الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال أبو بكر : قد قيل فيه وجوه :

أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح : قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح ، وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران قال : غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصوق [ ص: 327 ] ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو ، فقال الناس : مه مه ، لا إله إلا الله ، يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا : هلم نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأنزل الله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد ؛ قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية .

فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله ، وأن الآية في ذلك نزلت . وروي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك . وروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني : " الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي " . وقيل : " هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف " . وقيل : " هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو " وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب . وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو ، فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية ، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك ؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين .

وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين ، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله ؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم ، فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك ، وأرجو أن يكون فيه مأجورا ؛ وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ، ولكنه مما يرهب العدو ، فلا بأس بذلك ؛ لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين . والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره ؛ وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو ؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة ، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على [ ص: 328 ] المسلمين . فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وقال : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله .

وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء ، قال الله تعالى : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله .

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن الجراح ، عن عبد الله بن يزيد ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عبد العزيز بن مروان قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وذم الجبن يوجب مدح الإقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية