الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا هو مجاز في اللغة ؛ لأن الخديعة في الأصل هي الإخفاء ؛ وكأن المنافق أخفى الإشراك وأظهر الإيمان على وجه الخداع والتمويه والغرور لمن يخادعه والله تعالى لا يخفى عليه شيء ولا يصح أن يخادع في الحقيقة .

وليس يخلو هؤلاء القوم الذين وصفهم الله تعالى بذلك من أحد وجهين : إما أن يكونوا عارفين بالله تعالى ، قد علموا أنه لا يخادع بتساتر شيء ، أو غير عارفين ، فذلك أبعد ؛ إذ لا يصح أن يقصده لذلك ، ولكنه أطلق ذلك عليهم ؛ لأنهم عملوا عمل المخادع ، ووبال الخداع راجع عليهم ، فكأنهم إنما يخادعون أنفسهم وقيل : إن المراد : يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف ذكر النبي عليه السلام كما قال : إن الذين يؤذون الله ورسوله والمراد يؤذون أولياء الله وأي الوجهين كان فهو مجاز وليس بحقيقة ، ولا يجوز استعماله إلا في موضع يقوم الدليل عليه .

وإنما خادعوا رسول الله تقية لتزول عنهم أحكام سائر المشركين الذين أمر النبي عليه السلام والمؤمنون بقتلهم ؛ وجائز أن يكونوا أظهروا الإيمان للمؤمنين ليوالوهم كما يوالي المؤمنون بعضهم بعضا ويتواصلون فيما بينهم ؛ وجائز أن يكونوا يظهرون لهم الإيمان ليفشوا إليهم أسرارهم [ ص: 31 ] فينقلوا ذلك إلى أعدائهم ، وكذلك قول الله تعالى : الله يستهزئ بهم مجاز ؛ وقد قيل فيه وجوه :

أحدها : على جهة مقابلة الكلام بمثله ، وإن لم يكن في معناه ، كقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها

والثانية : ليست بسيئة بل حسنة ، ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها وقوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

والثاني ليس باعتداء .

وقوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به والأول ليس بعقاب ، وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله ومزاوجته وتقول العرب : الجزاء بالجزاء ، والأول ليس بجزاء ، ومنه قول الشاعر :

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومعلوم أنه لم يمتدح بالجهل ، ولكنه جرى على عادتهم في ازدواج الكلام ومقابلته .

وقيل : إن ذلك أطلقه الله تعالى على طريق التشبيه ؛ وهو أنه لما كان وبال الاستهزاء راجعا عليهم ولاحقا لهم كان كأنه استهزأ بهم .

وقيل : لما كانوا قد أمهلوا في الدنيا ولم يعاجلوا بالعقوبة والقتل كسائر المشركين وأخر عقابهم فاغتروا بالإمهال كانوا كالمستهزإ بهم .

ولما كانت أجرام المنافقين أعظم من أجرام سائر الكفار المبادين بالكفر ؛ لأنهم جمعوا الاستهزاء والمخادعة بقوله : يخادعون الله وقولهم إنما نحن مستهزئون وذلك زيادة في الكفر ، وكذلك أخبر الله تعالى أنهم في الدرك الأسفل من النار ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة ، خالف بين أحكامهم في الدنيا وأحكام سائر المظهرين للشرك في رفع القتل عنهم بإظهارهم الإيمان وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغيره .

ثبت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الأجرام ، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه فأوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه الرجم بالتوبة ألا ترى إلى قوله عليه السلام في ماعز بعد رجمه وفي الغامدية بعد رجمها : لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له .

والكفر أعظم من الزنا ، ولو كفر رجل ثم تاب قبلت توبته ، وقال تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين ولم يوجب على القاذف بالكفر الحد ، وهو أعظم من الزنا ، وأوجب على شارب الخمر الحد ، ولم يوجب على شارب الدم وآكل الميتة فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام ، ولأنه لما كان جائزا [ ص: 32 ] في العقل أن لا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حدا رأسا ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة ، جاز أن يخالف بينها فيوجب في بعضها أغلظ مما يوجب في بعض ، ولذلك قال أصحابنا : لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس .

وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق ، وما ذكره الله تعالى من أمر المنافقين في هذه الآية وإقرارهم من غير أمر لنا بقتالهم أصل فيما ذكرنا ولأن الحدود والعقوبات التي أوجبها من فعل الإمام ومن قام بأمور الشريعة جارية مجرى ما يفعله هو تعالى من الآلام على وجه العقوبة فلما جاز أن لا يعاقب المنافق في الدنيا بالآلام من جهة الأمراض والأسقام والفقر والفاقة ، بل يفعل به أضداد ذلك ، ويكون عقابه المستحق بكفره ونفاقه مؤجلا إلى الآخرة ، جاز أن لا يتعبدنا بقتله في الدنيا وتعجيل عقوبة كفره ونفاقه وقد غبر النبي عليه السلام بمكة بعد ما بعثه الله تعالى ثلاث عشرة سنة يدعو المشركين إلى الله وتصديق رسله غير متعبد بقتالهم ، بل كان مأمورا بدعائهم في ذلك بلين القول وألطفه .

فقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقال : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم في نظائر ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه .

ثم فرض القتال بعد الهجرة لعلمه تعالى بالمصلحة من كلا الحالين بما تعبد به ، فجاز من أصل ما وصفنا أن يكون الأمر بالقتل والقتال خاصا في بعض الكفار وهم المجاهرون بالكفر دون من يظهر الإيمان ويسر الكفر ، وإن كان المنافق أعظم جرما من غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية