن أبي علي بن خيران أن الإعادة عليه واجبة وسواء بين ظهور الماء في رحله وبين ظهوره في غير رحله وحكي عن أبي العباس بن سريج أنه قال : لا إعادة عليه وفرق بين رحله وغير رحله ، أن عليه الإحاطة في رحله ، وقال أبو حامد وأبو الفياض وجمهور أصحابنا البغداديين والبصريين إنه يعتبر حال البئر ، فإن كانت ظاهرة الأعلام ، بينة الآثار ، فعليه الإعادة ، وإن كانت خفية غير ظاهرة ، فلا إعادة عليه : لأنه يعمل على الطلب في غير رحله على الظاهر دون الباطن ، بخلاف رحله فإذا [ ص: 288 ] كانت ظاهرة كان ذلك منه تقصيرا في الطلب فتلزمه الإعادة ، وإذا كانت باطنة لم يكن مقصرا في الطلب فسقطت عنه الإعادة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية