الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الرابعة ) إن الإنشاء كما يكون بالكلام اللساني يكون بالكلام النفساني ولذلك صور : ( الصورة الأولى ) أن الله سبحانه وتعالى أنشأ السببية في زوال الشمس لوجوب الظهر ، وأنزل القرآن الكريم دالا على ما قام بذاته من هذا الإنشاء بقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } فإن الكتب المنزلة عندنا أدلة الأحكام لا نفس الأحكام ، وإلا يلزم اتحاد الدليل والمدلول وقس على ذلك جميع الأسباب الشرعية ، وكذلك القول في الشروط كالحول في الزكاة والطهارة في الصلاة ، وكذلك الموانع الشرعية كالكفر من الميراث والحدث من الصلاة وغير ذلك من الموانع ، وما ورد من الكتاب والسنة في ذلك إنما هو أدلة على ما قام بذات الله تعالى . الصورة الثانية الأحكام الخمسة الشرعية وهي الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة كلها قائمة بذات الله تعالى عند أهل الحق ، والكتاب والسنة وغير ذلك من أدلة الشرع إنما هي أدلة على ما قام بذات الله تعالى من ذلك ، وكذلك الواحد منا إذا قال لغلامه اسرج الدابة فقد أنشأ في نفسه إيجابا وطلبا للإسراج قبل الدلالة عليه بلفظه ، وكذلك النهي وغير ذلك غير أن إنشاء الخلق لهذه الأمور حادث وفي حق الله تعالى قديم فإن قلت كيف يتصور الإنشاء القديم وليس في الأزل من يطلب منه شيء ، ولأنك قررت في الفرق بين الإنشاء والخبر أن الإنشاء لا بد وأن يكون طارئا على الخبر ، ووصف الطروء يأبى الأزلية .

( قلت ) الجواب عن الأول أن الله تعالى يوجب في الأزل على زيد المعين على تقدير وجوده مجتمع الشرائط مزال الموانع ، وذلك غير ممتنع كما يجد أحدنا في نفسه طلب تحصيل العلم والفضائل من ولدان رزقه وهو الآن لا ولد له فيتقدم منا الطلب على وجود المطلوب ، وتقدم الطلب على المطلوب منه لا غرو فيه ، وعن الثاني أن ذلك الفرق إنما هو بين الإنشاء والخبر اللغويين باعتبار الوضع اللغوي ، أما في الكلام النفساني فلا ترتيب بينهما بل هما نوعان لمطلق الكلام النفسي فإنه واحد ، ويختلف باختلاف متعلقاته فإن تعلق بأحد النقيضين الوجود أو العدم على وجه التبع فهو الخبر ، وإن تعلق بأحدهما على وجه الترجيح فإن كان في طرف الوجود فهو الإيجاب أو العدم فهو التحريم أو تعلق بالتسوية [ ص: 50 ] بينهما فهو الإباحة ولا ترتيب بين هذه الأنواع بل بينها وبين أصل الكلام رتبة عقلية لا زمانية ؛ لأن العقل يقضي بتقديم العام على الخاص بالرتبة تقديما عقليا لا زمانيا فلا تلزم منافاة الأزل للإنشاء النفساني ولا الحدوث فإن قلت لم لا يجوز أن تكون هذه الأمور إخبارات عن إرادة وقوع العقاب على من خالف وعصى ولا تكون إنشاءات .

( قلت ) ذلك باطل لوجوه : أحدها أن الخبر يقبل التصديق والتكذيب وهذه الأمور لا تحتملها فهي إنشاءات ، وثانيها أنها لو كانت إخبارات للزم الخلف فيها لحصول العفو عن العصاة إما تفضلا من الله تعالى من غير سبب من المكلف أو بسبب هو التوبة لكن ذلك محال على الله تعالى فلا يكون خبرا عن ذلك ، وثالثها أنه قد تقرر في علم الكلام أن إرادة الله تعالى واجبة النفوذ فلو كانت إخبارات عن إرادة العقاب لوجب عقاب كل عاص ، وليس كذلك لإجماعنا على حصول العفو في كثير من الصور التي لا تحصى ، والنصوص الدالة على ذلك من الكتاب والسنة لقوله تعالى { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } ولقوله عليه السلام { الندم توبة والإسلام يجب ما قبله } ، الصورة الثالثة قوله تعالى في جزاء الصيد { يحكم به ذوا عدل منكم } فاختلف العلماء فيها فقال الشافعي رضي الله عنه لا يتصور الحكم فيما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم فإن الحكم لا بد فيه من الاجتهاد ولا اجتهاد في مواقع الإجماع ؛ لأنه سعي في تخطئة المجمعين فيكون العام مخصوصا بصور الإجماع .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه النص باق على عمومه غير أن الواجب في الصيد إنما هو القيمة على طريق الفاصل الشاهد ، ويدل على ذلك أمور أحدها قوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } فجعل الجزاء للمثل لا للصيد نفسه ، فالنعم واجبة في المثل الذي هو القيمة لا للصيد نفسه ، وثانيها أنه لو حمل الجزاء على الصيد نفسه لزم التخصيص وعلى ما ذكرنا لا يلزم التخصيص .

وذلك لأن قوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } عام في جميع أنواع الصيد فلو حمل الجزاء على الصيد خرج منه ما لا مثل له من النعم كالعصافير والنمل وغيرها ، وإذا قلنا بالقيمة وجب في جميع ذلك القيمة فلا تخصيص وهو أولى فيجب المصير إليه ، وثالثها أن الله تعالى اشترط الحكمين ، وذلك إنما يتأتى إذا قلنا بالقيمة فإنه لا يلزم إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على تقويم صيد أن لا نقومه نحن بعد ذلك فإن أفراد النوع الواحد تختلف قيمتها ولا يغني تقويم عن تقويم فيبقى العموم على عمومه في الصحابة ومن بعدهم أما لو جعلنا في الصيد الجزاء مع أنهم قد أجمعوا على أن في الضبع شاة وفي البقرة الوحشية بقرة وفي النعامة بدنة وغير ذلك من الصور التي يفرض حصول الإجماع فيها فإن ذلك يتعين [ ص: 51 ] ولا يبقى للحكم منا والاجتهاد بعد ذلك معنى ألبتة إلا في الصور التي لم يقع فيها إجماع كالفيل وغيره من أفراد الصيد فيلزم التخصيص وهو على خلاف الأصل ، ورابعها أنه متلف من المتلفات فتجب فيه القيمة كسائر المتلفات ، وقال مالك رحمه الله الواجب في الصيد مثله من النعم بطريق الأصالة ثم يقوم الصيد ويقع التخيير بين المثل والإطعام والصوم كما تقرر في كتب الفقه وهذا هو الصحيح .

والجواب عما قاله الشافعي رضي الله عنه ما تقرر من الفرق بين الفتوى والحكم وبين المفتي والحاكم من أن الحكم إنشاء لنفس ذلك الإلزام إن كان الحكم فيه أو لنفس تلك الإباحة والإطلاق إن كان الحكم فيها كحكم الحاكم بأن الموات إذا بطل إحياؤه صار مباحا لجميع الناس ، والفتوى بذلك إخبار صرف عن صاحب الشرع وأن الحاكم ملزم والمفتي مخبر ، وأن نسبتهما لصاحب الشرع كنسبة نائب الحاكم والمترجم عنه فنائبه ينشئ أحكاما لم تتقرر عند مستنيبه بل ينشئها على قواعده كما ينشئها الأصل ، ولا يحسن من مستنيبه أن يصدقه فيما حكم به ولا يكذبه بل يخطئه أو يصوبه باعتبار المدرك الذي اعتمده ، والمترجم يخبر عما قاله الحاكم لمن لا يعرف كلام الحاكم لعجمة أو لغير ذلك من موانع الفهم فللحاكم أن يصدقه إن صدق ، ويكذبه إن كذب ، وهذا المترجم لا ينشئ حكما بل يخبر عن الحاكم فقط وقد وضعت في هذا الفرق كتابا سميته بالأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام وفيه أربعون مسألة تتعلق بتحقيق هذا الفرق وهو كتاب نفيس إذا تقرر معنى الحكم ، فالحكمان في زماننا ينشئان الإلزام على قاتل الصيد فإن كانت الصورة مجمعا عليها كان الإجماع مدركا له ومع ذلك فهم منشئون وإن لم يكن فيها إجماع فهو أظهر ويعتمدون على النصوص والأقيسة ، فلا حاجة إلى التخصيص بل يبقى النص على عمومه ، والحكم في زماننا عام في الجميع ، والجواب عما قاله أبو حنيفة أن الآية قرئت { فجزاء } بالتنوين فيكون الجزاء للصيد و ( { مثل ما قتل من النعم } ) نعت له .

ويكون الواجب هو المثل من النعم والقراءتان منزلتان في كتاب الله تعالى غير أن قراءة التنوين صريحة فيما ذكرناه وقراءة الإضافة محتملة لما ذكرناه ولما ذكرتموه فيجب حملها على ما ذكرناه جمعا بين القراءتين وهو أولى من التعارض ، وعن الثاني أن الضمير في قوله تعالى { ومن قتله } يحمل على الخصوص ويبقى الظاهر على عمومه من غير تخصيص كما في قوله تعالى { إلا أن يعفون } خاص بالرشيدات والمطلقات على عمومه من غير تخصيص ، وكذلك قوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن } خاص بالرجعيات مع بقاء المطلقات على عمومه وعن الثالث ما تقدم من أن الحكمين ينشئان الإلزام ، وأنه لا ينافي حكم الصحابة رضوان الله عليهم ولولا ذلك لكان حكم الصحابة رضي الله عنهم ردا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه عليه السلام حكم في الضبع بشاة وقد حكم فيها الصحابة أيضا فلولا ما ذكرناه لامتنع حكمهم ، وعن الرابع أن جزاء الصيد ليس من باب الجوابر بل من باب الكفارات لقوله تعالى { أو كفارة طعام مساكين } فسماه كفارة فبطل القياس إذا تقررت المذاهب والمدارك وأجوبتها ، وتعين فيها الحق وأنه إنشاء في الجميع كانت هذه المسألة من [ ص: 52 ] مسائل الإنشاء فتفطن لها فهي مشكلة جدا ، ومن لم يحط علما بحقيقة حكم الحاكم ويعلم الفرق بينه وبين المفتي علما واضحا أشكلت عليه هذه المسألة ، وتعذر عليه الجواب عن إجماع الصحابة ، وكيف يجمع بين الإجماع السابق والحكم اللاحق .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 49 ] قال ( المسألة الرابعة أن الإنشاء كما يكون بالكلام اللساني يكون بالكلام النفساني ، ولذلك صور الأولى أن الله سبحانه وتعالى أنشأ السبب في زوال الشمس لوجوب الظهر ، وأنزل القرآن الكريم دالا على ما قام بذاته من هذا الإنشاء بقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } إلى قوله وفي حق الله تعالى قديم ) قلت ما قاله في ذلك صحيح .

قال ( فإن قلت كيف يتصور الإنشاء القديم ، وليس في الأزل من يطلب منه شيء إلى آخر الجواب الأول ) قلت قوله في هذا الجواب على تقدير وجوده إن أراد بتقدير الوجود الاحتمال الذي يلزمه التردد كما في حقنا فليس ذلك بصحيح ، وإن أراد مجرد الإمكان فذلك صحيح ، والمراد أن التكليف لا يتعلق إلا بمن يمكن وجوده ، وليس المراد أن يتحقق وجوده وحينئذ يتعلق به التكليف .

قال ( وعن الثاني أن ذلك الفرق إنما هو في الإنشاء والخبر اللغويين باعتبار الوضع اللغوي [ ص: 50 ] إلى قوله فلا تلزم منافاة الأزل للإنشاء النفساني ولا الحدوث ) قلت ما قاله في هذا الجواب صحيح .

قال ( فإن قلت لم يجوز أن تكون هذه الأمور إخبارات عن إرادة وقوع العقاب إلى آخر جوابه عن هذا السؤال ) قلت ما قاله في ذلك صحيح واضح

قال : ( الصورة الثالثة قوله تعالى في جزاء الصيد { يحكم به ذوا عدل منكم } إلى آخر المسألة ) قلت ما قاله في ترجيح المذهب والفرق بين الفتوى والحكم وتخريج الجواب على ذلك ظاهر والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الرابعة ) يكون الإنشاء بالكلام النفساني كما يكون بالكلام اللساني ولذلك ثلاث صور : الصورة الأولى الأسباب والشروط والموانع الشرعية إن شاء الله تعالى في إفرادها وما ورد من الكتاب [ ص: 46 ] والسنة في ذلك إنما هو أدلة على ما قام بذات الله تعالى من هذه الإنشاءات لا نفسها وإلا يلزم اتحاد الدليل والمدلول فأنشأ تعالى السببية في زوال الشمس لوجوب الظهر وأنزل قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } دالا على ما قام بذاته من هذا الإنشاء ، وكذلك إنشاء الشرطية في الزكاة وفي الحول وفي الصلاة في الطهارة والمانعية من الميراث في الكفر ومن الصلاة في الحدث وجعل ما ورد في ذلك دالا على ما قام بذاته من هذه الإنشاءات . الصورة الثانية الأحكام الخمسة الشرعية وهي الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة كلها قائمة بذاته تعالى عند أهل الحق ، والكتاب والسنة وغير ذلك من أدلة الشرع إنما هي أدلة على ما قام بذاته تعالى من ذلك ، وكذلك الواحد منا إذا قال لغلامه اسقني فقد أنشأ في نفسه إيجابا وطلبا للماء قبل الدلالة عليه بلفظه .

وكذلك النهي وغير ذلك غير أن إنشاء الخلق لهذه الأمور حادث وفي حق الله تعالى قديم بمعنى أن الله تعالى في الأزل يوجب مثلا على من يمكن وجوده مجتمع الشرائط مزال الموانع فيتقدم منه تعالى الطلب على وجود المطلوب كما أن أحدنا يجد في نفسه طلب تحصيل العلم والفضائل من ولدان رزقه وهو الآن لا ولد له ، فيتقدم منا الطلب على وجود المطلوب وكون الإنشاء لا بد وأن يكون طارئا على الخبر كما مر إنما هو في الإنشاء والخبر اللغويين أما الكلام النفسي فواحد يختلف باختلاف متعلقاته فإن تعلق بأحد النقيضين الوجود أو العدم على وجه التبع فهو الخبر ، وإن تعلق بأحدهما على وجه الترجيح فإن كان طرف الوجود فهو الإيجاب أو في طرف العدم فهو التحريم أو تعلق بالتسوية بينهما فهو الإباحة ولا ترتيب بين هذه الأنواع بل بينها وبين أصل الكلام رتبة عقلية لا زمانية ؛ لأن العقل يقضي بتقديم العام على الخاص بالرتبة تقديما عقليا لا زمانيا فلا تلزم منافاة الأزل للكلام النفساني ولا الحدوث ، وكون هذه الأحكام إنشاءات لا إخبارات عن إرادة وقوع العقاب على من خالف وعصى يتضح بوجهين أحدهما أنها لا تقبل [ ص: 47 ] التصديق والتكذيب . وثانيهما أنها لو كانت إخبارات عن إرادة العقاب للزم إما وجوب عقاب كل عاص ، وإما الخلف ، والثاني محال على الله تعالى والأول باطل لإجماعنا على حصول العفو في كثير من الصور التي لا تحصى وللنصوص الدالة على ذلك من الكتاب والسنة قال الله تعالى { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } وقال عليه الصلاة والسلام { الندم توبة والإسلام يجب ما قبله } وللصورة الثالثة اختلفت أقوال الأئمة في قوله تعالى جزاء الصيد { يحكم به ذوا عدل منكم } ، والصحيح قول مالك رحمه الله تعالى الواجب في الصيد مثله من النعم بطريق الأصالة ، ثم يقوم الصيد ويقع التخيير بين المثل والإطعام والصوم كما تقرر في كتب الفقه .

وأما قول الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يتصور الحكم فيما أجمع عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فإن الحكم لا بد فيه من الاجتهاد ، والاجتهاد من مواقع الإجماع لا يصح ؛ لأنه سعي في تخطئة المجمعين فيكون العام مخصوصا بصور الإجماع فجوابه أن الحكمين في زماننا ينشئان الإلزام على قاتل الصيد ، ويكون مدركهما في ذلك هو الإجماع في الصورة المجمع عليها ، والنصوص والأقيسة في الصورة التي لم يجمع عليها فالحكم في زماننا عام في الجميع ، والنص باق على العموم ولا حاجة لتخصيصه ، ويوضح ذلك ما تقرر من الفرق بين الفتوى والحكم وبين المفتي والحاكم من أن الحكم إنشاء لنفس ذلك الإلزام إن كان الحكم فيه أو لنفس تلك الإباحة والإطلاق إن كان الحكم فيها كحكم الحاكم بأن الموات إذا بطل إحياؤه صار مباحا لجميع الناس والفتوى بذلك إخبار صرف عن صاحب الشرع ، وأن الحاكم ملزم والمفتي مخبر ، وأن نسبتهما لصاحب الشرع كنسبة نائب الأحكام والمترجم عنه فنائبه ينشئ أحكاما لم تقرر عند مستنيبه بل ينشئها على قواعده كما ينشئها الأصل .

ولا يحسن من مستنيبه أن يصدقه فيما حكم به ولا يكذبه بل يخطئه أو يصوبه باعتبار المدرك الذي اعتمده ، والمترجم يخبر عما قاله الحاكم لمن لا يعرف كلام الحاكم لعجمته [ ص: 48 ] أو لغير ذلك من موانع الفهم فللحاكم أن يصدقه إن صدق ، ويكذبه إن كذب وقد وضع الأصل في هذا الفرق كتابا نفيسا فيه أربعون مسألة تتعلق بتحققه سماه بالأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام ، وأما قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه النص باق على عمومه غير أن الواجب في الصيد إنما هو القيمة على طريق الفاصل الشاهد مستدلا بأربعة أمور

أحدها أن الجزاء جعله قوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } للمثل لا للصيد نفسه فالنعم واجبة في المثل الذي هو القيمة لا للصيد نفسه

وثانيها أنه يلزم على جعل الجزاء للمثل لا للصيد أن قوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } عام في جميع أنواع الصيد لا خاص بما لا مثل له من النعم كالعصافير والنمل وغيرها بخلاف جعل الجزاء للصيد لا للمثل ، وعدم التخصيص أولى .

وثالثها أن الله تعالى اشترط الحكمين ، وذلك إنما يتأتى باقيا على عمومه إذا جعلنا الجزاء للمثل لا إذا جعلناه للصيد إذ لا يلزم من إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على تقويم صيد أن لا نقومه نحن بعد ذلك لاختلاف القيمة في أفراد النوع الواحد ولا يغني تقويم عن تقويم فيبقى العموم على عمومه في الصحابة ومن بعدهم .

ويلزم بعد إجماع الصحابة على أن في الضبع شاة وفي البقرة الوحشية بقرة وفي النعامة بدنة وغير ذلك من الصور التي يفرض حصول الاجتماع فيها أن ذلك يتعين ولا يبقى للحكم منا والاجتهاد بعد ذلك معنى ألبتة إلا في الصور التي لم يجمع فيها الصحابة كالفيل وغيره من أفراد الصيد فيلزم التخصيص ، وهو على خلاف الأصل

ورابعها أن الصيد متلف يوم المتلفات فتجب فيه القيمة كسائر المتلفات فجوابه عن الأمر الأول أن الآية كما قرئت ( فجزاء مثل ) بالإضافة فصارت محتملة لما ذكرناه ولما ذكرتموه ، كذلك قرئت { فجزاء } بالتنوين و { مثل ما قتل من النعم } نعت له فتكون صريحة فيما ذكرناه من كون الجزاء للصيد للمثل فيجب حملها على ما ذكرناه [ ص: 49 ] جمعا بين القراءتين .

وهو أولى من التعارض وعن الأمر الثاني أن الضمير في قوله تعالى { ومن قتله } يحمل على الخصوص ويبقى الظاهر وهو مرجعه في قوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } على عمومه من غير تخصيص كما في قوله تعالى { إلا أن يعفون } خاص بالرشيدات والمطلقات مرجعه على عمومه من غير تخصيص ، وكذلك قوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن } خاص بالرجعيات مع بقاء المطلقات مرجعه على عمومه وعن الأمر الثالث ما تقدم من أن الحكمين ينشئان الإلزام ، وأنه لا ينافي حكم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إذ لو نافاه وكان ردا لحكمهم لكان حكمهم أيضا ردا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام { حكم في الضبع بشاة } أيضا ، وعن الأمر الرابع أن جزاء الصيد ليس من باب الجوابر بل من باب الكفارات ؛ لأنه تعالى سماه كفارة في قوله سبحانه وتعالى { أو كفارة طعام مساكين } فبطل القياس إذا تقرر هذا كله ، وثبت أن حكم ذوي العدل منكم في الصيد من مسائل الإنشاء لا الخبر لم يبق إشكال بين إجماع الصحابة السابق والحكم اللاحق فتفطن والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية