الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وأشكل وقت الحيض عليها من الاستحاضة فلا يجوز لها أن تترك الصلاة إلا أقل ما تحيض له النساء وذلك يوم وليلة فعليها أن تغتسل وتقضي الصلاة أربعة عشر يوما " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذه المسألة مقصورة على الكلام في أقل الحيض وقد اختلف الناس فيه على مذاهب شتى فأما مذهب الشافعي فالذي نص عليه هاهنا ، وفي كتاب الأم أن أقل الحيض يوم وليلة وقال في كتاب العدد أقله يوم فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين النصين على ثلاثة طرق :

                                                                                                                                            أحدها : وهو طريقة المزني وابن شريح أن أقل الحيض يوم وليلة وما قاله من كتاب العدد أن أقله يوم يريد به مع ليلة ، وهذه عادة العرب وأهل اللسان أنهم يطلقون ذكر الأيام يريدون بها مع الليالي ، ويطلقون ذكر الليالي ، ويريدون بها مع الأيام ، وكقوله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة [ الأعراف : 142 ] يريد مع الأيام ، وكقوله تعالى : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام [ هود : 65 ] يريد مع الليالي غير أن المزني علل لطريقته هذه تعليلا قدح فيه أصحابنا فقال : لأن اليوم والليلة زيادة علم ، وقال أصحابنا : هذا خطأ لأن زيادة العلم وجود الأقل لا وجود الأكثر ، ولو كان اليوم والليلة أزيد علما من اليوم لكان الثلاث أزيد علما ، وهذا الاعتراض على المزني خطأ في تأويل كلامه : لأن المزني إنما أراد به زيادة علم في النقل ، لا في الوجود .

                                                                                                                                            [ ص: 433 ] والطريقة الثانية حكاها أبو إسحاق المروزي عن بعض متقدمي أصحابنا أن المسألة على قولين لاختلاف النص في الموضعين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أقله يوم وليلة .

                                                                                                                                            والثاني : أن أقله يوم ، وهذه طريقة فاسدة : لأنه إن وجد في العادة يوما لم يكن لزيادة الليلة معنى ، وإن لم يجد لم يكن لنقصانها وجها .

                                                                                                                                            والطريقة الثالثة : أن أقله يوم ، وإنما كان الشافعي يرى أن أقله يوم وليلة إلى أن أخبره عبد الرحمن بن مهدي أن عندهم امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية فرجع إلى قوله ، وأصح هذه الطرق الثلاث الطريقة الأولى أن أقله يوم وليلة ، وهو المشهور من مذهبه ، والمعول عليه من قوله ، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر ومن التابعين عطاء ومن الفقهاء الأوزاعي وابن جريج وأحمد وأبو ثور .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : أقل الحيض ثلاثة أيام .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف : لعله يومان .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا حد لأقله ، واستدل ناصر أبي حنيفة لمذهبه بما روي عن عبد الله عن العلاء بن عبد الرحمن عن مكحول عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أقل الحيض ثلاث وليس فيما دون الثلاث حيض " وبرواية عدي بن ثابت عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة : " تدع الصلاة أقراءها " قال : وأقل ما ينطلق ذكر الأيام ثلاثة وأكثره عشرة ، قال وقد روى الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال : قرء الحيض ثلاث أربع خمس حتى انتهى إلى عشر .

                                                                                                                                            وقال ابن مسعود : أقل الحيض ثلاث ، وهذان صحابيان لا يقولان ذلك ، إلا عن توقيف : لأن القياس لا مدخل له فيه ، قال : ولأن ما نقص من الثلاث لم يجز أن يكون حيضا قياسا على ما نقص اليوم والليلة .

                                                                                                                                            دليلنا قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن [ البقرة : 222 ] فلما أطلق ذكره ولم يحد قدره فكان الرجوع فيه عند عدم حده في الشرع إلى العرف والعادة ، وكالقصر واليوم والليلة موجود في العرف والعادة ، وإن كان مختلفا باختلاف الأبدان والأسفار والبلدان ، قال الشافعي : ووجدت نساء مكة وتهامة يحضن يوما [ ص: 434 ] وليلة ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي " وأمرها بترك الصلاة عند وجود صفة الحيض في دمها على الإطلاق من غير تقدير بثلاثة فوجب أن يكون محمولا على إطلاقه إلا ما قام دليل تخصيصه ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة ، وأقل الحيض يوم وليلة ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : أدركت الناس يقولون أقل الحيض يوم وليلة ، والصحابي إذا قال هذا فإنما يريد به أكابر الصحابة وعلمائها ، فدل هذان الأثران على أن التوقيت باليوم والليلة موجود والوفاق عليه مشهور ، ولأنه دم يسقط فرض الصلاة فجاز أن يكون يوما وليلة كالنفاس ، ولأن كل مدة صلحت أن تكون زمنا للمسح على الخفين شرعا صلحت لأن تكون زمنا لأقل الحيض ، ولا يدخل عليه الحمل ، لأنه تقدر بالشهور دون الأيام .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : أقل الحيض ثلاث فهو أنه خبر مردود ، لأن عبد الملك مجهول ، والعلاء ضعيف ، ومكحول لم يلق أبا أمامة ، فكان مرسلا ، ولو صح لكان محمولا على سؤال امرأة كانت عادتها ثلاثا ، وكذلك الجواب عن قوله في المستحاضة " تدع الصلاة أيام أقرائها " وأما ابن مسعود فقوله معارض بقول علي ، وهو أولى : لأن عموم الكتاب والسنة يعاضده وأما أنس فلم يكن في الحيض أصلا ، قال ابن علية استحيضت امرأة من آل أنس فسئل ابن عباس عنها ، وأنس حي ، ولو كان أصلا فيه لاكتفوا بسؤاله عن غيره ، وأما قياسهم على ما دون اليوم والليلة ، فالمعنى في اليوم والليلة أنه مستوعب لأوقات الصلوات الخمس .

                                                                                                                                            فصل : وأما مالك فاستدل على أنه لا حد لأقله بقوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى [ البقرة : 222 ] فجعل الأذى حيضا ، ويسير الدم أذى فوجب أن يكون حيضا ، ولقوله صلى الله عليه وسلم " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة " قال : ولأنه دم يسقط فرض الصلاة فوجب أن يكون أقله غير محدود كالنفاس .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فجعل زمان الحيض مسقطا لفرض الصلاة ، وسقوطها يتعلق بزمان محدود ، ولأنه خارج من الرحم يدل على براءته فوجب أن يكون محدودا كالحمل ، فأما الآية فلا دليل فيها : لأنه جعل الحيض أذى ، ولم يجعل الأذى حيضا ، وأما حديث فاطمة فالمراد به إقبال حيضها ، وقد كان أياما ، وأما قياسه على النفاس فالمعنى فيه وجود العادة بيسيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية