الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " أو نبيذ " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال لا يجوز الوضوء بشيء من الأنبذة لا نيا ، ولا مطبوخا ، لا في حضر ، ولا في سفر ، وهو نجس إن أسكر ، وقال الأوزاعي : يجوز الوضوء بسائر الأنبذة ، ويروى نحوه عن علي رضي الله عنه ، وقال أبو حنيفة : يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ ، إذا كان مسكرا في السفر دون الحضر ، وقال : محمد بن الحسن : يجمع بين النبيذ والتيمم ، واستدلوا بما رواه أبو فزارة العبسي ، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث ، عن [ ص: 48 ] ابن مسعود ، قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال : يا عبد الله أمعك ماء ؟ ، قلت : لا ، معي نبيذ التمر ، فقال : " هاته تمرة طيبة وماء طهور " وتوضأ به ثم صلى بنا صلاة الفجر . قالوا : وقد روي عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " النبيذ وضوء من لم يجد الماء " . قالوا : وقد روي أن عليا وابن عباس توضآ بالنبيذ ، فلا يخلوا فعل ذلك منهما أن يكون عن قياس أو توقيف ، فلا مدخل للقياس في هذا ، لأنه لا يقتضيه فثبت أنه توقيف قالوا : ولأن الله تعالى يقول : فلم تجدوا ماء فتيمموا [ المائدة : 6 ] . وفي النبيذ ماء فلم يجز أن يتيمم مع وجوده .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه مائع سمي في الشرع طهورا فجاز الوضوء به كالماء .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الرأس والرجلين عضوان من أعضاء الطهارة فثبت فيهما بدل عند عدم الماء كالوجه واليدين .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الوضوء نوع تطهير يفضي إلى بدلين كالعتق في الكفارة .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا . فنقلنا الله تعالى عند عدم الماء إلى التراب بلا وسيط ، وهو النبيذ ، وليس النبيذ ماء مطلقا ، لا في اللغة ، ولا في الشرع .

                                                                                                                                            فإن قالوا : هو ماء في الشرع بدليل قوله عليه السلام : " تمرة طيبة وماء طهور " .

                                                                                                                                            قيل : لو دل هذا على أن النبيذ ماء في الشرع لدل على أنه تمر في الشرع ، وهذا مدفوع بالإجماع ، ثم لو كان من طريق الشرع ما يساوي حكم سائر المياه ، وفي مباينته لها مع ما منع من إطلاق الاسم عليه ، ولأنه مائع لا يدفع الحدث فلم يجز أن تستباح به الصلاة كالخل ، ولأن ما لم يجز استعماله في الحضر لم يجز استعماله في السفر ، كالنقيع ، ولأنه [ ص: 49 ] شراب مسكر فلم يجز الوضوء به كالخمر ، ولأن كل مائع لا يجوز التطهر به قبل طبخه ، لم يجز التطهر به بعد الطبخ كالماء النجس ، ولأن تأثير الطبخ عندهم عدم التطهير دون إباحته كماء الزعفران يجوز الطهارة به عندهم قبل الطبخ ، ولا يجوز بعد الطبخ .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث ابن مسعود فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : ضعف الخبر من وجهين : ضعف رواية لأن أبا فزارة كان نباذا بالكوفة ، وأبو زيد مجهول وليس رواية سفيان عن أبي فزارة دليلا على ثقته كما روى [ ص: 50 ] الشعبي عن الحارث الأعور وقال : كان والده كذابا .

                                                                                                                                            والثاني : أن الطحاوي خص نقل هذه المسألة لأبي حنيفة قال : فاعتمد أبو حنيفة فيها على حديث ابن مسعود ، وليس ثابت فهذا أحد الأجوبة .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : معارضة الخبر مما تنفيه وهو أن إبراهيم النخعي روى عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال : لا وددت [ ص: 51 ] أن لو كنت معه ، قال : فقلت : إن الناس يقولون إنك كنت معه ، قال : فقدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقلنا : اغتيل أو استطير فبتنا بشر ليلة بات لها أهلها ، فلما أصبحنا أقبل من ناحية حراء وذكر أن داعي الجن أتاه .

                                                                                                                                            فتعارضت الرواية فسقطتا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فخبرنا مثبت وخبركم ناف والمثبت أولى .

                                                                                                                                            قيل : هما سواء فخبركم يثبت كون عبد الله مع النبي عليه السلام وينفي كونه مع الصحابة ، وخبرنا يثبت كونه مع الصحابة وينفي كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            والجواب الثالث : تسليم الخبر والانفصال عنه بأحد وجهين إما بأنه منسوخ بآية التيمم ، لأن ليلة الجن كانت بمكة ، وآية التيمم نزلت بعد الهجرة ، وإما بأن يستعمل في ما نبذ فيه التمر ليحلوا لأن قوله : تمرة طيبة وماء طهور تقتضي ذلك تمييز أحدهما من الآخر ويكون معنى قول ابن مسعود إن معي نبيذا ، يعني : ما يصير نبيذا ، وبمعنى قد نبذ فيه تمرا . فإن قيل : فيحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم " تمرة طيبة وماء طهور " على أنه كان تمرا وماء طهورا .

                                                                                                                                            قيل : إذا لم يكن بد من حمل أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز كان قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن يكون محمولا على الحقيقة من قول ابن مسعود كذا يجاب عن حديث ابن عباس بأنه قد نبذ فيه ، لأنه نبيذ مشتد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن روايتهم عن استعمال علي وابن عباس رضي الله عنهما له فهو أنه ليس عن توقيف ، ولو كان لنقلوه ، وليس يمنع أن يكون لا حتما دراية إن صح النقل عنهما .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : " إن في النبيذ ماء سهو " هو جهل من قائله من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ماء وانتقل عنه لأن اسم الماء في اللغة لا ينطلق عليه ، ولو جاز أن ينطلق اسم الماء عليه لأنه لو كان ماء لكان الخل أحق ، لأنه طاهر باتفاق .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان فيه ماء مطلق لاستوى حكمه وحكم الماء المطلق ، وهما مفترقان في الاسم والحكم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم بأنه مائع سمي في الشرع طهور فغير مسلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تمرة طيبة وماء طهور " فوصف الماء بأنه طهور ثم المعنى في الماء أنه لما جاز استعماله في الحضر جاز استعماله في السفر ، ولما لم يجز استعمال النبيذ في الحضر لم يجز استعماله في السفر .

                                                                                                                                            [ ص: 52 ] وأما قياسهم الرأس والرجلين به في انتقالهما إلى بلل يدل على الوجه والذراعين .

                                                                                                                                            والجواب عنه أنه لما سقط فرض الرأس والرجلين عنه بدل الوجه والذراعين لم يجز أن يصير إذا بدل كالوجه والذراعين .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على العتق في الكفارة فمنتقص بالعتق في كفارة القتل ليس له بدلا إلا الصوم ، ثم المعنى في بدل العتق في الكفارة وجود النص فيهما ، واقتصار النص في الوضوء على أحدهما ، فلما لم يجز أن يلحق بالثاني من بدل العتق جنس البدل الثاني حتى تكون طعاما بعد صيام لم يجز أن يلحق به ثبوت أصله حتى يكون بدلا ثانيا بعد أول .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية