الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الثانية ) إذا قال لامرأته أنت طالق ولا نية له المتبادر إلى الإفهام في بادئ الرأي أنه يلزمه الطلاق بالوضع اللغوي ، وأن صريح الطلاق [ ص: 38 ] يفيد الطلاق بالوضع اللغوي بخلاف الكنايات ، وليس كذلك بل إنما يفيد ذلك بالوضع العرفي ، وهذا اللفظ إنما وضع لغة للخبر عن كونها طالقا وهو لو أخبر عن كونها طالقا لم يلزمه طلاق قصد الكذب أو الصدق ، ألا ترى أنه لو تقدم طلاقها فسأل عنها هل هي مطلقة أو باقية في العصمة فقال هي طالق جوابا لهذا السؤال لم يلزمه بهذا طلقة ثانية وإن كانت رجعية في العدة ، وإنما يلزم الطلاق بقوله أنت طالق بالإنشاء الذي هو وضع عرفي لا لغوي ألا ترى أن لفظ الطلاق الطاء واللام والقاف موضوعة في اللغة لإزالة مطلق القيد ، يقال لفظ مطلق ووجه طلق وحلال طلق وأطلق فلان من الحبس وانطلقت بطنه وإزالة قيد العصمة أحد أنواع القيد ، فكان ينبغي إذا أتى اللفظ الدال على إزالة القيد العام المطلق أن يزول الخاص كما إذا زال الحيوان زال الإنسان ، ومع ذلك فقد فرق الفقهاء بين قوله أنت طالق وبين قوله أنت منطلقة ، وألزموا بالأول الطلاق من غير نية ، ولم يلزموا بالثاني إلا بالنية ولم يكتفوا بالوضع الأول ، وما ذلك إلا أن لفظ طالق نقل للإنشاء ولم ينقل منطلقة له ، فلو اتفق زمان ينعكس الحال فيه ويصير منطلقة موضوعا للإنشاء وطالق مهجورا لا يستعمل إلا على الندرة لم يلزمه الطلاق بطالق إلا بالنية وألزمناه بمنطلقة بغير نية [ ص: 39 ] عكس ما نحن عليه اليوم فعلمنا أن لفظ الطلاق لم يوجب إزالة العصمة بالوضع اللغوي بل بالعرف الإنشائي ( فإن قلت ) ليس الطلاق وإزالة العصمة أمرا اختص به بالشريعة بل العرب كانت تنكح وتطلق ، وقد كانت تطلق بالظهار ولفظ الطلاق معروف عند العرب قبل البعثة فتكون إزالة العصمة بالوضع اللغوي السابق على الشريعة لا بأمر يتجدد بعد الشريعة .

( قلت ) مسلم أن الطلاق وإزالة العصمة كانا معلومين قبل البعثة النبوية عند العرب ، والإنشاءات عند العرب أيضا تتقدم على الشريعة وتكون عرفية ألا ترى أن الرواية والبحر والغائط والخلا ألفاظ كانت العرب تستعملها قبل البعثة ، ومع ذلك فقد نص أئمة اللغة على أنها مجازات لغوية وحقائق عرفية فإن العوائد قد تحدث مع طول الأيام بعث الله نبينا أم لا فالجاهلية تحدث لها عوائد كما تحدث لنا ومن هذا عقود المعاوضات كانوا يتداولونها إنشاءات وألفاظ عرفية منقولة ومن ذلك القسم إنشاء عرفي وهو متقدم في الجاهلية فلا تنافي بين قولنا الطلاق إنشاء عرفي وبين كونه في الجاهلية قبل الإسلام ، وإنما القصد أن يعلم أن لفظ الطلاق إنما أزال العصمة بغير الوضع اللغوي بل بالوضع العرفي ، وإنما هو مجاز عن اللغة لا حقيقة ، وفائدة الفرق أنه إنما يفيد زوال العصمة بالعرف والعوائد ، وأنها مدرك إفادته كذلك لتنقلنا معها كيف تنقلت ؛ لأنها المدرك ، وإذا كان الموجب هو الوضع اللغوي وجب الثبوت معه وإلزام الطلاق به حتى تطرأ عادة ناسخة لاقتضاء ذلك فيكون اللزوم هو الأصل حتى يطرأ الناسخ المبطل ، وإذا قلنا إنها توجب بالعادة كان الأصل هو عدم اللزوم [ ص: 40 ] من قبل اللغة حتى يثبت اللزوم من جهة العرف كما في منطلقة ليس فيه إلا مجرد اللغة فلا جرم لا يزال ينفى عنه اللزوم حتى يتحقق النقل العرفي ، ويظهر أثر هذا الفرق فيما يتنازع فيه من ألفاظ الطلاق صريحا أو كناية ، فيكون الحق في صورة النزاع هو عدم اللزوم حتى يثبته النقل العرفي فلا يلزمه طلاق بخلاف ما لو قلنا باللغة كان الحق في المتنازع فيه هو اللزوم حتى يثبت الناسخ ، وهذا فرق عظيم وأثر عظيم يحتاج إليه الفقيه فيما يعرض له من الألفاظ .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 36 - 37 ] قال شهاب الدين ( المسألة الثانية إذا قال لامرأته أنت طالق ولا نية له المتبادر إلى الفهم في بادي الرأي أنه يلزمه الطلاق بالوضع اللغوي ، وأن صريح الطلاق [ ص: 38 ] يفيد الطلاق بالوضع اللغوي بخلاف الكناية ، وليس كذلك بل إنما يفيد ذلك بالوضع العرفي ، وهذا اللفظ إنما وضع لغة للخبر عن كونها طالقا ، وهو إذا أخبر عن كونها طالقا له لم يلزمه طلاق قصد الكذب أو الصدق ألا ترى أنه لو تقدم طلاقها فسأل عنها هل هي مطلقة أو باقية في العصمة فقال هي طالق جوابا لهذا السؤال لم يلزمه به طلقة ثانية ، وإن كانت رجعية في العدة وإنما يلزم الطلاق بقوله أنت طالق بالإنشاء الذي هو وضع عرفي لا لغوي ألا ترى أن لفظ الطلاق الطاء واللام والقاف موضوعة في اللغة لإزالة مطلق القيد ، يقال لفظ مطلق ووجه طلق وحلال طلق وأطلق فلان من الحبس وانطلق بطنه وإزالة قيد العصمة أحد أنواع القيد فكان ينبغي إذا أتى اللفظ الدال على إزالة القيد العام المطلق أن يزول الخاص كما إذا زال الحيوان زال الإنسان ، ومع ذلك فقد فرق الفقهاء بين قوله أنت طالق وبين قوله أنت منطلقة فألزموا بالأول الطلاق من غير نية ، ولم يلزموا بالثاني إلا بالنية ولم يكتفوا بالوضع ) .

قلت : لا نسلم له أن قول القائل لامرأته أنت طالق عبارة عن إزالة مطلق القيد بل الظاهر من اللغة أنه لفظ موضوع فيها لإزالة قيد عصمة النكاح أو للإخبار عن ذلك ، وما استدل به من أن لفظ الطاء واللام والقاف موضوعة في اللغة لإزالة مطلق القيد لا يسلم أيضا ، وهو دعوى ذلك هو المسمى عند النحاة بالاشتقاق الكبير ، وليس بالقوي عند المحققين وما قاله من أن لفظ أنت طالق دلالته على إنشاء إزالة قيد العصمة عرفية لا لغوية يتجه لرجحان دعوى المجاز على دعوى الاشتراك قال ( وما ذلك إلا أن لفظ طالق نقل للإنشاء ولم ينقل منطلقة له فلو اتفق زمان ينعكس الحال فيه وتصير منطلقة موضوعة للإنشاء ، وطالق لا يستعمل إلا على الندرة لم يلزمه الطلاق بطالق إلا بالنية ، وألزمناه بمنطلقة بغير نية [ ص: 39 ] عكس ما نحن عليه اليوم ، فعلمنا أن لفظ الطلاق لم يوجب إزالة العصمة بالوضع اللغوي بل بالعرف الإنشائي ) .

قلت كلامه هذا مبني على دعوى اتحاد معنى كل لفظ تصرف من الطاء واللام والقاف ، وهي غير مسلمة كما سبق قال فإن قلت إلى قوله في آخر الجواب وأنه مجاز عن اللغة لا حقيقة قلت جميع ما قاله في ذلك ظاهر صحيح وما قاله في أثناء الفصل من أن ألفاظ عقود المعاوضات عرفية منقوله مبني على رجحان المجاز على الاشتراك كما سبق .

قال ( وفائدة الفرق أنه إذا كان يفيد إزالة قيد العصمة بالعرف والعوائد ، وأنها مدرك أفادته كذلك بتنقلها معها كيف تنقلت لأنها المدرك ، وإذا كان الموجب هو الوضع اللغوي وجب الثبوت معه وإلزام الطلاق به حتى يطرأ الناسخ المبطل ) قلت ما قاله هنا ليس بصحيح فإنه كما يتبدل العرف من العرف كذلك يتبدل العرف من اللغة ، وإلزام العقود من الطلاق وغيره مبني على نية المتكلم أو على عرفه لا على اللغة ولا على عرف غيره هذا فيما يرجع إلى الفتوى .

وأما ما يرجع إلى الحكم فأمر آخر لمنازعة غيره له فإنما يحكم بعرفه لا بنيته لاحتمال كذبه فيما يدعيه من النية فالحكم مترتب على العرف سواء كان ذلك العرف ناقلا عن اللغة أم عن عرف سابق عليه ناقل عن اللغة ، وعلى الجملة فالاعتبار بالاستعمال الجاري في زمن وقوع العقد فإن كان لغة جرى الحكم بحسبه ، وإن كان عرفا ناسخا لها أو لعرف ناسخ لها فكذلك هذا إن لم يرد ما رأيته فإن لفظة فيه احتمال .

قال شهاب الدين : ( وإذا قلنا إنها توجب بالعادة كان الأصل هو عدم اللزوم [ ص: 40 ] من قبل اللغة حتى يثبت اللزوم من جهة العرف كما في منطلقة ليس فيها إلا مجرد اللغة فلا جرم لا يزال ينفي عنه اللزوم حتى يتحقق النقل العرفي ، ويظهر أثر هذا الفرق فيما يتنازع فيه من ألفاظ الطلاق صريحا أو كناية ، فيكون الحق في صورة النزاع هو عدم اللزوم حتى يثبته النقل العرفي فلا يلزم طلاق بخلاف ما لو قلنا باللغة كان الحق في المتنازع فيه هو اللزوم حتى يثبت الناسخ ، وهذا فرق عظيم وأثر عظيم يحتاج إليه الفقيه فيما يعرض له من الألفاظ ) .

قلت قوله ذلك وتمثيله بقوله كما في منطلقة ليس فيه إلا مجرد اللغة كل ذلك مبني على دعواه أن كل لفظ تصرف من مادة الطاء واللام والقاف فهو دال على إزالة مطلق القيد ، وليس ذلك بمسلم ولا صحيح بل لفظة " طالق " وإن كانت من تلك المادة هي دالة على إزالة عصمة النكاح لغة ، ولفظة " منطلقة " وإن كانت من تلك المادة أيضا فهي دالة على المسير ، وهما معنيان متغايران فلم ينتف لزوم الطلاق عن لفظة " منطلقة " لأنها ليس فيها إلا مجرد اللغة ، بل انتفى لمغايرة حقيقة الطلاق لحقيقة الانطلاق فإذا قال القائل : أنت طالق فهو إما إخبار عن زوال العصمة أو إنشاء له ، وإذا قال : أنت منطلقة فهو إخبار عن المسير ، ويسوغ استعماله إنشاء للأمر به إن قلنا بأن استعمال الألفاظ الخبرية في الإنشاء قياس ، وإلا فيتوقف ذلك على السماع



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثانية ) صريح الطلاق لفظه وما اشتق منه كطلقت وطالق أو مطلقة بفتح الطاء واللام المشددة لا ما كان فيه الحروف الثلاثة [ ص: 38 ] الطاء واللام والقاف ، وإن اقتضاه كلام الفقهاء لشموله الانطلاق وما اشتق منه كمنطلقة ومطلوقة وهي مشكل كما في التوضيح عن القرافي ؛ لأن الانطلاق وإن وافق لفظ الطلاق في تلك المادة إلا أنه لغة بمعنى السير لا بمعنى إزالة عصمة النكاح بخلاف الطلاق فلزوم الطلاق منتف عن الانطلاق لمغايرة حقيقة الطلاق لحقيقة الانطلاق ، فإذا قال القائل أنت طالق فهو إما إخبار عن زوال العصمة أو إنشاء له ، وإذا قال أنت منطلقة فهو إخبار عن المسير ويسوغ استعماله إنشاء للأمر به إن قلنا إن استعمال الألفاظ الخبرية في الإنشاء قياس ، وإلا فيتوقف ذلك على السماع والمتبادر إلى الفهم في بادئ الرأي أن هذا الصريح يفيد الطلاق بالوضع بخلاف الكناية ، وهو وإن أمكن توجهه بأن الطلاق وإزالة العصمة ليس أمرا مختصا بالشريعة بل العرب كانت تنكح وتطلق وقد كانت تطلق بالظهار ، ولفظ الطلاق معروف عند العرب قبل البعثة فتكون إزالة العصمة بالوضع اللغوي السابق على الشريعة لا بأمر يتجدد بعد الشريعة إلا أن الحق أنه يفيد ذلك بالوضع العرفي لوجوه : .

( الوجه الأول ) رجحان دعوى المجاز على دعوى الاشتراك .

( الوجه الثاني ) أن هذا اللفظ إنما وضع لغة للخبر عن كونها طالقا وهو إذا أخبر عن كونها طالقا له لم يلزمه طلاق قصد الكذب أو الصدق ألا ترى أنه لو تقدم طلاقها فسأل عنها هل هي مطلقة أو باقية في العصمة فقال هي طالق جوابا لهذا السؤال لم يلزمه به طلقة ثانية .

وإن كانت رجعية في العدة ، وإنما يلزم الطلاق بقوله أنت طالق بالإنشاء الذي هو وضع عرفي لا لغوي .

( الوجه الثالث ) أنا وإن سلمنا أن الطلاق وإزالة العصمة كانا معلومين قبل البعثة النبوية عند العرب إلا أنا نقول الإنشاءات عند العرب أيضا تتقدم على الشريعة ، وتكون عرفية أما أولا فلأن العوائد قد تحدث مع طول الأيام بعث الله نبينا أم لا فالجاهلية تحدث لها عوائد كما تحدث لنا .

وأما ثانيا فلأن العرب كانت تستعمل قبل البعثة الراوية والبحر والغائط والخلا ومع ذلك قد نص أئمة اللغة على أنها [ ص: 39 ] مجازات لغوية وحقائق عرفية فلا تنافي بين قولنا الطلاق إنشاء عرفي وبين كونه في الجاهلية قبل الإسلام ، وإنما القصد أن يعلم أن لفظ الطلاق إنما أزال العصمة بغير الوضع اللغوي بل بالوضع العرفي ، وإنما هو مجاز عن اللغة لا حقيقة ومن قبيل لفظ الطلاق في كونه مجازا عن اللغة لا حقيقة بناء على رجحان المجاز على الاشتراك في عقود المعاوضات والقسم كانت العرب في الجاهلية يتداولونها إنشاءات وألفاظا عرفية منقولة .

فالعرف يتبدل من اللغة كما يتبدل من عرف آخر قبله ، وإلزام العقود من الطلاق وغيره ينبني في الفتوى على نية المتكلم أو على عرفه لا على اللغة ولا على عرف غيره وفي القضاء لمنازعة غيره له إنما ينبني على عرفه لا على نيته لاحتمال كذبه فيما يدعيه من النية فالحكم مترتب على العرف سواء كان ذلك العرف ناقلا عن اللغة أم عن عرف سابق عليه ناقل عن اللغة .

وبالجملة فالاعتبار بالاستعمال الجاري في زمن وقوع العقد فإن كان لغة جرى الحكم بحسبه وإن كان عرفا ناسخا لها أو لعرف ناسخ لها فكذلك والله أعلم .




الخدمات العلمية