الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الطفولة ومسئولية بناء المستقبل

الدكتور / نبيل سليم علي

الرضاعة الطبيعية ضرورة إسلامية

انتشرت في السنوات الأخيرة طريقة تغذية الأطفال صناعيا، باللبن الصناعي، كضرورة لاشتغال المرأة، والألبان الصناعية مهما كانت كاملة من الناحية الغذائية، فإنها لا تنافس إرضاع لبن الأم؛ ذلك لأن إرضاع الأم لطفلها بالإضافة إلى أنه تغذية عضوية ( فسيولوجية ) ، هـو تغذية نفسية، فالطفل في أمس الحاجة إلى الأمومة الوثيقة الاتصال به، أى أنه في حاجة إلى الحب والدفء العاطفي والاتصال اللمسي بدرجة لا تقل عن [ ص: 39 ] التغذية الجسمية التي يستخلصها من الرضعة؛ ذلك لأن هـذه العلاقة تزود الرضيع بالأمن والطمأنينة عـلاوة على الحب والدفء العاطفي.. ومعنى ذلك أنه يجب أن تكون الأم وطفلها وحدة من الوجهة النفسية، وهذه الوحدة تتحقق أثناء الرضاعة. إن الرضاعة وهز الطفل ومداعبته، كلها حاجات نفسية وضرورية لإشباع أعمق الحاجات النفسية عنده، ولكن ليس معنى ذلك أنه كلما بكى الطفل يجب على الأم أن تعطيه ثديها، كما يحدث في كثير من الحالات، أو أن تضع (البزازة) بصفة مستمرة في فـمه، أو تعطيه حلمة زجاجة اللبن، إن كانت تغذيته صناعية، أو تلجأ إلى هـزه بصفة شبه مستمرة، أو إلى حمله على كتفها.. فالطفل يبكي عندما يجوع، أو عندما يشعر بالضيق نتيجة البلل من تبوله، أو الاتساخ نتيجة التبـرز، أو نتيجة لوجـود ألم أو مغص، أو احتكاك يضايق جلده الرقيق، فلو أن الأم عنيت بنظافته، وصحته، وتغذيته في مواعيد منتظمة، لما بكى إلا نادرا.. وفي حالة بكائه بدون سبب، يجب تركه، فيقلع من تلقاء نفسه عن البكاء. لكن -ويا للأسف- نرى بعض الأمـهات يلجأن إلى حمل الطفل أو وضع بزازة في فمه بصفة شبه مستمرة، فيعودنه عادات غير مستحبة، إذ يتعود أن يبكي لتحمله أمه أو لتضع له البزازة وهو غير جائع، ومن ثم تكون الأم قد أساءت للطفل بتكوين عادات ضارة مرتبطة بعملية التغذية، يصعب إقلاع الطفل عنها. وقد تضطر الأم إلى استخدام أساليب أكثر [ ص: 40 ] ضررا في دفعه للإقلاع عن هـذه العادات المستهجنة، كأن تضع له في طرف البزازة « مرا »، أي مادة شديدة المرارة، تجعل الطفل يترك مص البزازة ويلجأ إلى مص أصابعـه، وما إلى غير ذلك من الأساليب التعويضية غير السوية.

وقد تؤجل بعض الأمهات فـطام الطفـل إلى سن متأخرة، أو تلجأ بعضهن إلى عملية الفطام فجأة بأسلوب قاس كاسـتعمال « المر» أو وضع مواد في اللبن لم يتعودها الطفل، مما يحدث له صدمة نفسية شديدة تؤدي إلى ظهور الأزمات الانفعالية في طفولته البريئة، في حين أن الفطام يجب أن يكون متدرجا من اللبن -ذلك السائل الذي تعوده بما له من خواص معينة ثابتة من حيث درجة الحلاوة، والسيولة، والحرارة- إلى أطعمة نصف سائلة ثم إلى أطعمة صلبة عندما تظهر الأسنان.. فإن مراعاة التدرج في عملية الفطام لها أهمية خاصة في الصحة النفسية للطفل؛ ذلك لأهمية التغذية عند الطفل، فهي ما لديه للاتصال بالعالم الخارجي، ولإشباع رغباته النفسية وحاجاته الجسمية.

كل هـذه المشاكل، وغيرها، تسببها الرضاعة الصناعية في غالب الأحيان، أما الرضاعة الطبيعية فليس لها مثل تلك المشاكل، ونذكر أنه في عام 1999م، كان لنا حظ حضور المؤتمر السنوي لجمعية طب وجراحة الأطفال البريطانية، الذي عقد في تلك المرة بمدينة يوركشير.. ولأطباء الأطفال البريطانيين تقليد قديم، هـو أن يجتمع جميع أطباء وجراحي [ ص: 41 ] الأطفال، و جراحي التجميل وعلاج التشوهات، كل عام في إحدى عواصم المقاطعات البريطانية، لاستعراض حصاد السنة، ومتابعة الأبحاث الجارية في مختلف ما وراء البحار، من دول "الكمنولث"، وكان ما جذب انتباهنا نتائج أحد الأبحاث التي أجراها طبيب إنجليزي في نيجيريا .. ومن المعروف أن البعثات الطبية الموفدة إلى البلاد النامية، لها اهتمامات أخرى غير البحوث الطبية، وأهمها التبشير أو التنصير وخلافه.

وقد جاء في هـذه الدراسة ما يفيد بأن السيدات في نيجيريا يحافظن على الرضاعة الطبيعية وتغذية أطفالهن لمدة عامين باللبن الآدمي، وأشارت الدراسـة إلى أن الرضع الذين لا يفطمون قبل سنتين من العمر، يتمتعـون بصحة جيدة، ويقاومون الكثير من أمراض الطفولة.

ثم تبعه بحث آخر قادم من بنجلاديش ، وثالث من سيلان ، وهي جميعا تشير إلى أن الفطام في هـذه البلدان، لا يقل عن عامين، وأنه لولا استمرار الرضاعة الطبيعية طوال هـذه الفترة، لما قاوم الأطفال المساكين أمراض سوء التغذية، والأوبئة الشائعة، في هـذه البلدان الفقيرة.

وعندما أعطيت الكلمة لنا، أوضحنا أن هـذه البلدان التي أجريت فيها تلك البحوث، تتمتع بالعقيدة الإسلامية، حيث إن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، يوصـيان باستمرارية الرضاعة، والحضانة، بمعرفة الأم، لمدة لا تقل عن عامين، وهو نفس الأسلوب المتبع عندنا في بلداننا العربية وعالمنا الإسلامي، ولولا التمسك بهذه العادة الإسلامية الحميدة، ما تبقى على ظهر [ ص: 42 ] الأرض من أطفالنا أحد ممن يعيشون، في أسوأ الظروف الاقتصادية، والاجتماعية. حينئذ أحسسنا بإعجاب المئات من الباحثين بهذا التشريع، الحكيم الواقعي، وإجماع المناقشين على أن الأسلوب الإسلامي في تغذية الطفل وحضانته، هـو أنسب الأساليب في التربية.. وكم كان إحساسنا بالزهو والفخار، عندما نص على ذلك في توصيات المؤتمر.

وفي واقع الأمر فإن تغذية وتنميته الطفل عقليا ونفسيا وبدنيا، كانت دائما شغلنا الشاغل، منذ أمد بعيد، خاصة عندما نلمس أن غالبية مرضى سوء التغذية والنـزلات المعوية، والأمراض الأخرى، هـم من بين الأطفال الذين حرموا لبن أمهاتهم لسبب أو لآخر.. حينـئذ بدأ موضوع الرضاعة الطبيعيـة، يفرض نفسه علينا في جـميع مناقشاتنا ومؤتمراتنا، فما من مرض وبيل، ناقشته الأبحاث، إلا واكتشفنا أن سببه الرئيس هـو استعمال الألبان الصناعـية، أو البديلـة عن لبن الأم، وما من غذاء بديل حاولنا أن نقيم مزاياه، إلا وجدناه يداني أو يقارب لبن الأم ولا يماثله، وما من مشـكلة، إلا اكتشفنا أن الرضاعة من ثدي الأم، فيها جزء كبير من الحل، إن لم يكن الحل كله.

فمشكلة الحساسية عند الأطفال كالإكزيما ، والربو ، علاجها في رضاعة ثدي الأم.. مشكلة سوء التغذية والهزال والتخلف العقلي، علاجها في ثدي الأم، مشكلة الإسهال والجفاف، والوقاية منهما، في لبن الأم.. مشكلة الحميات، وما يتبعها من مضاعفات، علاجها في لبن الأم.. [ ص: 43 ] مشكلة أمراض التمثيل الغذائي، والعيوب والتشوهات الخلقية، لا نظير للبن الأم في تغذية الأطفال المصابين بها.. مشكلة عيوب القلب الخلقية، وهبوط القلب أيضا، لا مثيل للبن الأم في مثل هـذه الحالات.. وغير ذلك الكثير والكثير... هـكذا أصبح موضوع الرضاعة الطبيعية، هـو القاسم المشترك الأعظم لندوات ومؤتمرات أطباء الأطفال والولادة وصحة الطفل والأم والصحة العامة.

إن الله - سبحانه وتعالى - منذ أن خلق الأرض ومن عليها، يسر لبني البشر إحدى فضائله، وهي الرضاعة الطبيعية من ثدي الأمهات، التي تعتبر غذاء كاملا، ميسرا، وحاميا للرضيع في خطواته الأولى في الحياة.. وقد جاء وقت من الأوقات، سادت فيه بدعة الألبان البديلة للبن الأم، وانتشرت الدعاية لها، حتى انحسرت الرضاعة الطبيعية أو كادت، وروج المروجون لهذه الألبان الصناعية، بأنها تحتوي على مزيد من الفيتامينات، وأنها تعفى الأم من التقيد الزمني للرضاعة، وغير ذلك من الأسباب الواهية، لكن ما لبث أن عاد الاتجاه إلى الرضاعة المثلى «الطبيعية».

فالرضاعة الطبيعية، هـي من فطرة الله التي فطر الناس عليها،لحكم جليلة؛ وهي من أوامره، وبها يتحقق الخير للطفل وللوالدين ولغيرهم، إذ أن الله لا يأمر إلا بالحق والصواب، والملتزم بأوامر الله يناله الخير، ويشهد منافع عديدة تعود عليه نتيجة التزامه بها، أما من يعرض عنها، فإنه يحرم نفسه الخير الذي أعده الله له؛ والعاقل هـو من يتحرى دائما أن تكون [ ص: 44 ] تصرفاته مع الحق والصواب، إذ أنهما يقودان إلى صراط الله المستقيم الذي يؤدي إلى النجاة، في الحياة الدنيا والآخرة.

وقد أسند الله تعالى الرضاعة إلى الوالدة؛ لأنها أقدر من غيرها على ذلك، فقال تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة:233) ،

فقولـه تعالى: ( يرضعن ) خبر، بمعنى الأمر على الوجوب، لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن، لأسباب صحية خاصة بهن، أو بالطفل، كما لو كان الرضاع يسبب ضررا للأم، أو للصغير، أو كان لبنها قليلا لا يكفيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية