الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم أوشح ما تقدم بمسائل جليلة ومباحث جميلة وهي ست :

( المسألة الأولى ) مما يتوهم أنه إنشاء وليس كذلك وهو الظهار في قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي يعتقد الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقوله أنت طالق إنشاء للطلاق فإن البابين في الإنشاء سواء ، وليس كذلك وبيانه من وجوه أحدها أنه قد تقدم أن من خصائص الإنشاء عدم قبوله [ ص: 32 ] للتصديق والتكذيب والله سبحانه وتعالى يقول { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } فكذبهم الله في ثلاثة مواطن بقوله تعالى { ما هن أمهاتهم } فنفى تعالى ما أثبتوه ومن قال لامرأته أنت طالق لا يحسن أن يقال له ما هي مطلقة ، وإنما يحسن ذلك إذا أخبر عن تقدم طلاقها ولم يتقدم فيها طلاق فدل ذلك على أن قول المظاهر خبر لا إنشاء ، والموطن الثاني في قوله تعالى { وإنهم ليقولون منكرا من القول } والإنشاء للتحريم لا يكون منكرا بدليل الطلاق ، وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا فإنه حينئذ كذب والكذب منكر والموطن الثالث قوله تعالى وزورا والزور هو الخبر الكذب فيكون قولهم كذبا وهو المطلوب ، وإذا كذبهم الله في هذه المواطن دل ذلك على أن قولهم خبر لا إنشاء .

( وثانيها ) أنا أجمعنا على أن الظهار محرم ، وليس للتحريم مدرك إلا أنه كذب والكذب لا يكون إلا في الخبر فيكون خبرا فإن قلت الطلاق الثلاث إنشاء وهو محرم فلا يستدل بالتحريم على الخبر قلت : الطلاق محرم لا للفظه بل للجمع بين الطلقات الثلاث من غير ضرورة ، وأما تحريم الظهار فلأجل اللفظ وليس في اللفظ ما يقتضي التحريم إلا كونه كذبا ؛ لأن الأصل عدم غيره ، ومتى كان كذبا كان خبرا ؛ لأن التكذيب من خصائص الخبر .

( وثالثها ) أن الله [ ص: 33 ] تعالى شرع فيه الكفارة ، وأصل الكفارة أن تكون زاجرة ماحية للذنب فدل ذلك على التحريم وإنما يثبت التحريم إذا كان كذبا كما تقدم من بقية التقرير .

( ورابعها ) قول الله تعالى بعد ذكر الكفارة { ذلكم توعظون به } والوعظ إنما يكون عن المحرمات فإذا جعلت الكفارة وعظا دل ذلك على أنها زاجرة لا ساترة ، وأنه حصل هنالك ما يقتضي الوعظ وما ذلك إلا الظهار المحرم فيكون محرما لكونه كذبا فيكون خبرا كما تقدم في التقرير .

( وخامسها ) قوله تعالى في الآية { وإن الله لعفو غفور } والعفو والمغفرة إنما يكونان في المعاصي فدل ذلك على أنه معصية ولا مدرك للمعصية إلا كونه كذبا والكذب لا يكون إلا في الخبر فيكون خبرا وهو المطلوب .

( فإن قلت ) بل هو إنشاء من وجوه :

( أحدها ) أن كتب المحدثين والفقهاء متظافرة على أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تحله الكفارة كما تحل الرجعة تحريم الطلاق والحديث في أبي داود ورد في ذلك ، وهو { أن خويلة بنت مالك قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه وهو عليه السلام يجادلني فيه ويقول اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل قوله تعالى { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية فقال ليعتق رقبة قالت لا يجد قال فيصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فيطعم ستين مسكينا قالت ما عنده من شيء يتصدق به قال فإني سأعينه بفرق من تمر قلت يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر قال قد أحسنت فاذهبي وأطعمي عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك } وروي في بعض طرق هذا الحديث أنها قالت { إنه قد أكل شبابي ونثرت له بطني فلما كبرت [ ص: 34 ] سني ظاهر مني ولي صبية صغار إن ضمهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا } قوله عليه السلام { أطعمي وارجعي إلى ابن عمك } يقتضي أنه قبل نزول الآية كان الحال يقتضي أنها لا ترجع إليه بطريق من الطرق وهذا هو الطلاق المؤبد .

والطلاق إنشاء فيكون الظهار كذلك ؛ لأنه كان عندهم طلاقا والأصل عدم النقل والتغيير ومن ادعاه فعليه الدليل .

( وثانيها ) أنه مندرج في حد الإنشاء فيكون إنشاء ؛ لأنه لفظ يترتب عليه التحريم فيكون سببا له والإنشاء من خصائصه أنه سبب لمدلوله وثبوت خصيصية الشيء يقتضي ثبوته فيكون إنشاء كالطلاق .

( وثالثها ) أنه لفظ يستتبع أحكاما تترتب عليه من التحريم والكفارة وغيرهما فوجب أن يكون إنشاء كالطلاق والعتاق وغير ذلك من صيغ الإنشاء فإن خروج هذا اللفظ عن باب الإنشاء بعيد جدا لا سيما وقد نص الفقهاء على أن له صريحا وكناية كالطلاق وغيره .

( والجواب عن الأول ) أن قولهم أنه كان طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا ينشئون الطلاق بل يقتضي ذلك أن العصمة في الجاهلية تزول عند النطق به فمجاز أن يكون زوالها ؛ لأنه إنشاء كما قلتم أو لأنه كذب وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الخبر الكذب لا تبقى امرأته في عصمته متى التزم بجاهليتهم ، وليس في حال الجاهلية ما يأبى ذلك بل لعبهم في أحوالهم أكثر من ذلك فقد التزموا أن الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد تصير سائبة ، فمجاز أن يلتزموا ذهاب العصمة عند كذب خاص ، ويقوي هذا الاحتمال القرآن الكريم بقوله تعالى { ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } الآية كما تقدم فإن التكذيب من خصائص الخبر فيكون ظهارهم خبرا كذبا التزموا عقيبه ذهاب العصمة كسائر ملتزماتهم الباطلة ، وقد عدها العلماء نحو عشرين نوعا من التحريمات التزموها بغير سبب يقتضيها من جهة الشرائع .

وذلك مبسوط في غير هذا الكتاب ( فإن قلت ) الآية لا تؤكد هذا الاحتمال فإن الفعل فيها مضارع لا ماض ، فقال يظاهرون ولم يقل ظاهروا بصيغة الماضي حتى يتناول الجاهلية بل هو خاص بمن يفعل ذلك في المستقبل بعد نزول الآية أو حال نزولها .

( قلت ) بل يتناول الجميع ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم ذلك وأدخل المظاهر الماضية في عموم الآية من أوس بن الصامت ولو لم يكن للماضي والمستقبل لما فعل ذلك عليه السلام ولقول العلماء إنه كان طلاقا فأقر تحريما تحله الكفارة وعلى ما يقوله السائل يكون بابا آخر تجدد في الشريعة غير ما تقدم في الجاهلية ، والعرب قد تستعمل الفعل المضارع للحالة المستمرة كقولهم يعطي ويمنع ويصل ويقطع تريد هذا شأنه أبدا في الماضي والحال والاستقبال ، ومنه { قول خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لن يخزيك أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل [ ص: 35 ] الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق } أي هذا شأنك وسجيتك في جميع عمرك ، وعلى هذا تنتظم الآية على الجميع .

( وعن الثاني ) أن ترتب التحريم على الظهار ممنوع بل الذي في الآية تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة فإذا قال الشارع تطهر قبل أن تصلي لا يقال الصلاة محرمة بل ذلك نوع من الترتيب كتقديم الإيمان على الفروع وتقديم الإيمان بالصانع على تصديق الرسل سلمنا أن الظهار يترتب عليه تحريم لكن التحريم عقيب الشيء قد يكون ؛ لأن ذلك الشيء اقتضاه بدلالته عليه كالطلاق مع تحريم الوطء ، وهذا هو الإنشاء وقد يكون ترتب التحريم عقب القول أو الفعل لا بدلالة اللفظ عليه بل عقوبة كما ترتب تحريم الإرث على القاتل عمدا أو ليس القتل إنشاء لتحريم الإرث وترتب التعزير على الخبر الكذب وإسقاط العدالة والعزل من الولاية وغير ذلك من الأحكام فهذا الترتيب كله بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ ، والإنشاء إنما هو أن يكون ذلك اللفظ وضع لذلك التحريم ، ويدل عليه كصيغ العقود فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء فكل إنشاء سبب وليس كل سبب من القول إنشاء بدليل ما يترتب على الإخبارات الكاذبة من الأحكام الشرعية ، وقد نصب الشارع تلك الإخبارات أسبابا لتلك الأحكام وإذا كانت السببية أعم لا يستدل بمطلق السببية على الإنشاء فإن الأعم لا يستلزم الأخص فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وبين ترتبه على الظهار فتأمل ذلك .

فإن الجهات مختلفة جدا ونحن نقول التحريم والكفارة الكل عقوبة على الكذب في الظهار ( وعن الثالث ) أنه قياس في الأسباب فلا يصح سلمنا صحته لكنه قياس على خلاف النص الصريح من القرآن المخبر عن كونه كذبا ، والكذب بالضرورة لا يكون في الإنشاء وإذا كان على خلاف نص القرآن لا يسمع .

وأما قول الفقهاء له صريح وكناية كما قالوه في الطلاق فذلك إشارة إلى تفاوت مراتب الكذب فالصريح منه أقبح وأشنع فيكون أولى بترتب الأحكام عليه ، وهذا بخلاف تفرقتهم بين الصريح والكناية في الطلاق فإن ذلك يرجع إلى تفاوت الدلالة على التحريم فالبابان مختلفان فتأمل ذلك .

( فإن قلت ) فقد قالوا إن صريح الظهار وكنايته ينصرف للطلاق بخلاف صريح الطلاق وكنايته [ ص: 36 ] لا ينصرف للظهار فدل على أن ثم أصلا ينصرف عنه إلى الطلاق ، وما ذلك الأصل إلا النقل العرفي الذي نقل الظهار من الإخبار إلى الإنشاء ، وهذا هو ظاهر قولهم يفهم عنهم ذلك في الظهار كما يفهم في الطلاق .

( قلت ) النقل في هذا الموضع مختلف ، قال ابن يونس : إذا نوى بالظهار الطلاق فهو ظهار دون الطلاق وقد قصد الناس في أول الإسلام الطلاق فصرفه الله تعالى إلى الظهار بإنزال الآية قال محمد إنما هو فيمن سمى الظهر عند مالك وإلا فيلزمه ما نوى وإن لم ينو فظهار ولا ينوي عند عبد الملك من شبه بالأجنبية .

وإن نوى الظهار ، قال ابن القاسم تحريم ذوات المحارم متأبد فلا يكون التشبيه به أضعف من الأجنبية ، وقال أبو الطاهر إن عري لفظ الظهار عن النية جرى على الخلاف في انعقاد اليمين بغير نية ، أما إن شبه بمحرمة لا على التأبيد ، وذكر الظهر فهل يكون طلاقا قصرا للظهار على مورده أو ظهارا قياسا على ذوات الأرحام قولان وإن لم يذكر الظهر فأربعة أقوال ظهار وإن أراد الطلاق وعكسه وظهار إلا أن يريد الطلاق فيكون طلاقا وعكسه وفي الجواهر إن نوى بالصريح الطلاق فعن ابن القاسم يكون طلاقا ثلاثا ولا ينوي في أقل من ذلك .

وقال سحنون ينوي وأما الكناية الظاهرة فظهار إلا أن يريد التحريم فتحريم ، ولا يقبل قوله لم أرد ظهارا ولا طلاقا لأجل الظهور ، والكناية الخفية ظهار إن أراده وإلا فلا قال ابن يونس قال مالك إن نوى بقوله أنت كأمي أو مثل أمي أو أنت أمي الطلاق واحدة وهي البتة وإن لم تكن له نية فظهار ، وقال الأبهري كنايات الظهار تنصرف للطلاق ؛ لأنه أقوى منه وكنايات الطلاق لا تنصرف للظهار لضعفه ؛ لأنه تحريم ينحل بالكفارة .

وقال محمد لا ينصرف الظهار في الأمة إلا أن يكون ينصرف في الزوجة إلى الطلاق ، وقال في الجلاب لا ينصرف صريح الطلاق وكناياته بالنية إلى الظهار ، ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق وتنصرف كنايات الظهار بالنية إلى الطلاق فهذه نصوص القوم كما ترى ، أما قول ابن يونس إذا نوى بالظهار الطلاق يكون ظهارا فهو بناء على قاعدة ، وهي أن كل ما هو صريح في باب لا ينصرف إلى غيره بالنية ؛ لأن النية أثرها إنما هو تخصيص العمومات أو تقييد المطلقات فهي إنما تدخل في المحتملات ، وإذا نقلت صريحا عن بابه فهو نسخ وإبطال بالكلية ، والنسخ لا يكون بالنية وأما قوله قد قصد الناس بالظهار الطلاق في أول الإسلام فجعله الله ظهارا فغير متجه ؛ لأن ذلك ابتداء شرع ولم يكن تصرفا في مشروع .

والمتقدم ليس شرعا إنما هو اعتقاد الجاهلية ونحن نتكلم في صريح شرعي يصرف عن بابه بعد مشروعيته ، ولما قصد أولئك الطلاق لم يتعرضوا لمشروع ؛ لأن الشرع جاء بعد ذلك بنزول الآية فليس هذا من هذا الباب .

وقول أبي الطاهر إن عري لفظ الظهار من النية جرى على الخلاف في انعقاد اليمين بغير نية يريد بالنية هنا الكلام النفساني أي يتكلم بكلامه النفساني في نفسه كما يتكلم بلسانه ، وأما قوله إن لم يذكر الظهر من الأجنبية فأقوال أربعة :

( أحدها ) أنه ظهار وإن أراد الطلاق وعكسه فهما بناء على قربه من الصراحة فلا ينصرف للطلاق أو طلاق ؛ لأنه شأن الأجنبية فإنها لا تحرم إلا بالطلاق وهذه الملاحظة هي التي توجب القولين الآخرين غير أنه قدم النية على اللفظ لضعف اللفظ بعدم ذكر الظهر فعدمت [ ص: 37 ] الصراحة فعملت النية .

وأما قول ابن القاسم ينوي في الصريح ويكون طلاقا ثلاثا فبناء منه على أن الظهار تحريم ومن ألفاظ الطلاق الثلاث عنده أنت حرام وهو عنده يلزم به الثلاث ولا ينوي فيه ، وهو ضعيف على ما يأتي تقريره ، وهذا أشد منه ضعفا لأن المدرك هنالك إنما هو الوضع العرفي ، وإن العادة اقتضت أنهم إنما يستعملون الحرام في الثلاث .

وأما هاهنا فليس ثم عادة في استعمال الظهار في الطلاق الثلاث وإذا انتفى الوضع العادي انتفت الصراحة المانعة من إعمال النية فالتسوية بين البابين باطلة ، والصواب قول سحنون وتقبل نيته فيما أراده من الطلاق وهاتان الروايتان خلاف المذهب الذي عليه الفتيا ومشهور قول ابن القاسم والمنقول عن مالك أنه لا ينصرف للطلاق بالنية شيء على القاعدة المتقدمة .

وأما قول مالك إن نوى بقوله أنت كأمي الطلاق واحدة فهي البتة يريد الثلاث فبناء على لفظ التحريم ، وأنه موضوع للثلاث وقد تقدم ضعفه .

وأما قول الأبهري وابن الجلاب أن كناية الأضعف تنصرف للأقوى من غير عكس فضعيف ؛ لأن النية ليس من شرطها أن تنقل للأقوى بل من شأنها النقل للأضعف والأقوى ، ألا ترى أنها تخصص العموم وثبوته أقوى لعموم الحنث فلا يصير يحنث إلا بالبعض .

وهذه توسعة وتخفيف ، وكذلك نقيد المطلق فإذا قال والله لا ألبس ثوبا ونوى كتانا لا يبر به وقد كان قبل النية يبر بغيره وهو تضييق ومقتضى الفقه اعتبار النية في الأقوى والأضعف لقوله عليه الصلاة والسلام { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } ولم يفرق بين الأقوى وغيره فهو لو نوى بالصريح من الطلاق طلق الولد أو من الوثاق أفادته نيته في الفتوى مطلقا ، وفي القضاء إن صدقته القرينة مع أن طلق الولد أسقط عنه الحكم بالكلية والإسقاط بالكلية أخف من النقل عن الطلاق إلى الظهار فقد نقلت النية إلى الأخف .

وعدم الحكم بالكلية إذا تقررت الأقوال والقريب منها للفقه والبعيد منه ، فأقول ليس في قولهم إن الظهار له صريح وكناية أنه إنشاء ، ألا ترى أن القذف فيه الصريح والكناية مع أن صريح القذف إنما هو خبر صرف إجماعا فإن قوله أنت زنيت بفلانة ليس إنشاء للزنى بل إخبارا عنه إما كاذب أو صادق ومع ذلك فهو صريح ، فكذلك هاهنا لفظ الظهار خبر وهو صريح في الإخبار عن التشبيه الذي نفاه الله تعالى وجعله كذبا وزورا ، ومن اللفظ ما يشير إلى هذا التشبيه من غير تصريح فهو الكناية كالتعريض في القذف مثل قوله : ما أنا بزان ولا أمي بزانية . فهذا آخر البحث في هذه المسألة ، ولم أر أحدا في المذهب تعرض لها على هذا الوجه بل ظاهر كلامهم أن الظهار إنشاء كالطلاق ، والله أعلم بمرادهم غير أن الذي تقتضيه القواعد أوضحته لك غاية الإيضاح .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال شهاب الدين ( المسألة الأولى مما يتوهم أنه إنشاء وليس كذلك ، وهو الظهار في قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي يعتقد الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقول القائل أنت طالق إنشاء للطلاق فإن البابين في الإنشاء سواء ، وليس كذلك وبيانه من وجوه أحدها أنه قد تقدم أن من خصائص الإنشاء عدم قبوله [ ص: 32 ] للتصديق والتكذيب ، والله سبحانه وتعالى يقول { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } فكذبهم الله تعالى في ثلاثة مواطن بقوله تعالى { ما هن أمهاتهم } فنفى تعالى ما أثبتوه ومن قال لامرأته أنت طالق لا يحسن أن يقال له ما هي مطلقة ، وإنما يحسن ذلك إذا أخبره عن تقدم طلاقها ، ولم يتقدم فيها طلاق فدل ذلك أن قول المظاهر خبرا لا إنشاء ، والموطن الثاني في قوله تعالى { وإنهم ليقولون منكرا من القول } والإنشاء للتحريم لا يكون منكرا بدليل الطلاق ، وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا فإنه حينئذ كذب والكذب منكر .

والموطن الثالث قوله تعالى وزورا والزور هو الخبر الكذب فيكون قولهم كذبا وهو المطلوب وإذا كذبهم الله تعالى في هذه المواطن دل على أن قولهم خبر لا إنشاء ) قلت ما قاله في هذا الوجه ظاهر متجه

قال وثانيها أنا أجمعنا على أن الظهار محرم وليس للتحريم مدرك إلا أنه كذب ، والكذب لا يكون إلا في الخبر فيكون خبرا قلت لا نسلم أنه ليس للتحريم مدرك إلا أنه كذب بل له مدرك غيره كما في الطلاق الثلاث كما قاله المجيب .

وجوابه للمجيب بأن الطلاق الثلاث هو المحرم لا لفظه به ليس بصحيح فإن المطلق ثلاثا في لفظ واحد لم يصدر منه ما يتعلق به التحريم غير ذلك اللفظ ، ولم يجمع بين الطلقات إلا به ، ولا يتجه الجمع بين الطلقات إلا باللفظ أما بغيره فلا يتجه ، ولا يتأتى بل يكون على قول من يلزمه بمجرد النية وقوله وأما تحريم الظهار فلأجل اللفظ قلت هذه دعوى ، وقوله وليس في اللفظ ما يقتضي التحريم إلا كونه كذبا قلت هذه أيضا أخرى وقوله : لأن الأصل عدم غيره قلت هذا ممنوع ولا يصح إلا على أن الظهار خبر وهو غير المذهب فكيف ينبني عليه الدليل .

قال ( وثالثها أن الله [ ص: 33 ] تعالى شرع فيه الكفارة ، وأصلها أن تكون زاجرة ماحية للذنب فدل ذلك على التحريم ، وإنما سبب التحريم إذا كان كذبا كما تقدم من بقية التقرير قلت على تسليم أن الكفارة زاجرة ماحية لا يلزم أن الذنب كونه كذبا ، وباقي كلامه فيه مبني على قوله في الوجه الذي قبله وقد سبق ما فيه ، قال ورابعها قول الله تعالى بعد ذكر الكفارة { ذلكم توعظون به } والوعظ إنما يكون عن المحرمات فإذا جعلت الكفارة وعظا دل ذلك على أنها زاجرة لا ساترة ، وأنه حصل هنالك ما يقتضي الوعظ وما ذلك إلا الظهار المحرم فيكون محرما لكونه كذبا فيكون خبرا لما تقدم من التقرير .

قلت هذا أيضا مبني على ما تقدم من ادعاء تعلق التحريم بكونه كذبا قال وخامسها قوله تعالى في الآية { وإن الله لعفو غفور } والعفو والمغفرة إنما يكون في المعاصي فدل على أن ذلك معصية ، ولا مدرك للمعصية إلا كونه كذبا ، والكذب لا يكون إلا في الخبر فيكون خبرا ، وهو المطلوب .

قلت وهذا أيضا مبني على تلك الدعوى فإن قلت بل هو إنشاء من وجوه أحدها أن كتب الفقهاء والمحدثين متظافرة على أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تحله الكفارة كما تحل الرجعة تحريم الطلاق ) قلت جميع ما قاله في هذا الوجه ظاهر صحيح [ ص: 34 ]

قال شهاب الدين ( وثانيها أنه مندرج في حد الإنشاء إلى آخره ) قلت وهذا الوجه أيضا ظاهر .

قال ( وثالثها أنه لفظ يستتبع إلى آخره ) قلت وهذا أيضا ظاهر .

قال ( والجواب عن الأول إلى قوله عند كذب خاص ) قلت : ذلك محتمل لكن الظاهر خلافه .

قال ( ويقوي هذا الاحتمال القرآن الكريم إلى آخر الجواب ) قلت جميع [ ص: 35 ] ما قاله ظاهر متجه وجوابه عن الوارد حسن ، قال وعن الثاني إن ترتب التحريم على الظهار ممنوع إلى آخر ما قاله فيه قلت جميع ما قاله محتمل ظاهر . قال وعن الثالث أنه قال إنه قياس في الأسباب إلى قوله تأمل ذلك قلت ما قاله أيضا ظاهر متجه ومآل الأمر فيه إلى الاحتجاج بظاهر القرآن وليس له حجة سواه .

قال ( فإن قلت فقد قالوا إن صريح الظهار وكنايته ينصرف للطلاق بخلاف صريح الطلاق وكنايته ) إلى آخر كلامه على المسألة قلت جميع ما قاله في ذلك ظاهر مستقيم غير أنه لقائل أن يقول إن المتبادر إلى الفهم عرفا أنه إنشاء فإن ثبت هذا العرف عن السلف أعني الصحابة رضي الله تعالى عنهم وانتهى الأمر فيه إلى القطع تعين تأويل القرآن وإلا بقيت المسألة محتملة والله أعلم . .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( فصل ) في ست مسائل حسنة في بابها توضح الإنشاء المسألة الأولى : يعتقد الفقهاء أن قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي [ ص: 32 ] إنشاء للظهار كما أن قوله لها أنت طالق إنشاء للطلاق محتجين بثلاثة أوجه

أحدها : أن كتب المحدثين والفقهاء متظافرة على أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تحله الكفارة كما تحل الرجعة تحريم الطلاق كما ورد في ذلك حديث أبي داود ، وهو أن { خويلة بنت شريك قالت : ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشكو إليه وهو عليه السلام يجادلني فيه ويقول اتق الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل قوله تعالى { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية فقال ليعتق رقبة قالت لا يجد قال فيصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فليطعم ستين مسكينا قالت ما عنده من شيء يتصدق به قال فإني سأعينه بفرق من تمر قلت يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر قال أحسنت فاذهبي وأطعمي عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك } لاقتضاء هذا الحديث أن الحال قبل نزول الآية كان يقتضي أنها لا ترجع إليه بطريق من الطرق ، وهذا هو الطلاق المؤبد ، والطلاق إنشاء فيكون الظهار كذلك ؛ لأنه كان عندهم طلاقا ، والأصل عدم النقل والتغيير ومن ادعاه فعليه الدليل

وثانيها أنه لفظ يترتب عليه التحريم فيكون سببا لمدلوله الذي هو التحريم ، وكل ما كان سببا لمدلوله فهو إنشاء فيكون إنشاء كالطلاق .

وثالثها أن خروج هذا اللفظ عن صنيع الإنشاء بعيدا جدا ؛ لأن استتباعه أحكاما تترتب عليه من التحريم والكفارة وغيرهما يوجب أن يكون إنشاء مثل الطلاق والعتاق من صيغ الإنشاء لا سيما وقد نص الفقهاء على أن له صريحا وكناية كالطلاق وغيره ، والحق أنه خبر لا إنشاء ؛ لأن من خصائص الإنشاء عدم قبوله للتصديق والتكذيب ، وقد كذب الله سبحانه المظاهرين بقوله تعالى { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } في ثلاثة مواطن : الأول بنفي ما أثبتوه بقوله تعالى { ما هن أمهاتهم } [ ص: 33 ] ولا يحسن أن يقال لمن قال لامرأته أنت طالق ما هي مطلقة ، وإنما يحسن ذلك إذا أخبره عن تقدم طلاقها ولم يتقدم فيها طلاق .

والثاني بجعل قولهم منكرا بقوله تعالى { وإنهم ليقولون منكرا من القول } والإنشاء للتحريم لا يكون منكرا بدليل الطلاق ، وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا فإنه حينئذ كذب والكذب منكر .

والثالث بجعل قولهم زورا بقوله تعالى وزورا والزور هو الخبر الكذب فيكون قولهم كذبا وهو المطلوب وإذا كذبهم الله في هذه المواطن دل ذلك على أن قولهم خبر لا إنشاء ( ولا حجة لهم ) في الوجه الأول ؛ لأن قولهم أنه كان طلاقا في الجاهلية لا يقتضي إلا أن العصمة في الجاهلية تزول عند النطق به وزوالها يجوز أن يكون ؛ لأنه إنشاء كما قلتم أو لأنه كذب وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الخبر الكذب لا تبقى امرأته في عصمته متى التزم بجاهليتهم ، وليس في حال الجاهلية ما ينفي ذلك بل لعلهم في أحوالهم أكثر من ذلك فقد التزموا أن الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد تصير سائبة فجاز أن يلتزموا ذهاب العصمة عند كذب خاص ، والاحتمال الأول وإن كان ظاهرا أو قريبا إلا أن القرآن الكريم يقوي الاحتمال الثاني بقوله تعالى { ما هن أمهاتهم } الآية فإن التكذيب كما تقدم من خصائص الخبر فيكون ظهارهم خبرا كذبا التزموا عقيبه ذهاب العصمة كسائر ملتزماتهم الباطلة ، وقد عدها العلماء نحو عشرين نوعا من التحريمات التزموها بغير سبب يقتضيها من جهة الشرائع ، وهي مبسوطة في غير هذا الكتاب ، والآية المذكورة وإن كان الفعل فيها مضارعا لا ماضيا لا نسلم أنها خاصة بمن يفعل ذلك في المستقبل بعد نزولها أو حال نزولها لأمور .

( أحدها ) أن العرب قد تستعمل الفعل المضارع للحالة المستمرة كقولهم يعطي ويمنع ويصل ويقطع تريد هذا شأنه أبدا في الماضي والحال والاستقبال ، ومنه { قول خديجة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله لن يخزيك أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق } [ ص: 34 ] أي هذا شأنك وسجيتك في جميع عمرك وعلى هذا تنتظم الآية .

( والثاني ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم تناول الآية للمظاهرة الماضية أيضا ، وأدخل المظاهرة الماضية في عمومها من أوس بن الصامت وإلا لما فعل ذلك عليه الصلاة والسلام .

( والثالث ) أن قول العلماء أنه كان طلاقا فأقر تحريما تحله الكفارة صريح في أنه عين ما في الجاهلية لا باب آخر تجدد في الشريعة غير ما تقدم كما هو كذلك على فرض تسليم ما ذكر فافهم ( ولا حجة لهم أيضا ) في الوجه الثاني .

أما أولا فلأنا لا نسلم ترتب التحريم على الظهار إذ الذي في الآية تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة فإذا قال الشارع تطهر قبل أن تصلي لا يقال الصلاة محرمة بل ذلك نوع من الترتيب كتقديم الإيمان على الفروع وتقديم الإيمان بالصانع على تصديق الرسل .

وأما ثانيا فلأنا لو سلمنا ذلك الترتيب لا نسلم أن التحريم اقتضاء لفظ الظهار بدلالته عليه كالطلاق مع تحريم الوطء حتى يكون إنشاء لجواز أن يقتضي لفظ الظهار التحريم والكفارة لا بدلالته عليه بل بالوضع الشرعي أي جعله شرعا سبب ذلك عقوبة كما ترتب تحريم الإرث على القاتل عمدا ، وليس القتل إنشاء لتحريم الإرث ، وكما ترتب التعزير وإسقاط العدالة والعزل من الولاية وغير ذلك من الأحكام على الخبر الكذب فلا يكون إنشاء إذ الإنشاء إنما هو أن يكون ذلك اللفظ وضع لذلك التحريم ، ويدل عليه كصيغ العقود وبالجملة فكونه سببا بالقول أعم من كونه سببا بالإنشاء بدليل ما يترتب على الإخبارات الكاذبة من الأحكام الشرعية بسبب أن الشارع نصبها أسبابا لتلك الأحكام ، والأعم لا يستلزم الأخص فلا يستدل بمطلق السببية عن الإنشاء ، ولا يقاس ترتب التحريم والكفارة على الظهار على ترتب التحريم على الطلاق ؛ لأن جهة الأول العقوبة على الكذب وجهة الثاني دلالة اللفظ عليه فافهم ( ولا حجة لهم أيضا ) في الوجه الثالث .

أما أولا فلأنه قياس في الأسباب فلا يصح وعلى صحته فهو قياس على خلاف النص الصريح من القرآن المخبر عن [ ص: 35 ] كونه كذبا ، والكذب بالضرورة لا يكون في الإنشاء وإذا كان على خلاف نص القرآن لا يسمع نعم لقائل أن يقول إن المتبادر إلى الفهم عرفا أنه إنشاء فإن ثبت هذا الفرق على السلف أعني الصحابة رضي الله تعالى عنهم وانتهى الأمر فيه إلى القطع تعين تأويل القرآن وإلا بقيت المسألة محتملة .

وأما ثانيا فلأن قول الفقهاء للظاهر صريح وكناية ليس بمساو لقولهم إن للطلاق صريحا وكناية في الرجوع إلى تفاوت الدلالة على التحريم في البابين حتى يكون فيه دلالة على أن الظهار إنشاء بل الأول إشارة إلى تفاوت مراتب الكذب فالصريح منه أقبح وأشنع فيكون أولى بترتب الأحكام عليه ، والثاني يرجع إلى تفاوت الدلالة على التحريم فالبابان مختلفان ، وليس كل ما له صريح وكناية إنشاء ألا ترى أن القذف فيه الصريح كقوله أنت زنيت بفلانة وهو ليس بإنشاء خبر صرف إجماعا إما كاذب أو صادق ، وفيه الكناية كالتعريض مثل قوله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فكذلك هاهنا لفظ الظهار منه ما هو صريح وهو ما جمع بين ظهر ومؤبد تحريمها كقوله أنت كظهر أمي مما هو صريح في الإخبار عن التشبيه الذي نفاه الله تعالى وجعله كذبا وزورا ومنه ما هو كناية يشير إلى هذا التشبيه وهو ما لم يجمع بين الظهر ومؤبدة التحريم كقوله أنت كأمي أو كظهر الأجنبية ودعوى أن قولهم ينصرف صريح الظهار وكنايته للطلاق ، ولا ينصرف صريح الطلاق وكنايته للظهار يدل على أن للظهار أصلا ينصرف عنه للطلاق ، وما ذلك الأصل إلا نقل العرف الظهار من الإخبار إلى الإنشاء غير مسموعة على أن انصراف صريح كل منهما للآخر وكناية كل منهما للآخر وعدم انصرافهما ليس بمتفق عليهما فقد قال خليل في صريح الظهار ولا ينصرف للطلاق وهل يؤخذ بالطلاق إن نواه مع قيام البينة كأنت حرام كظهر أمي أو كأمي تأويلان .

ا هـ البناني والأحسن ما أصلح به ابن عاشر عبارته بقوله : ولا ينصرف للطلاق وتؤولت بالانصراف لكن يؤخذ بهما في القضاء .

ا هـ لإفادته أن عدم الانصراف مطلقا أرجح [ ص: 36 ] وقد نقل في التوضيح عن المازري أن المشهور وكذا قال أبو إبراهيم الأعرج المشهور في المذهب أن صريح الظهار لا ينصرف إلى الطلاق ، وأن كل كلام له حكم في نفسه لا يصح أن يضمر به غيره كالطلاق فإنه لو أضمر به غيره لم يصح ولم يكن يخرج عن الطلاق . ا هـ ونقله هكذا أبو الحسن عن ابن محرز وزاد عنه ، وكذلك لو حلف بالله وقال أردت بذلك طلاقا أو ظهارا لم يكن ذلك له ولا يلزمه إلا ما حلف به ، وهو اليمين بالله تعالى ا هـ بلفظه ا هـ .

وقوله وإن كل كلام إلخ إشارة إلى القاعدة المشهورة وهو أن كل ما هو صريح في باب لا ينصرف إلى غيره بالنية ؛ لأن النية أثرها إنما هو تخصيص العمومات أو تقييد المطلقات فهي إنما تدخل في المحتملات وإذا نقلت صريحا عن بابه فهو نسخ وإبطال بالكلية والنسخ لا يكون بالنية ولا يتجه قول ابن يونس وقد قصد الناس في أول الإسلام الطلاق فصرفه الله تعالى إلى الظهار بإنزال الآية ا هـ .

لأن ذلك ابتداء شرع ولم يكن تصرفا في مشروع إذ المتقدم ليس شرعا إنما هو اعتقاد الجاهلية ، ونحن نتكلم في صريح شرعي يصرف عن بابه بعد مشروعيته ولما قصد أولئك الطلاق لم يتعرضوا لمشروع ؛ لأن الشرع جاء بعد ذلك بنزول الآية فليس هذا من هذا الباب قال الأمير في شرح مجموعه وعلى تأويل عدم الانصراف يخصص به قولهم في الطلاق وإن نواه بأي كلام لزم ا هـ .

وقال في ضوء شموعه والتأويل بالانصراف نظر إلى أن قاعدة ما كان صريحا في باب إلخ ليست كلية ولا متفقا عليها فقد قال عبد الباقي إلا ما نصوا عليه أي من إعمال صريح العتق بالطلاق ، ومعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية ا هـ من موضعين بتصرف ما وتوضيح .

وقال عبد الباقي في صريح الطلاق وكنايته عند قول خليل في باب الظهار ولزم أي الظهار بأي كلام نواه به ما نصه قال أحمد المصنف شامل لما إذا أراده بصريح الطلاق أو كنايته الظاهرة .

وقال بعض من تكلم على المدونة أنه لا يلزمه بالكناية الظاهرة ا هـ .

وإذا لم يلزم بها فأجرى الصريح كما أنه لا يلزم الطلاق [ ص: 37 ] بصريح الظهار على ما تقدم ا هـ أي في قوله وهل يؤخذ بالطلاق معه إلخ ا هـ البناني ومراد أحمد ببعض من تكلم على المدونة هو الوانوغي في حاشيته عليها جعل الكناية كالصريح نقله عنه في تكميل التقييد ، وسلمه وما ذكره من عدم لزومه بصريح الطلاق هو الذي تقدم عند قوله ولا ينصرف للطلاق إلخ عن أبي إبراهيم وذكر ابن رشد في المقدمات أن مذهب ابن القاسم أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق وقال أردت بذلك الظهار ألزم الظهار بما أقر به من نيته ، والطلاق بما ظهر من لفظه ا هـ نقله الحطاب عند قوله ولا ينصرف للطلاق ا هـ .

قلت فالقول بعدم انصراف صريح الطلاق له نظر للقاعدة وعليه فيخصص به قولهم في الظهار وإن نواه بأي كلام لزم ، والقول بالانصراف نظر إلى كونها أغلبية لا كلية فاستثناه منها ويلزمه القول بانصراف كناية الطلاق الظاهرة له بالأولى وقول الوانوغي بعدم انصرافها له نظر إلى أنها بالظهور قربت من الصراحة فتنبه وقال أبو الظاهر في كناية الظهار إن عري لفظ الظهار عن النية جرى على الخلاف في انعقاد اليمين بغير نية أما إن شبه بمحرمة لا على التأبيد وذكر الظهر فهل يكون الطلاق قصرا للظهار على مورده أو ظهارا قياسا على ذوات الأرحام قولان وإن لم يذكر الظهر فأربعة أقوال ظهار وإن أراد الطلاق وعكسه ، وظهار إلا إن أريد الطلاق فيكون طلاقا وعكسه ا هـ .

ومراده بالنية في قوله إن عري إلخ الكلام النفساني أي يتكلم بكلامه النفساني في نفسه كما يتكلم بلسانه ، والقول بأنه إذا لم يذكر الظهر من الأجنبية وإن أراد الطلاق بناء على قربه من الصراحة فلا ينصرف للطلاق وعكسه ؛ لأن الطلاق شأن الأجنبية فإنها لا تحرم إلا بالطلاق وهذه الملاحظة هي التي توجب القولين الآخرين غير أنه قدم النية على اللفظ لضعف اللفظ بعدم ذكر الظهر فعدمت الصراحة فعملت النية والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية