الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مدة الرضاعة:

من الأهمية بمكان، تحـديد الفترة التي ينبغي للأم أن ترضـع خـلالها طفلها، وقد تمت الإشارة إلى هـذه الفترة، في قوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة:233) ، ويقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : «.. فإنما الرضاعة من المجاعة » (أخرجه البخاري ) أي أن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، حيث يكون الرضيع طفلا، يسد اللبن جوعته.. وتحديد العامين في الآية الكريمة، وإن لم يكن تحديد إيجاب، لقوله تعالى: [ ص: 48 ] ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وأنه علق إتمام الرضاعة بإرادة الوالدين - كما في قوله تعالى: ( فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) (البقرة:233) ، إلا أن المقصود من التحديد الذي ورد في الآية المشار إليها سالفا، هـو قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فإن أراد الأب أن يفطـمه قبل الحوليـن، ولم ترض الأم، لم يكن له ذلك، وكذلك الحال، لو كان على العكس، أي أرادت الأم الفطام، ورفض الأب، أما إذا اتفقا على أن يفطما الطفل قبل تمام الحولين، فلهما ذلك.

فالفطام في أقل من حولين لا يجوز، إلا عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التجارب، وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاعة ، فتحاول الفطام، والأب أيضا قد يمل من إعطاء الأجر على الرضاع فيحاول الفطام، دفعا لذلك، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد، لغرض النفس، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، فاتفاق الكل، يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة.. فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير، كم شرط في جواز فطامه من الشرائط، دفعا للمضار عنه، ثم عند اجتماع كل هـذه الشرائط، لم يصرح بالإذن بل قال: ( فلا جناح عليهما ) وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفا، كانت رحمة الله معه أكثر، وعنايته به أشد. [ ص: 49 ]

وقد " روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال عن التي تضع لستة أشهر: «أنها ترضع حولين كاملين، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا» " ، وحجة ابن عباس رضي الله عنهما ، قوله تعالى: ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) (الأحقاف:15) ، وأن هـذه الآية دلت على أن زمان هـاتين الحالتين، هـو هـذا القدر من الزمان، وقدره ثلاثون شهرا، فكلما ازداد في مدة إحدى الحالتين، انتقص من مدة الحالة الأخرى، وقال آخرون: الحولان هـما المدة اللازمة، لإتمام رضاع كل مولود.

وقد أكد ابن كثير أيضا، أهمية اتفاق رأى الوالدين على فطام الطفل، فقال: «فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل حولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك.. فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخـر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك، من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالـدين في تربية طفلهما، و أرشـدهما إلى ما يصلحهما، ويصلحه».

وقد أشار القرطبي إلى أن مدة الرضاع التي ذكرت في القرآن الكريم، في قوله تعالى: ( حولين كاملين ) ، ليس المقصود بها حولا كاملا وبعض حول آخر؛ لأن القائل قد يقول: «أقمت عند فلان حولين وهو [ ص: 50 ] يريد حولا وبعض حول آخر، قال تعالى: ( فمن تعجل في يومين ) (البقرة:203) ، وإنما يتعجل في يوم، وبعض الثاني».

ونود أن نذكر، أن الأمر الذي ورد بالقرآن الكريـم، للوالدات بإرضاع أولادهن، جاء غير قاطع بالوجـوب، رحمـة من الله تـعالى بالأم والطفل، مراعاة لبعض العوارض التي قد تـطرأ على صحـة الأم، أو ظروفها، مما سنشير إليه فيما بعد، كمرضها، إذ أن الرضاع يكون في هـذه الحالة -وغيرها- مضرا بالأم وبالطفل، أو غير متيسر، لذا فإن الأمر بالإرضاع لو جاء على سبيل الوجوب، في كل الحالات، لكان فيه مشقة وضرر للأم، وللطفل، واكتساب معصية إن لم يتم إرضاع الطفل، لمخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى .

ولا شك أن في الرضاعة الطبيعية حسن اقتداء، فقد تكررت الإشارة إلى الرضاعة في القرآن الكريم، تصريحا أو تلميحا، في آيات عديدة، منها قوله تعالى:

- ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة:233) .

- ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) (النساء:23) . [ ص: 51 ]

- ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ) (الحج:2) .

- ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) ، ( وحرمنا عليه المراضع ) (القصص:7، 12) .

- ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ) (لقمان:14) .

- ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) (الأحقاف:15) .

- ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) (الطلاق:6) .

وتشير هـذه الآيات، فيما يتعلق بالرضاعة ، إلى عدة أمور، منها:

مدة الرضاعة، والرضاعة من الأم، والمحرمات من الرضاعة، إلى غير ذلك.. ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السلام ، العبرة والقدوة الحسنة، فعند ولادته أوحى الله إلى أمه بإرضاعه عليه السلام وعندما ألقته في اليم، بشرها الله بأنه سيرده إليها، لترضعه، وقد حرم الله عليه المراضع، فرفض موسى عليه السلام أن يرضع من أية مرضعة، وقد يسر الله بعد ذلك [ ص: 52 ] الأسباب التي أدت إلى عودة أم موسى إليه لترضعه، ويتحقق وعد الله سبحانه وتعالى ، فإن قوله الحق، وهو علام الغيوب.

فقصة موسى عليه السلام ، وغيرها من القصص التي وردت في القرآن الكريم، فيها كثير من العبر، وتدعو للتأمل والتفكر والاقتداء، والمراد من ذكر هـذه القصص، هـو أن يعتبر بها العاقل الذي يتفكر وينتفع بمعرفته، وقد قال الله تعالى عن ذلك: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) (يوسف:111) .

التالي السابق


الخدمات العلمية