الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الثالثة ) وقع في المذهب لمالك رحمه الله ولأصحابه في كتاب التهذيب وغيره أن قول القائل حبلك على غاربك قال فيها مالك يلزمه الطلاق الثلاث ولا تقبل نيته إن أراد أقل منها وخلية وبرية وبائنة قال مني أو منك أو لم يقل أو أبنتك أو رددتك قال ابن عبد العزيز ثلاث في المدخول بها ولا ينوي في أقل منها ، وينوي في غير المدخول بها في طلقة فأكثر فإن لم ينو فثلاث .

وقال ربيعة الخلية والبرية والبائن ثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها ، قال ابن القاسم وأما قوله أنا منك بائن أو أنت مني بائنة فلا ينوي قبل الدخول ولا بعده بل يلزمه الثلاث ، وإذا قال في الخلية والبرية والبائن لم أرد طلاقا فإن تقدم من كلامه ما يكون هذا جوابا له صدق ، وإلا فلا فهذا كله نقل التهذيب .

وقال الشافعي النية نافعة فيما ينويه من تعدد وقال أبو حنيفة إن نوى الثلاث لزمه الثلاث أو واحدة فواحدة بائنة ، وكذلك قولاهما في حبلك على غاربك .

وقال ابن حنبل يقع الطلاق بالخلية والبرية والبائن وحبلك على غاربك والحقي بأهلك والبتة والبتلة بغير نية لشهرتها ، ويلزم بالخلية والبرية [ ص: 41 ] والحرام والحقي بأهلك وحبلك على غاربك ولا سبيل لي عليك وأنت علي حرام واذهبي فتزوجي وغطي شعرك وأنت حرة الثلاث .

قال أبو حنيفة في ذلك كله واحدة بائنة قال ابن العربي من أصحابنا في كتاب القبس له الصحيح أن حبلك على غاربك والبائن والخلية والبرية والبتلة والبتة واحدة ولا تزيد على قولك أنت طالق ، وفي الترمذي عن ابن كنانة عن أبيه عن جده قال { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت فقلت واحدة فقال هي ما أردت فردها إليه } ، قال ابن يونس قال ابن القاسم إن قال وهبت لك صداقك يلزمه ألبتة ولا ينوي .

وقال مالك في الكتاب إذا قال بائن مني أو بريء أو خلية لا يصدق في عدم إرادته الطلاق إلا بقرينة تصدقه ، وإذا قال كل حلال علي حرام تحرم عليه أزواجه نواهن أم لا إلا أن يخرجهن بنيته أو بلفظه ولا يحرم عليه غيرهن ، قال ابن يونس قال أصبغ الحلال علي حرام أو حرام علي ما أحله الله أو كل ما انقلب إليه حرام كله تحريم .

وقال ابن عبد الحكم في حرام لا شيء عليه إذا كان في بلد لا يريدون به الطلاق ، وقال ابن القاسم : إن أراد بقوله أنت حرام الكذب بالإخبار عن كونها حراما وهي حلال حرمت ولا ينوي . قال صاحب الاستذكار في الحرام أحد عشر قولا قال مالك : يلزمه الثلاث في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها ، وقال الشافعي : لا يلزمه شيء حتى ينوي واحدة فتكون رجعية .

وإن نوى تحريمها بغير طلاق لزمه كفارة يمين ولا يكون موليا ، وقال أبو حنيفة إن نوى الطلاق فواحدة وإن نوى اثنتين أو الثلاث فواحدة بائنة ، وإن لم ينو فكفارة يمين وهو مول ، وإن نوى الكذب فليس بشيء ، وقال سفيان إن نوى واحدة فبائنة أو الثلاث فالثلاث أو يمينا فيمين ولا فرقة ولا يمين بكذبة لا شيء فيها .

وقال الأوزاعي له ما نوى وإلا فيمين تكفر وقال إسحاق : كفارة الظهار ولا يطؤها حتى يكفر ، وقيل يمين يكفرها ما يكفر اليمين لقول الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } { وكان عليه السلام قد حرم سريته مارية } وقال الشعبي تحريم المرأة كتحريم المال لا شيء فيه لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وقيل واحدة بائنة ، وقال سعيد بن جبير عتق رقبة ، وقال ابن عباس يمين مغلظة وفي الجواهر المشهور لزوم الثلاث وينوي في غير المدخول بها .

وقال عبد الملك لا ينوي وقال ابن عبد الحكم ينوي واحدة في غير المدخول بها وعن مالك واحدة بائنة وإن كانت مدخولا بها .

قال الإمام أبو عبد الله المازري : وأصل اختلاف الأصحاب في الألفاظ أن اللفظ إن تضمن البينونة والعدد نحو أنت طالق ثلاثا لزم الثلاث ولا ينوي اتفاقا في المدخول بها وغير المدخول بها ، أو يدل على البينونة فقط فينظر هل تمكن البينونة بالواحدة أو تتوقف على الثلاث إذا لم تكن معارضة فيه خلاف أو يدل على عدد غالبا ، ويستعمل في غيره نادرا فيحمل على الغالب عند عدم النية وعلى النادر مع وجودها في الفتوى وإن تساوى الاستعمال أو تقارب قبلت نيته في الفتوى والقضاء فإن [ ص: 42 ] عدمت النية فقيل يحمل على الأقل استصحابا للبراءة الأصلية ، وقيل على الأكثر احتياطا ، والمشهور في الحرام أنها تدل على البينونة ، وأنها لا تحصل في المدخول بها إلا بالثلاث وفي غيرها بالواحدة ولكونها غالبة في الثلاث حملت قبل الدخول على الثلاث وينوي في الأقل ، والقول بعدم البينونة بناء على عدم ثبوتها ووضعها للثلاث في العرف كقوله أنت طالق ثلاثا ، والقول بالواحدة البائنة مطلقا بناء على حصول البينونة قبل الدخول وبعد الدخول ، وأنها لا تفيد عددا .

ونقل عن ابن مسلمة واحدة رجعية بناء على أنها كالطلاق قال وعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في الألفاظ قلت معنى التحريم في اللغة المنع فقوله أنت علي حرام معناه الإخبار عن كونها ممنوعة فهو كذب لا يلزم فيه إلا التوبة في الباطن والتعزير في الظاهر كسائر أنواع الكذب ليس في مقتضاها لغة إلا ذلك ، وكذلك خلية معناه في اللغة الإخبار عن الخلاء ، وأنها فارغة وأما مم هي فارغة فلم يتعرض اللفظ له ، وكذلك بائن معناه لغة المفارقة في الزمان أوالمكان ، وليس فيه تعرض لزوال العصمة فهي إخبارات صرفة ليس فيها تعرض للطلاق ألبتة من جهة اللغة فهي إما كاذبة وهو الغالب وإما صادقة إن كانت مفارقة له في المكان ، ولا يلزم بذلك طلاق كما لو صرح وقال لها أنت في مكان غير مكاني ، وحبلك على غاربك معناه الإخبار عن كونها حبلها على كتفها ، وأصله أن الإنسان إذا كان يرعى بقرة وقصد التوسعة عليها في المرعى ترك حبلها من يده ووضعه على غاربها وهو كتفها فتنتقل في المرعى كيف شاءت فإذا لم تكن هناك نية كان إخباره عن كون المرأة كذلك كذبا [ ص: 43 ] وإن قصد الاستعارة والمجاز والتشبيه بينها وبين البقرة في أنها تصير مطلقة التصرف لا حجر عليها من قبل الأزواج بسبب زوال العصمة كما تبقى البقرة في مرعاها كذلك فهذا لا يتحقق إلا مع النية كسائر المجازات إذا فقدت فيها النية كان اللفظ منصرفا بالوضع للحقيقة فيصير كذبا .

وكذلك جميع ما ذكر من ألفاظ الطلاق فحينئذ إنما تصير هذه الألفاظ موجبة لما ذكره مالك رحمه الله بنقل العرف لها في رتب أحدها أن ينقلها العرف عن الإخبار إلى الإنشاء .

وثانيها أن ينقلها لرتبة أخرى وهي زوال العصمة بالإنشاء الذي هو إنشاء خاص أخص من مطلق الإنشاء ؛ لأنه لا يلزم من نقلها للإنشاء أن تفيد زوال العصمة ؛ لأن أصل الإنشاء أعم من زوال العصمة فقد يصدق بإنشاء البيع أو العتق أو غير ذلك .

والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص فلا تدل بنقلها إلى أصل الإنشاء على زوال العصمة بل لا بد من نقلها إلى خصوصه فتفيد زوال العصمة حينئذ ، وثالثها أن ينقلها العرف إلى الرتبة الخاصة من العدد ، وهي الثلاث فإن زوال العصمة أعم من زوالها بالعدد الثالث فهذه رتب ثلاث لا بد من نقل العرف اللفظ إليها حتى يفيد اللفظ الثلاث فهذه الرتب التي أشار إليها الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله بقوله إما أن يكون اللفظ يفيد البينونة أو البينونة مع العدد أو أصل الطلاق [ ص: 44 ] غير أنه قد بقيت في القاعدة التي أشار إليها أغوار لم يفصح بها ، وهو يريدها وهي أمور أحدها أن هذه الألفاظ عرفية لا لغوية ، وأنها تفيد بالنقل العرفي لا بالوضع اللغوي ، وثانيها أن مجرد الاستعمال من غير تكرر لا يكفي في النقل بل لا بد من تكرر الاستعمال إلى غاية يصير المنقول إليه يفهم بغير قرينة .

ويكون هو السابق إلى الفهم دون غيره ، وهذا هو المجاز الراجح فقد يتكرر اللفظ في مجازه ولا يكون منقولا ولا مجازا راجحا ألبتة كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع والبحر في العالم أو السخي والضحى أو الشمس والقمر والغزال في جميل الصورة ، وذلك يتكرر على ألسنة الناس تكرارا كثيرا ، ومع ذلك التكرار الذي لا يحصى عدده لم يقل أحد إن هذه الألفاظ صارت منقولة بل لا تحمل عند الإطلاق إلا على الحقائق اللغوية حتى يدل دليل على أنها أريد بها هذه المجازات ، ولا بد في كل مجاز منها من النية والقصد إلى استعمال اللفظ فيه فعلمنا حينئذ أن النقل لا بد أن يكون بتكرر الاستعمال فيه إلى حد يصير المتبادر منه للذهن والفهم هو المجاز الراجح المنقول إليه دون الحقيقة اللغوية فهذا ضابط في النقل لا بد منه فإذا أحطت به علما ظهر لك الحق في هذه الألفاظ ، وهو أنا لا نجد أحدا في زماننا يقول لامرأته عند إرادة تطليقها حبلك على غاربك ولا أنت برية ولا وهبتك لأهلك هذا لم نسمعه قط من المطلقين ولو سمعناه وتكرر ذلك على سمعنا لم يكف ذلك في اعتقادنا أن هذه الألفاظ منقولة كما تقدم تقريره ، وأما لفظ الحرام فقد اشتهر في زماننا في أصل إزالة العصمة فيفهم من قول القائل أنت علي حرام أو الحرام يلزمني أنه طلق امرأته أما أنه طلقها ثلاثا فإنا لا نجد في أنفسنا أنهم يريدون ذلك في الاستعمال هذا قوله فيما يتعلق بمصر والقاهرة .

فإن كان هناك بلد آخر تكرر الاستعمال عندهم في الحرام أو غيره من الألفاظ الثلاث حتى صار هذا العدد هو المتبادر من اللفظ ، فحينئذ يحسن إلزام الطلاق الثلاث بذلك اللفظ ، وإياك أن تقول إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث ؛ لأن مالكا رحمه الله قاله أو لأنه مسطور في كتب الفقه ؛ لأن ذلك غلط بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلا لك من جهة الاستعمال والعادة كما يحصل لسائر العوام كما في لفظ الدابة والبحر والرواية فالفقيه والعامي في هذه الألفاظ سواء في الفهم لا يسبق إلى إفهامهم إلا المعاني المنقول إليها فهذا هو الضابط لا فهم ذلك من كتب الفقه فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس لا بتسطير ذلك في الكتب بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس فافهم ذلك [ ص: 45 ] إذا تقرر ذلك فيجب علينا أمور أحدها أن نعتقد أن مالكا أو غيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام ؛ لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها صونا لهم عن الزلل ، وثانيها أنا إذا وجدنا زماننا عريا عن ذلك وجب علينا أن لا نفتي بتلك الأحكام في هذه الألفاظ ؛ لأن انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام كما نقول في النقود وفي غيرها فإنا نفتي في زمان معين بأن المشتري تلزمه سكة معينة من النقود عند الإطلاق ؛ لأن تلك السكة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان فإذا وجدنا بلدا آخر وزمانا آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السكة تغيرت الفتيا إلى السكة الثانية ، وحرمت الفتيا بالأولى لأجل تغير العادة .

وكذلك القول في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم تختلف بحسب العوائد ، وتنتقل الفتوى فيها وتحرم الفتوى بغير العادة الحاضرة ، وكذلك تقدير العواري بالعوائد وقبض الصدقات عند الدخول أو قبله أو بعده في عادة نفتي أن القول قول الزوج في الإقباض ؛ لأنه العادة وتارة بأن القول قول المرأة في عدم القبض إذا تغيرت العادة أو كانوا من أهل بلد ذلك عادتهم ، وتحرم الفتيا لهم بغير عادتهم ومن أفتى بغير ذلك كان خارقا للإجماع فإن الفتيا بغير مستند مجمع على تحريمها ، وكذلك التلوم للخصوم في تحصيل الديون للغرماء وغير ذلك مما هو مبني على العوائد مما لا يحصى عدده متى تغيرت فيه العادة تغير الحكم بإجماع المسلمين ، وحرمت الفتيا بالأول وإذا وضح لك ذلك اتضح لك أن ما عليه المالكية وغيرهم من الفقهاء من الفتيا من هذه الألفاظ بالطلاق الثلاث هو خلاف الإجماع ، وأن من توقف منهم عن ذلك ولم يجر المسطورات في الكتب على ما هي عليه بل لاحظ تنقل العوائد في ذلك أنه على الصواب سالم من هذه الورطة العظيمة فتأمل ذلك [ ص: 46 ] ومن الأغوار التي لم ينبه عليها الإمام أبو عبد الله المازري أن المفتي إذا جاءه رجل يستفتيه عن لفظة من هذه الألفاظ وعرف بلد المفتي في هذه الألفاظ الطلاق الثلاث أو غيره من الأحكام لا يفتيه بحكم بلده بل يسأله هل هو من أهل بلد المفتي فيفتيه حينئذ بحكم ذلك البلد .

أو هو من بلد آخر فيسأله حينئذ عن المشتهر في ذلك البلد فيفتيه به ، ويحرم عليه أن يفتيه بحكم بلده كما لو وقع التعامل ببلد غير بلد الحاكم حرم على الحاكم أن يلزم المشتري بسكة بلده بل بسكة بلد المشتري إن اختلفت السكتان فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين فإنهم يجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار ، وذلك خلاف الإجماع وهم عصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ، فالحق حينئذ أن أكثر هذه الألفاظ التي تقدم ذكرها ليس فيها إلا الوضع اللغوي ، وأنها كنايات خفية لا يلزم بها طلاق ولا غيره إلا بالنية وإن لم تكن له نية لم يلزمه شيء حتى يحصل فيها نقل عرفي كما تقدم بيانه فيجب اتباع ذلك النقل على حسب ما نقل اللفظ إليه من بينونة أو عدد أو غير ذلك فهذا هو دين الله تعالى الحق الصريح والفقه الصحيح .

( قاعدة ) المجاز لا يدخل في النصوص بل في الظواهر فقط فمن أطلق العشرة وأراد السبعة فهو مخطئ لغة ومن أطلق صيغ العموم وأراد الخصوص فهو مصيب لغة ؛ لأنها ظواهر وأسماء الأعداد عندهم نصوص لا يجوز دخول المجاز فيها ألبتة .

( قاعدة ) كل لفظ لا يجوز دخول المجاز فيه لا تؤثر النية في صرفه عن موضوعه ؛ لأن النية لا تصرف اللفظ إلى معنى إلا إذا كان يجوز الصرف إليه لغة هذه قاعدة شرعية والأولى قاعدة لغوية فبنيت الشرعية على اللغوية وهي القاعدة الشرعية المحمدية [ ص: 47 ] وعلى هاتين القاعدتين ترتب قول مالك ومن وافقه من العلماء بأن القائل أنت حرام أو ألبتة أو غير ذلك من الألفاظ لا ينوي في أقل من الثلاث بناء على أن اللفظ نقل إلى العدد المعين وهو الثلاث فصار من جملة أسماء الأعداد وأسماء الأعداد لا يدخلها المجاز فلا تسمع فيها النية للقاعدتين المتقدمتين .

وبهذا يظهر لك الفرق بين قول القائل أنت طالق ثلاثا ، ويريد اثنتين لا تسمع نيته في القضاء ولا في الفتوى أو يريد أنها طلقت ثلاث مرات من الولد فتسمع نيته في الفتيا دون القضاء ؛ لأن الأول أدخل النية في لفظ العدد فامتنع ، والثاني أدخل النية في اسم جنس الطلاق فحوله لطلق الولد وبقي العدد في ذلك الجنس الذي تحول إليه اللفظ لم يتعرض له بالنية فدخل المجاز في اسم الجنس لا في العدد ، والمجاز في أسماء الأجناس جائز بخلاف أسماء الأعداد فقبلت النية في رفع الطلاق بجملته لتحويله لجنس آخر ، ولم تقبل في رفع بعضه .

وهذا يظهر في بادئ الرأي بطلانه ، وأن النية إذا قبلت في رفع الكل أولى أن تقبل في رفع البعض والسر ما تقدم تقريره .

فإن قلت ما ذكرته من الحق متعين اتباعه فما سبب اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في هذه الألفاظ ومن بعدهم من العلماء وكيف ساغ الخلاف مع وضوح هذا المدرك وقلت سبب اختلافهم رضي الله عنهم اختلافهم في تحقيق وقوع النقل العرفي هل وجد فيتبع أو لم يوجد فيتبع موجب اللغة ، وإذا وجد النقل فهل وجد في أصل الطلاق فقط أو فيه مع البينونة أو مع العدد كما تقدم تقريره وإذا لم يوجد نقل عرفي وبقي موجب اللغة فهل يلاحظ نصوص اقتضت الكفارة في مثل هذا أم لا أو القياس على بعض الأحكام فيكون المدرك هو القياس لا النص فهذا هو سبب اختلافهم رضي الله عنهم مع اتفاقهم على هذه المدارك المذكورة غير أنه لم يتضح وجودها عند بعضهم ، واتضح عند البعض الآخر .

وأما لو وقع الاتفاق على وجودها وقع الاتفاق على الحكم وارتفع الخلاف فلا تنافي بين صحة هذه المدارك وبين اختلافهم في وجودها وترتب الحكم عليها فإن قلت فلعل مدرك [ ص: 48 ] مالك نص أو قياس فتستمر فتاويه في بعض الأعصار والأمصار ولا يلزم تغييرها بتغير العوائد فإن ذلك إنما يلزم فيما مدركه العوائد أما ما هو بالنصوص أو الأقيسة فيتأبد فيكون المفتي بموجبات المنقولات في الكتب مصيبا لا مخطئا ، ولا يجتمع بمالك حتى يسأله عما في نفسه ومع الاحتمال لا تتعين التخطئة .

ويجب اتباع موجب المنقولات عن الأئمة من غير اعتراض ؛ لأنا مقلدون لهم رضي الله عنهم لا معترضون عليهم ومتى وجدنا فتاويهم وجهلنا مدركها نقلناها كما وجدناها لمن يسألنا عن المذهب فإنا مقلدون لا مجتهدون .

قلت : الجواب عن هذا السؤال من وجوه الأول الاستقراء فإنا لسنا جاهلين باللغة إلى حد لا نعلم مدلول هذه الألفاظ لغة مع أنها من الألفاظ المشهورة لا من الحوشية ، وقد تقدم أن اللغة إنما تقتضي الخبر لا ما ذكروه من الإنشاء ، ولا يمكن أن يكون مدركهم القياس فإنا نعلم مسائل الطلاق وشرائط القياس ، وليس فيها ما يقتضي القياس على ما ذكروه وليس فيها آية من كتاب تقتضي أكثر مما قاله القائلون بالكفارة التي دل عليها آية التحريم ، والأحاديث لم نجد أحدا من العلماء روى في هذه الأحكام حديثا .

وقد وقعت هذه المسألة بين الصحابة وبين التابعين رضي الله عنهم ولم نجد أحدا في كتب الفقه والخلاف روى عن أحد منهم أنه روى في ذلك حديثا فلم يبق سوى العوائد الثاني أن الإمام أبا عبد الله المازري إمام الفقه وأصوله وحافظ متقن العلم الحديث وفنونه ، وله في جميع ذلك اليد البيضاء والرتبة العالية ، وقد تقدم ما قاله في هذه المسألة من القواعد ، وأشار إلى أن سبب الخلاف فيها نقل العوائد كما تقدم بسطه فكفى به قدوة في مدرك هذه الشروع ومعتمدا في ضوابطها وتلخيصها ، وقد تابعه في ذلك جماعة من الشيوخ والمصنفين ولم نجد لهم مخالفا فكان ذلك إجماعا من أئمة المذهب فالتشكيك بعد ذلك في المدرك إنما هو طلب للجهل وسبيل لغواية التضليل .

الثالث أن قاعدة الفقهاء وعوائد الفضلاء أنهم إذا ظفروا للنوع بمدرك مناسب وفقدوا غيره جعلوه معتمدا لذلك الفرع في حق الإمام المجتهد الأول الذي أفتى بذلك الفرع وفي حقهم أيضا في الفتيا والتخريج واستقراء أحوال الفقهاء في مسلك النظر .

وتحرير الفروع يقتضي الجزم بذلك فكذلك يجب هاهنا ، ونحن استقرينا هذه المسائل فلم نجد لها مدركا مناسبا إلا العوائد فوجب جعلها مدرك الأئمة إفتاء وتخريجا ، والعدول عن ذلك بعد ذلك إنما هو التزام للجهالة من غير معنى مناسب ويؤيد ذلك أنا في كلام الشرع إذا ظفرنا بالمناسبة جزمنا بإضافة الحكم إليها مع تجويز أن لا يكون الحكم كذلك عقلا لكن الاستقراء أوجب لنا ذلك ، ولا نعرج على غير ما وجدناه ولا نلتزم التعبد مع وجود المناسب هذا مما أجمع عليه الفقهاء القياسون وأهل النظر والرأي والاعتبار فأولى أن نفعل ذلك في كلام غير صاحب الشريعة بل نحمل كلام العلماء على المناسب لتلك الفتاوى السالم [ ص: 49 ] عن المعارض نعم إذا وجدنا مناسبين تعارضا أو مدركين تقابلا فحينئذ يحسن التوقف وهذا تقرير ظاهر في دفع هذا السؤل .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال شهاب الدين ( المسألة الثالثة )

وقع لمالك رحمه الله في المذهب ولأصحابه في كتاب التهذيب وغيره أن قول القائل حبلك على غاربك إلى منتهى قول الإمام وعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في الألفاظ .

( قلت ) جميع ذلك نقل لا كلام فيه [ ص: 41 - 42 ] قال قلت معنى التحريم في اللغة المنع فقوله أنت علي حرام معناه الإخبار عن كونها ممنوعة فهو كذب لا يلزمه فيه إلا التوبة في الباطن والتعزير في الظاهر كسائر أنواع الكذب ، ليس في مقتضاها لغة إلا ذلك ، وكذلك خلية معناه في اللغة الإخبار عن الخلاء ، وأنها فارغة ، وأما مم هي فارغة فلم يتعرض اللفظ ، وكذلك بائن معناه المفارقة في الزمان أو المكان ، وليس فيه تعرض لزوال العصمة فهي إخبارات صرفة ليس فيها تعرض للطلاق ألبتة من جهة اللغة ، فهي إما كاذبة وهو الغالب ، وإما صادقة إن كانت مفارقة له في المكان ولا يلزم بذلك طلاق كما لو صرح .

وقال لها أنت في مكان غير مكاني وحبلك على غاربك معناه الإخبار عن كونها حبلها على كتفها ، وأصله أن الإنسان إذا كان يرعى بقرة وقصد التوسعة عليها في المرعى ترك حبلها من يده ووضعه على كتفها فتنتقل في المرعى كيف شاءت ، فإذا لم تكن هناك نية كان إخباره عن كون المرأة كذلك كذبا ) .

قلت الأصل والقاعدة المعتمدة في العقود كلها إنما هو النية والقصد مع اللفظ المشعر بذلك أو ما يقوم مقام اللفظ من إشارة وشبهها ، ثم اللفظ إما أن يشعر بالقصد لغة أو عرفا وعلى كلا الوجهين هو محمول على ما يشعر به في القضاء دون تنوية وفي الفتوى هما ، وإما ما لا يشعر بالمقصود لغة ولا عرفا فلا بد من التنوية في الفتوى والقضاء معا ، وبعد تقرير ذلك لا تخلو الألفاظ المذكورة بأن المراد بها مطلق الطلاق أو مقيده من أن تكون إرادة ذلك بها باللغة أو بعرف اللغة أو بعرف الشرع [ ص: 43 ] أو بعرف حادث بعد ، فأما إن كانت لغوية وضعا أو عرفا أو شرعية فالذي يقتضيه النظر أنها محمولة على مقتضاها في كل زمان وبكل مكان ، ومستند ذلك أن كل لفظ ورد علينا من جهة الشارع فإنا نحمله على عرفه أو على اللغة أو عرفها ، وأما إن كانت عرفية بعرف حادث فهذه هي التي ينتقل الحكم بها بانتقال العرف والله أعلم .

قال ( وإن قصد الاستعارة والمجاز والتشبيه بينها وبين البقرة في أنها تصير مطلقة التصرف لا حجر عليها من قبل الأزواج بسبب زوال العصمة كما تبقى البقرة في مرعاها كذلك ، فهذا لا يتحقق إلا مع النية كسائر المجازات إلى قوله : وكذلك جميع ما ذكر من ألفاظ الطلاق ) قلت قوله هذا صحيح مستقيم على تقدير أن تلك الألفاظ لم تصر عرفا قال فحينئذ إنما تصير هذه الألفاظ موجبة لما ذكره مالك رحمه الله تعالى بنقل العرف لها في رتب أحدها أن ينقلها العرف عن الإخبار إلى الإنشاء ، وثانيها أن ينقلها لرتبة أخرى وهي إنشاء زوال العصمة الذي هو إنشاء خاص أخص من مطلق الإنشاء ؛ لأنها لا يلزم من نقلها للإنشاء أن تفيد زوال العصمة ؛ لأن أصل الإنشاء أعم من زوال العصمة فقد يصدق بإنشاء البيع أو العتق أو غير ذلك .

والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص فلا تدل بنقلها إلى أصل الإنشاء على زوال العصمة ، بل لا بد من نقلها إلى خصوصه فتفيد زوال العصمة حينئذ . قلت كلامه هذا يوهم أن هذه الألفاظ يتأتى أن تدل على مطلق الإنشاء دون خصوصه ، وذلك غير متجه بل لا بد أن تدل على إنشاء خاص فالنقل إذا ليس له رتب غايته أن يكون نقله لغير زوال العصمة أو لزوالها .

قال شهاب الدين : ( وثالثها أن ينقلها العرف إلى الرتبة الخاصة من العدد إلى قوله أو أصل الطلاق ) .

قلت وهذا كما تقدم [ ص: 44 ] في الرتبة الثانية قال ( غير أنه قد بقيت في القاعدة التي أشار إليها أغوار لم يفصح بها وهو يريدها ، وهي أمور أحدها أن هذه الإفادة عرفية إلى قوله فهذا ضابط في النقل لا بد منه ) قلت ما قاله في ذلك صحيح ظاهر

قال ( فإذا أحطت به علما ظهر لك الحق في هذه الألفاظ إلى قوله فحينئذ يحسن إلزام الطلاق الثلاث بذلك اللفظ ) قلت وما قاله في هذا الفصل أيضا صحيح قال : ( وإياك أن تقول إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث ؛ لأن مالكا قاله أو لأنه مسطور في كتب الفقه ؛ لأن ذلك غلط بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلا لك من جهة الاستعمال والعادة كما يحصل لسائر العوام إلى قوله : بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس فافهم ذلك ) [ ص: 45 ]

قلت قد تقدم أن المعتمد في قاعدة العقود كلها القصد إليها مع اللفظ المشعر بها ، وإشعار اللفظ لغوي أصلي أو لغوي عرفي أو شرعي أو عرفي حادث وقتي ففي الفتوى المعتبر النية فإن لم تكن فالوقتي ، فإن لم تكن فالشرعي ، فإن لم يكن فاللغوي العرفي ، فإن لم يكن فاللغوي الأصلي ، فإن اجتمع في اللفظ الأصلي والعرفي والشرعي والوقتي فالمعتبر الوقتي ، وفي الحكم لا تعتبر النية ويعتبر على ما عداها على ذلك الترتيب والله أعلم .

قال شهاب الدين ( إذا تقرر ذلك فيجب علينا أمور أحدها أن نعتقد أن مالكا أو غيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام إلى قوله : تغير الحكم بإجماع المسلمين وحرمت الفتيا بالأولى ) قلت ما قاله ظاهر صحيح والله أعلم .

قال شهاب الدين ( وإذا وضح لك ذلك اتضح لك أن ما عليه المالكية وغيرهم من الفقهاء في هذه الألفاظ من الفتيا بالطلاق الثلاث هو خلاف الإجماع إلى قوله فتأمل ذلك ) قلت المستعمل لهذه الألفاظ إن كان استعماله إياها وفيها عرف وقتي لزم حملها عليه ، وإلا فعلى الشرعي وإلا فعلى العرفي وإلا فعلى اللغوي ، فإن أفتى الفقيه الوقتي بهذا الترتيب عند وجود العرفي الوقتي فهو مصيب ، وإن أفتى عند وجود العرفي الوقتي باعتبار العرف الشرعي أو اللغوي العرفي أو اللغوي الأصلي وألغى العرف الوقتي فهو مخطئ [ ص: 46 ]

قال شهاب الدين : ( ومن الأغوار التي لم ينبه عليها الإمام أبو عبد الله إلى قوله إن اختلفت السكتان ) قلت ما قاله هنا صحيح ظاهر والله أعلم قال : ( فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين فإنهم يجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار إلى قوله واختلاف أحوالها ) قلت إن كانوا فعلوا ذلك مع وجود عرف وقتي ففعلهم خطأ كما قال ، وإن كانوا فعلوه مع عدم العرف الوقتي فليس بخطأ ، والله أعلم .

قال شهاب الدين : ( فالحق حينئذ أن أكثر هذه الألفاظ التي تقدم ذكرها ليس فيها إلا الوضع اللغوي ، وإنها كنايات خفية لا يلزم بها طلاق ولا غيره إلا بالنية إلى قوله فهذا هو دين الله تعالى الحق الصريح والفقه الصحيح ) . قلت ليس الأمر في تلك الألفاظ كما قال بل فيها عرف شرعي أو لغوي فيلزم بها الطلاق من غير تنوية والله أعلم .

قال شهاب الدين : ( قاعدة المجاز لا يدخل في النصوص إلى قوله وأسماء الأعداد نصوص لا يجوز دخول المجاز فيها ألبتة ) قلت ما قاله صحيح ظاهر .

قال ( قاعدة " كل لفظ لا يجوز دخول المجاز فيه لا تؤثر النية في صرفه عن موضوعه " إلى قوله وهي قاعدة شرعية محمدية ) قلت ما قاله أيضا صحيح والله أعلم .

[ ص: 47 ] قال ( وعلى هاتين القاعدتين ترتب قول مالك ومن وافقه من العلماء بأن القائل : أنت حرام أو ألبتة أو غير ذلك من الألفاظ لا ينوي في أقل من الثلاث إلى قوله للقاعدتين المتقدمتين ) قلت ما قاله هنا صحيح ويلزم عن ذلك أن لفظ أنت حرام وطالق ألبتة ثبت فيها عرف إما شرعي أو لغوي بخلاف ما قاله قبل .

قال ( وبهذا يظهر لك الفرق بين قول القائل أنت طالق ثلاثا ويريد اثنتين لا تسمع نيته في القضاء ولا في الفتيا ، أو يريد أنها طلقت ثلاث مرات من الولد فتسمع نيته في الفتيا دون القضاء ؛ لأن الأول أدخل النية في لفظ العدد فامتنع ، والثاني أدخل النية في اسم جنس الطلاق فحوله لطلق الولد ، وبقي العدد في ذلك الجنس الذي تحول إليه اللفظ لم يتعرض له بالنية إلى قوله والسر ما تقدم تقريره ) قلت ما قاله هنا صحيح أيضا والله أعلم .

قال شهاب الدين ( فإن قلت ما ذكرته من الحق متعين اتباعه فما سبب اختلاف الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في هذه الألفاظ إلى قوله فلا تنافي بين صحة هذه المدارك وبين اختلافهم في وجودها وترتيب الأحكام عليها ) قلت : ما قاله هنا متجه وممكن أن يكون ما ذكره سبب اختلافهم والله أعلم .

قال ( فإن قلت فلعل مدرك [ ص: 48 ] مالك رحمه الله نص أو قياس فتستمر فتاويه في جميع الأعصار والأمصار إلى آخر الجواب ) قلت قد سبق القول في ذلك ، وأن المعتبر العرف الوقتي إن كان وإلا فالشرعي وإلا فاللغوي وإلا فالأصلي فإن أراد ذلك فما قاله صحيح .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثالثة ) الأصل والقاعدة المعتمدة في العقود كلها إنما هي النية والقصد مع اللفظ المشعر بذلك أو ما يقوم مقامه من إشارة وشبهها ، ثم اللفظ إما أن لا يشعر بالمقصود لغة ولا عرفا فلا بد من التنويه في الفتوى والقضاء معا ، وإما أن يشعر بالمقصود لغة أو عرفا والعرف لغوي وشرعي ووقتي حادث فيحمل في القضاء دون تنويه على ما يشعر به من عرفي وقتي فشرعي فعرفي لغوي فلغوي أصلي وفي الفتوى على التنويه فالعرف الوقتي فالشرعي فالعرفي اللغوي فاللغوي الأصلي فإن اجتمع في اللفظ الأصلي والعرفي والشرعي والوقتي فالمعتبر الوقتي في القضاء والفتوى فإذا تقرر ذلك فالألفاظ التي ذكر الفقهاء أن المراد بها مطلق الطلاق أو مقيده لا تخلو من أن تكون إرادة ذلك بها باللغة أو بعرف اللغة أو بعرف الشرع أو بعرف حادث بعد ، فإن كانت لغوية وضعا أو عرفا أو شرعية فالذي يقتضيه النظر أنها محمولة على مقتضاها في كل زمان وبكل مكان ومستند ذلك أن كل لفظ [ ص: 40 ] ورد علينا من جهة الشارع فإنا نحمله على عرفه أو على اللغة أو عرفها .

وإن كانت عرفية بعرف حادث فهذه هي التي ينتقل الحكم بها بانتقال العرف كبتة وحبلك على غاربك .

قال مالك ومن وافقه من العلماء يلزم القائل ذلك الثلاث ولا ينوي دخل أو لا بناء على أن اللفظ نقله عرف ذلك الوقت إلى العدد المعين وهو الثلاث حتى صار من أسماء الأعداد .

والمجاز لا يدخل في النصوص كأسماء العدد بل في الظواهر كأسماء الأجناس وصيغ العموم وهذه قاعدة لغوية وكل لفظ لا يجوز دخول المجاز فيه لا تؤثر النية في صرفه عن موضوعه وهذه قاعدة شرعية محمدية بنيت على الأولى .

وقال الشافعي وأبو حنيفة في حبلك على غاربك إن نوى الثلاث لزمه الثلاث أو واحدة فواحدة بائنة .

وقال ابن حنبل يقع الطلاق بالبتة والبتلة وحبلك على غاربك بغير نية لشهرتها ، ويلزم بحبلك على غاربك الثلاث وقال ابن العربي من أصحابنا في كتاب القبس له الصحيح أن حبلك على غاربك والبائن والخلي والبرية والبتلة والبتة واحدة لا تزيد على قولك أنت طالق وفي الترمذي عن { ابن كنانة عن أبيه عن جده قال أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت فقلت واحدة فقال هي ما أردت فردها إلي } .

( قلت ) قال الأمير في ضوء الشموع وقد تعارف الآن حبلك على غاربك في مطلق الإهمال حتى يخاطب الرجل ابنه مثلا انتهى أي فعليه يكون كالكناية الخفية يجري على قولهم وإن قصده بأي كلام لزم كاسقني فلا يحل لأحد الآن أن يفتي فيه بالطلاق من غير نية إلا إذا تجدد بذلك عرف وكحرام قال ابن عبد الحكم لا شيء على قائله إذا كان في بلد لا يريدون به الطلاق وقال ابن القاسم إن أراد بقوله أنت حرام الكذب بالإخبار عن كونها حراما وهي حلال حرمت ولا ينوي قال صاحب الاستذكار في الحرام أحد عشر قولا قال مالك يلزمه الثلاث في المدخول بها وينوي في غيرها وقال الشافعي لا يلزمه شيء حتى ينوي واحدة فتكون رجعية .

وإن نوى تحريمها بغير طلاق لزمه كفارة يمين ولا يكون موليا [ ص: 41 ] وقال أبو حنيفة إن نوى الطلاق فواحدة .

وإن نوى اثنتين أو الثلاث فواحدة بائنة وإن لم ينو فكفارة يمين ، وهو مول وإن نوى الكذب فليس بشيء وقال سفيان إن نوى واحدة فبائنة أو الثلاث فالثلاث أو يمينا فيمين ولا فرقة ولا يمين بكذبة لا شيء فيها وقال الأوزاعي له ما نوى وإلا فيمين تكفر وقال إسحاق كفارة الظهار ولا يطؤها حتى يكفر وقيل يمين يكفرها ما يكفر اليمين لقول الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وكان عليه الصلاة والسلام قد حرم سريته مارية وقال الشعبي تحريم المرأة كتحريم المال لا شيء فيه أي إلا الاستغفار لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وقيل واحدة بائنة . وقال سعيد بن جبير عتق رقبة ، وقال ابن عباس يمين مغلظة ا هـ .

( قلت ) وقال الأمير في شرح المجموع وضوء الشموع شيخنا سمعت من المشايخ ورأيت في المنقول من الكتب أن العمل بالمغرب جرى في الحرام بطلقة بائنة ، وقد نقله البناني وأشار إليه في نظم العمل الفاسي كما في كنون بقوله وطلقة بائنة في التحريم وحلف به لعرف الإقليم لكنه ربما خالف عرف مصر فإنه شاع في ألسنتهم الحرام مجمع الثلاث .

( وهنا مهمة ) وهو أنه قد يقع على الشخص الحرام فيراجعها على مذهب الشافعي ، ثم يطلقها ثلاثا فيفتيه بعض المالكية بعدم لزوم الثلاث بناء على أن الحرام طلقة بائنة ، والبائن لا يرتدف عليه طلاق فيجدد له عليها عقد وهذا خطأ فإنه لما راجعها على مذهب الشافعي صار معها في نكاح مختلف فيه .

والطلاق يلحق في المختلف فيه بل ولو لم يراجعها وعاشرها معاشرة الأزواج فالقواعد تقتضي لحوق الطلاق مراعاة لقول الشافعي أنه رجعي مع قول بعض الأئمة كالحنفية أن الجماع يكون رجعة من غير نية الرجعة وهو قول عندنا أيضا كيف وهناك من يقول الحرام لا يخرجها عن عصمته غايته يستغفر الله تعالى ولا شيء عليه كما تقدم ونعوذ بالله تعالى من رقة الدين ا هـ .

بزيادة وبالجملة فأصل اختلاف [ ص: 42 ] الأصحاب في ألفاظ الطلاق كما قال المازري أن اللفظ إن تضمن البينونة والعدد نحو أنت طالق ثلاثا لزم الثلاث ولا ينوي اتفاقا في المدخول بها وغيرها أي لا يصدق في أنه قصد أقل من الثلاث فيهما لا في القضاء ولا في الفتوى نعم يصدق قوله أنه أراد أنها طلقت ثلاث مرات من الولد في الفتوى دون القضاء نظرا للقاعدتين اللغوية والشرعية السابقتين فقبلوا النية في رفع الطلاق بجملته لتحويله لجنس آخر نظرا لجواز دخول المجاز في أسماء الأجناس ؛ لأنها من الظواهر ولم يقبلوها في رفع بعض الطلاق نظرا لكون أسماء الأعداد نصوصا لا يدخل فيها المجاز ، وإن كان الظاهر في بادئ الرأي بطلان ذلك وأن النية إذا قبلت في رفع الكل فأولى أن تقبل في رفع البعض ، وإن لم يدل إلا على البينونة نظر هل تمكن البينونة بالواحدة أو تتوقف على الثلاث إذا لم تكن معارضة فيه خلاف أو يدل على عدد غالبا .

ويستعمل في غيره نادرا فيحمل على الغالب عند عدم النية وعلى النادر مع وجودها في الفتوى وإن تساوى الاستعمال أو تقارب قبلت نيته مع الفتوى والقضاء فإن عدمت النية فقيل يحمل على الأقل استصحابا للبراءة الأصلية ، وقيل على الأكثر احتياطا والمشهور في الحرام أنها تدل على البينونة ، وأنها لا تحصل في المدخول بها إلا بالثلاث وفي غيرها بالواحدة ولكونها غالبة في الثلاث حملت قبل الدخول على الثلاث وينوي في الأقل .

والقول بعدم البينونة بناء على عدم ثبوتها ووضعها للثلاث في العرف كقوله أنت طالق ثلاثا والقول بالواحدة البائنة مطلقا بناء على حصول البينونة قبل الدخول وبعد الدخول بها ، وأنها لا تفيد عددا أو نقل عن ابن مسلمة واحدة رجعية بناء على أنها كالطلاق قال وعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في الألفاظ ا هـ وهو يشير إلى أمور

أحدها أن نحو الحرام من الألفاظ التي لم تستعمل في أصل اللغة ولا في عرفها ولا في عرف الشرع في إزالة العصمة إما أن ينقله العرف الحادث الوقتي من موضوعه إلى البينونة فقط أو مع العدد أو [ ص: 43 ] أصل الطلاق فتكون إفادتها ذلك بالعرف لا بالوضع اللغوي .

وثانيها أن مجرد الاستعمال من غير تكرر لا يكفي في النقل بل لا بد من تكرر الاستعمال بحيث يفهم المنقول إليه بغير قرينة ، ويكون هو السابق إلى الفهم دون غيره وهذا هو المجاز الراجح فقد يتكرر اللفظ في مجازه ولا يكون منقولا ولا مجازا راجحا ألبتة كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع والبحر في العالم أو السخي والضحى أو الشمس أو القمر أو الغزال في جميل الصورة .

وذلك يتكرر على ألسنة الناس تكرارا كثيرا ، ومع ذلك التكرار الذي لا يحصى عدده لم يقل أحد أن هذه الألفاظ صارت منقولة بل لا تحمل عند الإطلاق إلا على الحقائق اللغوية حتى يدل دليل على أنها أريد بها هذه المجازات ولا بد في كل مجاز منها من النية والقصد إلى استعمال اللفظ فيه ، فهذا ضابط في النقل لا بد منه فإذا أحطت به علما ظهر لك الحق في هذه الألفاظ .

وهو أنا لا نجد أحدا في زماننا يقول لامرأته عند إرادة تطليقها حبلك على غاربك ولا أنت بريئة ولا وهبتك لأهلك بل هذا لم نسمعه قط من المطلقين ، ولو سمعناه وتكرر ذلك على سمعنا لم يكف ذلك في اعتقادنا أن هذه الألفاظ منقولة كما تقدم تقريره ، فالمستعمل لهذه الألفاظ إن كان استعماله إياها وليس فيها عرف وقتي بل كانت لغوية وضعا أو عرفا أو شرعية لزم حملها على مقتضاها الشرعي فاللغوي العرفي فالأصلي في كل زمان وبكل مكان إن كان استعماله إياها وفيها عرف وقتي لزم حملها عليه إن كان عرفا للمستعمل ، وإلا فالشرعي وإلا فاللغوي العرفي وإلا فاللغوي الأصلي فإن أفتى الفقيه عند وجود العرف الوقتي باعتبار العرف الشرعي أو اللغوي العرفي أو اللغوي الأصلي وألغى العرف الوقتي فهو مخطئ ، وإن أفتى بالترتيب المذكور عند وجود العرف الوقتي فهو مصيب .

وثالثها أن المفتي إذا جاءه رجل يستفتيه عن لفظة من هذه الألفاظ ، وكان عرف بلد المفتي في هذه الألفاظ الطلاق الثلاث أو غيره من الأحكام لا يفتيه بحكم بلده بل يسأله هل هو من بلد أهل المفتي فيفتيه حينئذ [ ص: 44 ] بحكم ذلك البلد أو هو من بلد آخر فيسأله حينئذ عن المشتهر في ذلك البلد فيفتيه به .

ويحرم عليه أن يفتيه بحكم بلده كما لو وقع التعامل ببلد غير بلد الحاكم حرم على الحاكم أن يلزم المشتري بسكة بلده بل بسكة بلد المشتري إن اختلف السكتان فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها وبالإحاطة بها يظهر لك أن إجراء الفقهاء المفتين للمسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار إن كانوا فعلوا ذلك مع وجود عرف وقتي ففعلهم خطأ على خلاف الإجماع وهم عصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها ولا عالمين بمداركها وشروطها واختلاف أحوالها ، وإن كانوا فعلوه مع عدم العرف الوقتي فليس بخطأ وسبب اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذه الألفاظ ومن بعدهم من العلماء هو اختلافهم في تحقيق وقوع النقل العرفي هل وجد فيتبع أم لم يوجد فيتبع موجب اللغة وإذا وجد النقل فهل وجد في أصل الطلاق فقط أو فيه مع البينونة أو مع العدد كما تقدم تقريره ، وإذا لم يوجد نقل عرفي وبقي موجب اللغة فهل يلاحظ نصوص اقتضت الكفارة في مثل هذه أو لا أو القياس على بعض الأحكام فيكون المدرك هو القياس لا النص فقد اتفقوا على هذه المدارك غير أنه لم يتضح وجودها عند بعضهم ، واتضح عند البعض الآخر وقع اختلافهم في الحكم فلو وقع اتفاقهم على وجودها لوقع الاتفاق على الحكم ، وارتفع الخلاف فلا تنافي بين صحة هذه المدارك وبين اختلافهم في وجودها ، وترتب الحكم عليها ، وكذلك مدرك من بعدهم من العلماء كالإمام مالك وسائر الأئمة ، وهو اعتبار العرف الوقتي إن كان وإلا فالشرعي وإلا فاللغوي وإلا فالأصلي لا القياس ولا النص بالاستقراء والإجماع .

أما الاستقراء فله وجهان أحدهما أنه لا يمكن أن يكون مدركهم في حملهم هذه الألفاظ على ما ذكروه من الإنشاء لا على ما تقتضيه اللغة من الخبر ، وهو القياس أو النص فإنا نعلم مسائل الطلاق وشرائط القياس ، وليس فيها ما يقتضي [ ص: 45 ] القياس على ما ذكروه ولا فيها آية من كتاب الله تعالى تقتضي أكثر مما قاله القائلون بالكفارة التي دلت عليها آية التحريم ، ولم نجد أحدا من العلماء في كتب الفقه والخلاف روى في هذه الأحكام حديثا عن أحد من الصحابة أو التابعين ، وقد وقعت هذه المسألة بينهم رضي الله تعالى عنهم بلا شبهة .

وثانيهما أن قاعدة الفقهاء وعوائد الفضلاء أنهم يجعلون ما ظفروا به وفقدوا غيره من المدرك المناسب للفرع معتمدا لذلك الفرع في حق الإمام المجتهد الأول الذي أفتى بذلك الفرع وفي حقهم أيضا في الفتيا والتخريج ، ونحن قد استقرأنا هذه المسائل فلم نجد لها مدركا مناسبا إلا اعتبار العرفي الوقتي إلخ فوجب جعل ذلك مدرك الأئمة إفتاء وتخريجا وعدم العدول عن ذلك كما يشهد لذلك أن مما أجمع عليه الفقهاء القياسون وأهل النظر والرأي والاعتبار أنا في كلام الشرع إذا ظفرنا بالمناسبة جزمنا بإضافة الحكم إليها مع تجويز أن لا يكون الحكم كذلك عقلا ؛ لأن الاستقراء أوجب لنا أن لا نعرج على غير ما وجدناه ولا نلتزم التعبد مع وجود المناسب فأولى أن نفعل ذلك في كلام غير صاحب الشريعة بل نحمل كلام العلماء على المناسب لتلك الفتاوى السالم عن المعارض نعم إذا وجدنا مناسبين تعارضا أو مدركين تقابلا فحينئذ يحسن التوقف .

وأما الإجماع فقد قدمنا لك كلام الإمام أبي عبد الله المازري إمام الفقه وأصوله وحافظ متقن لعلم الحديث وفنونه وله في جميع ذلك اليد البيضاء والرتبة العالية المفيد أن سبب الخلاف في هذه المسألة ما ذكر فكفى به قدوة في مدرك هذه الفروع ومتعمدا في ضوابطها وتلخيصها وقد تابعه على ذلك جماعة من الشيوخ والمصنفين ولم نجد لهم مخالفا فكان ذلك إجماعا من أئمة المذهب ، فالتشكيك بعد ذلك إنما هو طلب للجهل الوبيل وسبيل لغواية التضليل والله أعلم .




الخدمات العلمية