الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 251 ] فصل [ اختلفوا هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث ]

والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق : فرقة قالت : إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث ، وغلا بعض هؤلاء حتى قال : ولا بعشر معشارها ، قالوا : فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص ، ولعمر الله إن هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر ، واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية ، وحوادث العباد غير متناهية ، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع ، وهذا احتجاج فاسد جدا من وجوه :

أحدها أن ما لا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعا ، فيحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك .

النوع الثاني : أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية . الثالث : أنه لو قدر عدم تناهيها فإن أفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية ، وهذا كما تجعل الأقارب نوعين : نوعا مباحا ، وهو بنات العم والعمة وبنات الخال والخالة ، وما سوى ذلك حرام ، وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا ، وما سوى ذلك لا ينقضه ; وكذلك ما يفسد الصوم ، وما يوجب الغسل وما يوجب العدة ، وما يمنع منه المحرم ، وأمثال ذلك ، وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك ، فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأفرادا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس .

وهذا كما سئل صلى الله عليه وسلم عن أنواع من الأشربة كالبتع والمزر ، وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال " { كل مسكر حرام } ، و { كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد } { وكل قرض جر نفعا فهو ربا } { وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } { وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه } { وكل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين } { وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } { وكل معروف صدقة } وسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية جامعة فاذة : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ومن هذا قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } فدخل في الخمر كل مسكر ، جامدا كان أو مائعا من العنب أو من غيره ، ودخل في الميسر كل أكل مال بالباطل ، وكل عمل محرم يوقع في العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة .

ودخل في قوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } كل يمين منعقدة ، ودخل في قوله : { يسألونك ماذا أحل [ ص: 252 ] لهم قل أحل لكم الطيبات } كل طيب من المطاعم والمشارب والملابس والفروج ، ودخل في قوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ، { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ما لا تحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللطمة والضربة والكسعة كما فهم الصحابة .

ودخل في قوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة ، وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض ، وكل شرك بالله وإن دق في قول أو عمل أو إرادة بأن يجعل لله عدلا بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد ، وكل قول على الله لم يأت به نص عنه ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيا أو إثباتا أو خبرا عن فعله ; فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه .

ودخل في قوله : { والجروح قصاص } وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه ، وليس هذا تخصيصا ، بل هو مفهوم من قوله : { قصاص } وهو المماثلة ، ودخل في قوله : { وعلى الوارث مثل ذلك } وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كل وارث قريب أو بعيد ، ودخل في قوله : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } جميع الحقوق التي للمرأة وعليها ، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفا لا منكرا ، والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالة .

فصل

الفرقة الثانية : قابلت هذه الفرقة ، وقالت : القياس كله باطل ، محرم في الدين ، ليس منه ، وأنكروا القياس الجلي الظاهر حتى فرقوا بين المتماثلين ، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة أصلا ، ونفوا تعليل خلقه وأمره ، وجوزوا - بل جزموا - بأنه يفرق بين المتماثلين ، ويقرن بين المختلفين في القضاء والشرع ، وجعلوا كل مقدور فهو عدل ، والظلم عندهم هو الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين .

وهذا وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر ، وخالفوا القدرية والنفات ، فقد أصابوا في إثبات القدر وتعليق المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلق بذواتهم وصفاتهم ، وأصابوا في إثبات تناقض القدرية والنفات ، ولكن ردوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلطوا عليهم به خصومهم ، وصاروا ممن رد بدعة ببدعة ، وقابل الفاسد بالفاسد ، ومكنوا خصومهم بما نفوه من الحق من الرد عليهم ، وبيان تناقضهم ، ومخالفتهم الشرع والعقل [ ص: 253 ]

فصل

الفرقة الثالثة : قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب ، وأقروا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة ، وقالوا : إن علل الشرع إنما هي مجرد أمارات وعلامات محضة كما قالوه في ترك الأسباب وقالوا : إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب ، لا أنه سبب فيه ، والأعمال الصالحة والقبيحة علامات محضة ليست سببا في حصول الخير والشر ، وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنا بعضه ببعض قالوا أحدهما دليل على الآخر ، مقارن له اقترانا عاديا ، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة ، ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه .

وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاثة ، وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب ومناقضة بعضها لبعض ومعارضة بعضها لبعض بقي في الحيرة ، فتارة يتحيز إلى فرقة منها ، له ما لها وعليه ما عليها ، وتارة يتردد بين هذه الفرق تميميا مرة وقيسيا أخرى ، وتارة يلقي الحرب بينهما ويقف في النظارة ، وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان ، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون من إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه - سبحانه - وأمره ، وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة واتفق عليه الكتاب والميزان .

ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه ينكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط ، فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر ، وقول الجهمية المنكرين للحكم والأسباب والرحمة ، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية ، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل . وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية . والجهمية رءوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة الله ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة . والقدرية والنفات أنكروا كمال قدرته ومشيئته ، فأولئك أثبتوا نوعا من الملك بلا حمد ، وهؤلاء أثبتوا نوعا من الحمد بلا ملك ، فأنكر أولئك عموم حمده ، وأنكر هؤلاء عموم ملكه ، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه ، فله كمال الملك وكمال الحمد ، فلا يخرج عين ولا فعل عن قدرته ومشيئته وملكه ، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد ، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراط مستقيم ، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به ولأجله .

والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه - وهو [ ص: 254 ] القياس - إلى ثلاث فرق : فرقة أنكرته بالكلية ، وفرقة قالت به وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات ، والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس ، ثم قالت غلاتهم : أحالت عليه أكثر الأحكام ، وقال متوسطوهم : بل أحالت عليه كثيرا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به .

والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث ، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث ، ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس ، بل قد بين الأحكام كلها ، والنصوص كافية وافية بها ، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص ، فهما دليلان : الكتاب والميزان ، وقد تخفى دلالة النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس ، ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا ، وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا ، وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته ، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته .

التالي السابق


الخدمات العلمية