الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الطفولة ومسئولية بناء المستقبل

الدكتور / نبيل سليم علي

شبهات تدعو بعض النساء للرضاع الصناعي

1- تقليد الغرب المتقدم تقنيا (الرضاعة والتقليد)

بعض الناس يتطلع بنظره إلى البلاد الأجنبية، المتقدمة علميا، في عصر ظهرت فيه أهمية الإلكترونيات والكمبيوتر وغير ذلك من المخترعات الحديثة التي وضحت أهميتها في كثير من مجالات الحياة، وقـد تأثر هـؤلاء بما حققته هـذه الدول من تقدم في العلوم والمعارف، مما دعاهم إلى محاولة تقليد شعوب هـذه الدول في عاداتهم الاجتماعية وسلوكهم، ظنا منهم أن هـذه العادات والتقاليد هـي التي أوصلتهم إلى هـذا التقدم العلمي الكبير.

ونود أن نقول لهؤلاء المتطلعين بانبهار إلى التقدم الغربي: أن يرجعوا بنظرهم قليلا إلى الوراء، ليعرفوا أن نواة علوم الغرب بزغت في دول الشرق، فهي علوم المسلمين الأوائل، الذين نبغوا في مجالات العلوم كافة يوم فهموا قول الله تعالى: ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) (البقرة:282) ، فاتقوا الله، وعبدوه حق عبادته، فهداهم إلى كثير من [ ص: 80 ] العلوم التي مازال يدرس بعضها في المحافل العلمية الأوربية حتى الآن.. ولكن في مرحلة تالية، حلت بالمسلمين عوامل عديدة، أدت إلى انشغالهم بمشاكل بلادهم وسلطانهم وأنفسهم، في حين عكف الغرب على تطوير العلوم الإسلامية، والسعي نحو الاكتشافات العلمية التي تحقق له المزيد من السيطرة والقوة، إلا أنه في الوقت نفسه لم يهتم اهتماما كافيا بالقيم الروحية الدينية، فدب الفساد والانحراف الخلقي بين صفوفه، وكانت معاول الهدم التي تهدد التقدم الذي بناه في عشرات بل مئات السنين.

ويا للأسف، يلجأ بعضنا إلى تقليد (الغير) ، لا في دأبه على العمل وحبه للنظام مثلا، إنما في الأمور الأخرى التي لا تفيد، بل تؤدي إلى التخلف والتأخر، كالزي المتبهرج الذي تلبسه المرأة، أو الذي يظهر تفاصيل جسدها، وخروجها إلى العمل، لمجرد الرغبة في عدم البقاء بالمنـزل، أو لغير ذلك من الأسباب، ودون مراعاة لحالة الفوضى، وعدم النظام التي قد تحدث في بيتها، نتيجة تغيبها عنه فترة طويلة.. إلى غير ذلك من النتائج التي تترتب على ترك المرأة لبيتها، ويهمنا من ذلك عدم استطاعتها إرضاع طفلها، والاعتماد على (الغير) في إرضاعه لبنا صناعيا، نظرا لتغيبها عن البيت، وقت حاجة الطفل للطعام.

ونقول لمن تترك الرضاعة الطبيعية، تشبها (بالغير) : إن التشبه (بالغير) في الأمور الحسنة مطلوب، أما التشبه (بالغير) دون معرفة النتائج التي قد [ ص: 81 ] يؤدي إليها هـذا التصرف ودراستها، فإنه يكون عملا غير مفيد، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة.. كما نقول للمتطلع لأحوال الدول الأجنبية: ينبغي عليه ألا يكتفي بمعرفة جانب واحد من جوانب حياتـها، ويبني أحـكامه على هـذه المعرفة؛ لأن ذلك لا يعطيه فكرة وافية عن هـذه البلاد، فمعرفة التقدم العلمي لا يغني عن معرفة الأحوال الاقتصادية، والقانونية، والاجتماعية. ومن تسمح له أحواله بالسـفر إلى البلاد الأجنبية، المتقدمـة علميا، يلمـس التفكك الأسرى بين كثير من أفرادها، وعدم الاهتمام الكافي بصلة الرحم، وانتشار الجريمة، وبخاصة بين الشباب الذين لا يجدون التوجيه الأسري المطلوب لغرس الأخلاق الطيبة، والقيم الدينية التي تدعو للفضيلة والخير.

وقد بدأ المصلحون في الدول الأجنبية ينبهون إلى خطورة انتشار

كثير من العادات غير الطيبة والسلوك السيئ الذي لا يؤدي في النهاية إلى صالح المجتمع، وبدأ الأطباء والعلماء يطالبون بالعودة، مثلا، إلى الرضاعة الطبيعية، بعد ما تبينت لهم فوائدها الصحية والنفسية، على الطفل والأم، وما تؤدي إليه من حسن تنظيم العلاقات بين أفراد الأسرة، وأولى بالمسلمين أن ينأوا بأنفسهم عن تقليد غيرهم في إتيان عمل معـين، أو الانتهاء عنه،وعليهم أن يلجأوا إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففيهما الهدى والرشاد، وقد أمر الله تعالى الأم بإرضاع طفلها، وأمرت [ ص: 82 ]

السنة النبوية الشريفة بذلك، فأحرى بنا نبذ التقليد الأعمى، والتمسك بهدى تعاليم الإسلام الحنيف، لننال الخير الوفير، بإذن الله تعالى.

2- الرضاعة وعمل المرأة

أباح الإسلام -في بعض الظروف- العمل في الأعمال المشروعة التي لا تتنافر مع طبيعة المرأة، ولا تؤدي إلى الخلوة المحرمة، وذلك مما يحفظ للمرأة كيانها وكرامتها، ويبعدها عن كل ما يتنافى مع الأخلاق الكريمة، وطلب منها أن ترتدي ملابسها عند خروجها، وفقا لما يأمر به الشرع.

وقد تلجأ المرأة للعمل، لحاجتها إلى المال، أو لأداء رسالة إنسانية، كالعمل في مجالات تكون هـي الأفضل لتوليها، كطبيية لأمراض النساء والتوليد، أو التدريس لبنات جنسها أو الأطفال، وفي هـذه الحالة يجوز للأم أن تعتمد على (الغير) في تحضير رضعة الطفل، لحين عودتها من العمل، بحيث تستكمل هـي معه بقية الرضعات وتصبح الرضعة الصناعية ضرورة يتم اللجوء إليها فقط فـي الوقت الذي لا تكون هـي معـه في البيت، أما عند وجودها فلا يكون هـناك مبرر لحرمان الطفل من غذائه الذي منحه الله له، وعلى الأم التي اضطرت إلى العمل، أن تحاول التوفيق بين موعد رضاعة وليدها، وبين مواعيد عملها، حتى لا يطغى العمل على صحة الطفل.

أما إن لم تكن هـناك حاجة لعمل المرأة، فإن بيتها وطفلها أولى بها، [ ص: 83 ] ومن التقصير الشديد في هـذه الحالة أن تضحي الأم بصحة طفلها وراحته، في سبيل عمل هـي ليست في حاجة إليه، وإذا كان غرض الأم التي تعمل، تحقيق مكسب مادي إضافي، فإنه يجب أن تضع في اعتبارها أن عملها يحملها مصاريف إضافية، كالمواصلات، والملابس، والأحذية، والمجاملات، وكذلك أثمان الألبان الخارجية التي ستشتريها لطفلها، وغير ذلك من المصروفات التي يستدعيها البقاء خارج المنـزل فترة من الوقت، بالإضافة إلى أن عمل المرأة خارج البيت، يضيف إليها أعباء إضافية، إذ إنها عندما تعود من العمل، كثيرا ما تجد أنها في حاجة إلى أداء كثير من الأعمال بالمنـزل، غير ما يحتاجه طفلها من رعاية وعناية، وقد يضطرها الأمر إلى الاستعانة بإحدى العاملات للمعاونة في أداء أعمال المنـزل، مما يضيف على ميزانية المنـزل أعباء إضافية أخرى. 3- الرضاعة الطبيعية وصحة الأم ورشاقتها

يعتقد (البعض) أن الرضاعة الطبيعية تؤدي إلى الإضرار بصحة الأم ورشاقتها، فينصح الأمهات بعدم إرضاع أطفالهن، وإعطائهن ألبانا خارجية، في حين أنه قد اتضح طبيا أن الحقيقة على خـلاف ذلك تماما، إذ إن " الرضاعة الطبيعية تعطي الأم الفرصة للتخلص من مخزون الطاقة، والشحم المتراكم، أثناء الحمل.. فمن المعروف أن الحوامل يزداد وزنهن أثناء الحمل، استعدادا للرضاعة بعد الولادة، فإذا لم تقم الأم بإفراز لبن [ ص: 84 ] الثدي بانتظام لإرضاع وليدها، فإن الطاقة المتراكمة في جسمها، سوف يزداد تراكمها، وسوف يبقى وزنها أكثر من المعدل. كما أن عملية الرضاعة تمثل أهمية كبرى للأم، إذ إنها تساعد على إعادة وضع الرحم إلى حالته الطبيعية، نتيجة أن الرضاعة تؤدي إلى إفراز هـرمونات أنثوية تساعد على ذلك، علاوة على أنه ثبت علميا أن عملية مص الطفل لثدي أمه أثناء الرضاعة، يساعد أيضا في الوصول إلى هـذه النتيجة. وعلاوة على ذلك، فإن الأم لو حرصت على القيام بأداء بعض التمرينات الرياضية يوميا فإن ذلك سيساعد أكثر على تحسين صحتها، وزيادة رشاقتها، وبخاصة إذا أخذنا في اعتبارنا أن الله سبحانه وتعالى هـو الذي يهب كل النعم، يهب المال و البنين و الصحة وكل شيء، فعند طاعتنا له، والتزامنا بأوامره، وأداء ما يجب علينا، فإن العاقبة ستكون خيرا، وسيساعدنا على استرداد صحتنا، وتحسن أحوالنا. بنك اللبن

ثار الكلام في الفترة الأخيرة عن مشروع يدعو إلى إنشاء «بنك للبن الأمهات» على غرار «بنك الدم»، يقوم بتجميع لبن الأمهات وتجفيفه، ثم تعبئته بعد ذلك، وبيعه للناس في معلبات، مثل معلبات الألبان الصناعية التي تباع حاليا للأطفال.. وقد يظن بعضنا أن تجفيف لبن الأمهات ثم إضافة كثير من الماء إليه بعد ذلك، عند إعداد الرضعة للطفل، يؤدي إلى [ ص: 85 ] غلبة الماء على اللبن، مما لا يجعله سببا للتحريم، مستندين في ذلك إلى آراء بعض الفقهاء، إذ يرى الحنفية وأحمد وابن القاسم من المالكية ، أن اللبن إذا صار مستهلكا، فلا يقع به التغذي، ولا تثبت به الحرمة، فإن كان اللبن غالبا تثبت به الحرمة، وإن كان الماء غالبا لا تثبت به.

وعند الشافعية وابن حبيب ومطرف وابن الماجشون من أصحاب مالك ، أنه إذا قطر من الثدي مقدار خمس رضعات في جب من ماء فسقي منه الطفل تثبت به الحرمة.. ووجه قولـهم: إن اللبن وصل إلى جوف الطفل بقدره وفي وقته (أي فترة الرضاعة) إذا كان اللبن غالبا، ولا شك في وقت الرضاع، والدليل على أن القدر المحرم من اللبن، وصل إلى جوف الصبي إن اللبن وإن كان مغلوبا فهو موجود شائع في أجزاء الماء، وإن كان لا يرى فيوجب الحرمة، كما يتفقون على أن اللبن لو اختلط بالماء، تقع به الحرمة بمنـزلة ما لو انفرد اللبن، أو كان مختلطا لم تذهب عينه.

وسبب الاختلاف بين الحنفية والشافعية وغيرهم، هـو اختلاف رأيهم فيما إذا كان «يبقى للبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره، أم لا يبقى به حكمها، كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر».

ولكن هـناك اعتراضات عديدة على هـذا المشروع، تتمثل أولا في جدواه، ثم ثانيا في الحرمـة الشـديدة التي سـيؤدي إليها، وتتلخص فيما يلي:-

1- أن كل أم بعد ولادتـها يرزقها الله اللبن الكافي لتغذيـة طفلها [ ص: 86 ] أو أطفالها، والتصرف في كمية من هـذا اللبن ستؤثر بلا شك على نصيب طفلها، وبخاصة إذا أخذ هـذا التصرف صفة الدورية.

2- أن الدولة التي ستقوم بهذا المشروع، سوف تلجأ إلى تشجيع المتبرعات باللبن، بمنحهم مالا، ولن تلجأ المتبرعة إلى ذلك إلا لحاجتها إلى المال -كما هـو مشاهد حاليا عند المتبرع بالـدم- وغالبا ما ستكون هـذه الألبان قليلة القيمة الغذائية، وقد لا تحتوي على العناصر التي تحقق الغذاء الأمثل للطفل.

3- إن مص اللبن من ثدي الأم بمعرفة الطفل، هـي الطريقة المثلى التي لا تسبب للأم أي ألم، أو مجهود يؤدي إلى إجهادها، أما أداء ذلك بمعرفة آلات، أو شيء من هـذا القبيل سيؤدي بالتأكيد إلى استنـزاف لصحة الأم، وإجهاد للغدد التي تفرز اللبن، وإهانة لكرامة المرأة.

4- أن تجفيف لبن الأمهات، ما هـو إلا تعريض اللبن للحرارة، ليفقد الماء الذي به على هـيئة بخار ماء، وتبقى باقي المواد التي يحتوى عليها اللبن، وعند الاستعمال مرة أخرى يضاف إليه كمية من الماء، حتى يتمكن الطفل من تناوله سائلا، ومن ذلك يتبين أن المواد التي يتكون منها اللبن باقية، وحصل التغذي للطفل بها.

5- أن ما تكلم عنه بعض الفقهاء من عدم حرمة اللبن الذي أضيف إليه الماء، بحيث أصبح الماء غالبا، إنما يقصدون لبن الأم بحالته الطبيعية، عند رضعه كمية كبيرة من الماء، بحيث يفقد اللبن شكله ولونه المعروف، [ ص: 87 ] ويأخذ السائل حكم الغالب عليه، أما تجفيف اللبن، ثم إضافة الماء إليه، ففيه حفاظ على كافة العناصر التي يحتوي عليها اللبن، فيصبح اللبن بتركيزه الأصلي، أو قريبا منه.

6- أن حرمة النسب بالرضاع، انفردت به الشريعة الإسلامية، لحكمة أرادها الله العزيز الحكيم، ويترتب على ثبوت الحرمة، حرمة الزواج بين المرضعة والطفل، وكذلك أصولها وفروعها، وباقي الأقارب التي تحرم بالنسب، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) (أخرجه مسلم ) ، ومخالفة ذلك أمر خطير، يترتب عليه إقامة علاقات غير شرعية بين الرجل والمرأة، كما أن الأولاد من هـذا الزواج، سيكونون أولادا غير شرعيين.

وقد يختلف الفقهاء في أمور أخرى، ولا غبار على الناس أن يتبعوا هـذا

الرأي أو ذاك، فالكل في نطاق الشريعة، وأبواب الفقه عامرة بالخلافات الفقهية بين الفقهاء، ولكل فقيه أتباعه الذين يلتزمون باجتهاد فقيههم، وليس هـناك غبار على ذلك، إنما يختلف الأمر كلية فيما يتعلق بموضوعنا هـذا، إذ إن قـياس فكرة «بنك اللبـن» على ما ذكره بعض الفقهاء من عدم حرمة اللبن، الذي يغلب عـليه الماء أو يتحول إلى طعام أو غير ذلك، قياس مع الفارق، وفقا لما سبق أن ذكرنا علاوة على خطورة اتباع الرأي الذي يجيز «بنك اللبن» للحرمة الشديدة التي يمكن أن يؤدي إليها، نتيجة الزيجات غير الشرعية. [ ص: 88 ]

7- أنه يجب عدم إغفال آراء الفقهاء الذين رأوا ثبوت الحرمة بين المرضعة والرضيع -حتى لو اختلط اللبن بغيره- وبخاصة أن الخلاف وقع بين بعض فقهاء الحنفية أنفسهم في بعض الأمور.

8- أنه لا خلاف بين الفقهاء على حرمة اللبن الذي يختلط بلبن نسوة أخريات، ولكن اقتصر الخلاف على أن الحرمة: هـل تكون على اللبن الغالب فقط، أم على جميع الألبان المختلطة معه؟ فهذا يؤكد أن فكرة «بنك اللبن» سيكون فيها حرمة على رأي جميع الفقهاء.

9- أنه لو تم التوسع في تنفيذ فكرة «بنك اللبن» بحيث تسمح بالاستيراد أو التصدير، فإن ذلك سيؤدى إلى زيادة نطاق الحرمة بين الناس، بحيث لا تقتصر على بلد واحد بل ستتوسع إلى كافة البلاد التي سيتم بينها تداول هـذه الألبان.

10- أن انتشار فكرة «بنك اللبن» سيؤدي إلى إرضاع الأطفال

المسلمين من لبن أمهات مشركات، أو من أمهات ذات طباع غير حسنة، وقد ورد عن الصحابة والصالحين كراهية ذلك، ومن ذلك ما جاء في المغني: «كره أبو عبد الله الإرضاع بلبن الفجور والمشركات... لأن لبن الفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور، ويجعلها أما لولده فيتعير بها ويتضرر طبعا وتعيرا، والارتضاع من المشركة يجعلها أما لها حرمة الأم مع شركها، وربما مال إليها في محبة دينها، ويكره الارتضاع بلبن الحمقاء كي لا يشبهها الولد في الحمق، فإنه يقال إن الرضاع يغير الطباع، والله تعالى أعلم». [ ص: 89 ]

11- كما ذكر الفخر الرازي عند تفسيره لقوله تعالى، على لسان قوم السيدة مريم: ( يا أخت هـارون ) .. إلى قولـه تعالى: ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) (مريم: 28-30) . قال الفخر الرازي: إن قول عيسى عليه السلام : ( إني عبد الله ) ، «يفيد إزالة التهمة عن الأم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخص الفاجرة، بولد في هـذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة» .. كما ورد في الجامع لأحكام القرآن أن قتادة قال : ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك، فقال لها عيسى عليه السلام : «طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى، واتبع ما فيه، وعمل به».

نخلص بعد هـذا الاستعراض المستفيض إلى أنه ينبغي أن نحرص دائما على أن نرضع أطفالنا من ألبان أمهاتهم، وألا نلجأ إلى بدائل أخرى، طبيعية أو صناعية إلا للضرورة القصوى؛ لأنه من المعروف، أن الضرورات تبيح المحظورات، ونود أن نشير إلى أن علماء الدين والطب يحرصون دائما على بيان أهمية الرضاعة الطبيعية؛ لأنها الأفضل للطفل، وذلك في مختلف الندوات والمؤتمرات التي تعقد لهذا الغرض، والتي تضمنت العديد من النصائح الغالية، منها: « أن الرضاعة الصناعية إن لم تفتك [ ص: 90 ] بالطفل وتودي بحياته فإنها سوف تقضي بالحتم إنتاج أطفال دون المستوى الصحي الطبيعي الذي سوف يمتد حتما إلى شبابهم وسنوات إنتاجهم »، و «أن الثورة الحقيقية التي تحقق الصحة والحياة الذكية للطفل تقوم على دعائم أربعة هـي: الرضاعة الطبيعية، والإرواء عن طريق الفم، والتطعيمات المختلفة ضد الأمراض الستة المعروفة، وتتبع نمو الطفل بدنيا ونفسيا وذهنيا»، فإن الرضاعة الطبيعية تعتبر الدعامة الأولى في هـذا المجال.

وتؤكد الأبحاث الحديثة أن الرضاعة الطبيعية تساعد كثيرا على تنمية الذكاء عند الطفل، فالطفل في أمس الحاجة إلى الأمومة الوثيقة الاتصال به، أي أنه في حاجة إلى الحب والدفء العاطفي والاتصال اللمسي بدرجة لا تقل عن التغذية الجسمية التي يستخلصها من الرضعة.. ذلك لأن هـذه العلاقة تزود الرضيع بالأمن والطمأنينة علاوة على الحب

والدفء العاطفي.. ومعنى ذلك أنه يجب أن تكون الأم وطفلها وحدة واحدة من الوجهة النفسية، وهذه الوحدة تتحقق أثناء الرضاعة.

ولكن ليس معنى ذلك أنه كلما بكى الطفل يجب على الأم أن ترضعه، كما في كثير من الحالات، أو أن تلجأ إلى هـزه بصفة شبه مستمرة، أو إلى حمله على كتفها كلما بكى، فإن الطفل يبكي عندما يجوع أو عندما يشعر بالضيق نتيجة البلل من تبوله أو تبرزه، أو نتيجة الألم والمغص أو احتكاك يضايق جلده الرقيق.. فلو أن الأم عنيت بنظافته وصحته وتغذيته في مواعيد منتظمة، لما بكى إلا نادرا.. وفي هـذه الحالة [ ص: 91 ] يجب تركه، فيقلع من تلقاء نفسه عن البكاء.. لكننا نرى -ويا للآسف- بعض الأمهات يلجأن إلى حمل الطفل أو وضع "بزازة " في فمه بصفة شبه دائمة، فيعودنه عادات غير مستحبة بل وسيئة، فيبكي الطفل كي تحمله أمه أو لكي تضع له البزازة، وهو غير جائع، ومن ثم تكون الأم قد أساءت للطفل بتكوين عادات ضارة مرتبطة بالتغذية، يصعب إقلاع الطفل عنها.. وقد تضطر الأم إلى أساليب أكثر ضررا في دفعه للإقلاع عن هـذه العادات المستهجنة، كأن تضع له في البزازة «مرا» فيلجأ إلى مص أصابعه، وما إلى غير ذلك من الأساليب التعويضية غير السوية.

وفي عملية الفطام نجد أن بعض الأمهات قد تؤجل، فطام الطفل إلى سن متأخرة، أو تلجأ إلى عملية الفطام فجأة كما ذكرنا باستعمال «المر» أو وضع مواد في اللبن لم يتعودها الطفل، مما يحدث له صدمة

نفسية شديدة قد تؤدي إلى ظهور الأزمات الانفعالية في الطفولة، في حين أن الفطام يجب أن يبدأ مبكرا من سن سـتة أشهر أو سبعة، وأن يكون متدرجا من اللبن.. ذلك السائل الذي تعوده بما له من خواص معينة ثابتة من حيث درجة الحلاوة والسيولة والحرارة، إلى أطعمة نصف سائلة ثم إلى أطعمة صلبة عندما تظهر الأسنان، فإن مراعاة التدرج في عملية الفطام لها أهميتها خاصة في الصحة النفسية للطفل، ذلك لأهمية التغذية عند الطفل، فهي أهم ما لديه للاتصال بالعالم الخارجي وإشباع رغباته النفسية وحاجاته الجسمية. [ ص: 92 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية