الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله عز وجل : فمن شهد منكم الشهر فليصمه يدل على النهي عن صيام يوم الشك من رمضان ؛ لأن الشاك غير شاهد للشهر ؛ إذ هو غير عالم به ، فغير جائز له أن يصومه عن رمضان ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين فحكم لليوم الذي غم علينا هلاله بأنه من شعبان ، وغير جائز أن يصام شعبان عن رمضان مستقبلا .

ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا الفضل بن المخلد المؤدب قال : حدثنا محمد بن ناصح قال : حدثنا بقية عن علي القرشي قال : أخبرني محمد بن عجلان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الدأدأة . وهو اليوم الذي يشك فيه لا يدرى من شعبان هو أم من رمضان

حدثنا محمد بن بكر : قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن صلة قال : كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه ، فأتي بشاة ، فتنحى بعض القوم ، فقال عمار : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم .

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا علي بن محمد قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد عن محمد بن عمرو ، وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، ولا تقدموا بين يديه بصيام يوم [ ص: 256 ] ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم . ومعاني هذه الآثار موافقة لدلالة قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ولا يرى أصحابنا بأسا بأن يصومه تطوعا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم بأنه من شعبان فقد أباح صومه تطوعا .

وقد اختلف في الهلال يرى نهارا ، فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعي : " إذا رأى الهلال نهارا فهو لليلة المستقبلة " ولا فرق عندهم بين رؤيته قبل الزوال وبعده . وروي مثله عن علي بن أبي طالب وابن عمر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأنس بن مالك وأبي وائل وسعيد بن المسيب وعطاء وجابر بن زيد .

وروي عن عمر بن الخطاب فيه روايتان : إحداهما : أنه إذا رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، وإذا رآه بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة ؛ وبه أخذ أبو يوسف والثوري .

وروى سفيان الثوري عن الركين بن الربيع عن أبيه قال : كنت مع سليمان بن ربيعة ببلنجر فرأيت الهلال ضحى فأخبرته ، فجاء فقام تحت شجرة فنظر إليه ، فلما رآه أمر الناس أن يفطروا .

قال أبو بكر : قال الله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل وقد كان هذا الرجل مخاطبا بفعل الصوم في آخر رمضان مرادا بقوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فواجب أن يكون داخلا في خطاب قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل ؛ لأن الله تعالى لم يخص حالا من حال ، فهو على سائر الأحوال سواء رأى الهلال بعد ذلك أو لم يره .

ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن رؤيته بعد الزوال لم يزل عنه الخطاب بإتمام الصوم بل كان داخلا في حكم اللفظ ، فكذلك رؤيته قبل الزوال لدخوله في عموم اللفظ .

ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ومعلوم أن مراده صوم يستقبله بعد الرؤية ؛ والدلالة على ذلك من وجهين : أحدهما : استحالة الأمر بصوم يوم ماض ، والآخر اتفاق المسلمين على أنه إذا رأى الهلال في آخر ليلة من شعبان كان عليه صيام ما يستقبل من الأيام . فثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته إنما هو صوم بعد الرؤية ، فمن رأى الهلال نهارا قبل الزوال في آخر يوم من شعبان لزمه صوم ما يستقبل دون ما مضى لقصور مراد النبي صلى الله عليه وسلم على صوم يفعله بعد الرؤية .

وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فأوجب بذلك اعتبار الثلاثين لكل شهر يخفى علينا رؤية الهلال فيه ، فلو احتمل [ ص: 257 ] الهلال الذي رأى نهارا الليلة الماضية واحتمل الليلة المستقبلة لكان الاحتمال لذلك جاعله في حكم ما خفي علينا رؤيته ، فواجب أن يعد الشهر ثلاثين يوما بقضية قوله صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل : لما قال صلى الله عليه وسلم : " وأفطروا لرؤيته " اقتضى ظاهر الأمر بالإفطار أي وقت رأى الهلال فيه ، فلما اتفق الجميع على أنه مزجور عن الإفطار لرؤيته بعد الزوال خصصناه منه وبقي حكم العموم في رؤيته قبل الزوال . قيل له : مراده صلى الله عليه وسلم رؤيته ليلا ، بدلالة أن رؤيته بعد الزوال لا توجب له الإفطار ؛ لأنه رآه نهارا ، وكذلك حكمه قبل الزوال لوجود هذا المعنى .

وأيضا لو كان ذلك محمولا على حقيقته لاقتضى أن يكون ما بعد الرؤية من ذلك اليوم من شوال وما قبله من رمضان لحصول اليقين بأن مراده الإفطار لرؤية متقدمة لا لرؤية متأخرة عنه ؛ لاستحالة أمره بالإفطار في وقت قد تقدم الرؤية ، فيوجب ذلك أن يكون ما بعد الرؤية من هذا اليوم من شوال ، وما قبلها من رمضان ، فيكون الشهر تسعة وعشرين يوما ، وبعض يوم .

وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم للشهر بأحد عددين من ثلاثين أو تسعة وعشرين ، لقوله عليه السلام : الشهر تسعة وعشرون وقوله : الشهر ثلاثون واتفقت الأمة على وجوب اعتقاد معنى هذا الخبر في أن الشهر لا ينفك من أن يكون على أحد العددين اللذين ذكرنا ، وأن الشهور التي تتعلق بها الأحكام لا تكون إلا على أحد وجهين دون أن يكون تسعا وعشرين وبعض يوم ، وإنما النقصان والزيادة بالكسور إنما يكون في غير الشهور الإسلامية ، نحو شهور الروم التي منها ما هو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم وهو شباط إلا في السنة الكبيسة فإنه يكون تسعة وعشرين يوما ، ومنها ما هو واحد وثلاثون ومنها ما هو ثلاثون ، وليس ذلك في الشهور الإسلامية .

كذلك فلما امتنع أن يكون الشهر إلا ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما علمنا أنه لم يرد بقوله : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " إلا أن يرى ليلا ، وأنه لا اعتبار برؤيته نهارا لإيجابه كون بعض يوم من هذا الشهر وبعضه من شهر غيره .

وأيضا فإن الذي قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته هو الذي قال : فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ورؤيته نهارا في معنى ما قد غمي علينا لاشتباه الأمر في كونه لليلة الماضية أو المستقبلة ، وذلك يوجب عده ثلاثين . وأيضا قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين رواه ابن عباس ، وقد تقدم ذكر سنده ؛ فحكم النبي صلى الله عليه وسلم للهلال الذي قد حال بيننا وبينه حائل [ ص: 258 ] من سحاب بحكم ما لم ير لو لم يكن سحاب ، مع العلم بأنه لو لم يكن بيننا وبينه حائل من سحاب لرئي ، لولا ذلك لم يكن لقوله فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين معنى ؛ لأنه لو كان يستحيل وقوع العلم لنا بأن بيننا وبينه حائلا من سحاب لما قال صلى الله عليه وسلم فإن حال بينكم وبينه سحاب فعدوا ثلاثين فيجعل ذلك شرطا لعد ثلاثين مع علمه باليأس من وقوع علمنا بذلك .

وإذا كان ذلك كذلك فقد اقتضى هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم أنا متى علمنا أن بيننا وبين الهلال حائلا من سحاب لو لم يكن لرأيناه أن نحكم لهذا اليوم بغير حكم الرؤية ، فاعتبار عدم الرؤية من الليل فيما رأيناه نهارا أولى ، فأوجب ذلك أن يكون حكم هذا اليوم حكم ما قبله ويكون من الشهر الماضي دون المستقبل لعدم الرؤية من الليل ، بل هو أضعف أمرا مما حال بيننا وبين رؤيته سحاب ؛ لأن ذلك قد يحيط العلم به وهذا لا يحيط علمنا بأنه من الليلة الماضية بل أحاط العلم بأنا لم نره الليلة الماضية مع عدم الحائل بيننا وبينه من سحاب أو غيره ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية