الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 473 ] الضرب الثاني : المجردة بأن يناوله مقتصرا على : هذا سماعي ، فلا تجوز الرواية بها على الصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول ، وعابوا المحدثين المجوزين .

        فرع : جوز الزهري ، ومالك ، وغيرهما ، إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة ، وهو مقتضى قول من جعلها سماعا ، وحكي عن أبي نعيم الأصبهاني وغيره جوازه في الإجازة المجردة .

        والصحيح الذي عليه الجمهور وأهل التحري المنع وتخصيصها بعبارة مشعرة بها : كحدثنا وأخبرنا إجازة أو مناولة وإجازة أو إذنا أو في إذنه أو فيما أذن لي فيه أو فيما أطلق لي روايته أو أجازني أو لي أو ناولني أو شبه ذلك ، وعن الأوزاعي تخصيصها بخبرنا والقراءة بأخبرنا . واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة ، واختاره صاحب كتاب " الوجازة " .

        وكان البيهقي يقول : أنبأني إجازة .

        وقال الحاكم : الذي أختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن يقول فيما عرض على المحدث فأجازه شفاها : أنبأني ، وفيما كتب إليه كتب إلي ، وقد قال أبو جعفر بن حمدان : كل قول البخاري قال لي فلان عرضا ومناولة ، وعبر قوم عن الإجازة بأخبرنا فلان أن فلانا حدثه أو أخبره ، واختاره الخطابي وحكاه ، وهو ضعيف .

        واستعمل المتأخرون في الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ حرف عن ، فيقول من سمع شيخا بإجازته عن شيخ : قرأت على فلان عن فلان .

        ثم إن المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا لا يزول بإباحة المجيز ذلك .

        التالي السابق


        ( الضرب الثاني ) المناولة ( المجردة عن الإجازة بأن يناوله ) الكتاب كما تقدم [ ص: 474 ] ( مقتصرا على ) قوله ( هذا سماعي ) أو من حديثي ، ولا يقول له اروه عني ، ولا أجزت لك روايته ونحو ذلك ، ( فلا تجوز الرواية بها على الصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول ، وعابوا المحدثين المجوزين ) لها .

        قال العراقي : ما ذكره النووي مخالف لكلام ابن الصلاح ، فإنه إنما قال : فهذه مناولة مختلة لا تجوز الرواية بها ، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها .

        وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم أنهم صححوها . ومخالف أيضا لما قاله جماعة من أهل الأصول منهم الرازي فإنه لم يشترط الإذن بل ولا المناولة ، بل إذا أشار إلى كتاب ، وقال هذا سماعي من فلان جاز لمن سمعه أن يرويه عنه ، سواء ناوله أم لا ، وسواء قال له اروه عني أم لا .

        وقال ابن الصلاح : إن الرواية بها تترجح على الرواية بمجرد إعلام الشيخ لما فيه من المناولة ، فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية .

        قلت : والحديث والأثر السابقان أول القسم يدلان على ذلك ، فإنه ليس فيهما تصريح بالإذن . نعم ، الحديث الذي علقه البخاري فيه ذلك حيث قال : لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا . فمفهومه الأمر بالقراءة عند بلوغ المكان .

        [ ص: 475 ] وعندي أن يقال : إن كانت المناولة جوابا لسؤال ، كأن قال له : ناولني هذا الكتاب لأرويه عنك ، فناوله ولم يصرح بالإذن صحت ، وجاز له أن يرويه كما تقدم في الإجازة بالخط ، بل هذا أبلغ ، وكذا إذا قال له : حدثني بما سمعت من فلان ، فقال : هذا سماعي من فلان ، كما وقع من أنس فتصح أيضا ، وما عدا ذلك فلا ، فإن ناوله الكتاب ولم يخبره أنه سماعه لم تجز الرواية به بالاتفاق ، قاله الزركشي .



        فرع :

        في ألفاظ الأداء لمن تحمل الإجازة والمناولة ( جوز الزهري ، ومالك وغيرهما ) كالحسن البصري ( إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة ، وهي مقتضى قول من جعلها سماعا .

        وحكي عن أبي نعيم الأصبهاني وغيره ) كأبي عبد الله المرزباني ( جوازه ) أي إطلاق حدثنا وأخبرنا ( في الإجازة المجردة ) أيضا ، وقد عيبا بذلك ، لكن حكاه القاضي [ ص: 476 ] عياض عن ابن جريج ، وحكاه الوليد بن بكر عن مالك وأهل المدينة ، وصححه إمام الحرمين ، ولا مانع منه .

        ومن اصطلاح أبي نعيم أن يقول : أخبرنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه ، ويريد بذلك أنه أخبره إجازة ، وأن ذلك قرئ عليه ، لأنه لم يقل : وأنا أسمع ، بدليل أنه قد يصرح بأنه سمعه بواسطة عنه ، وتارة يضم إليه ، وأذن لي فيه . وهذا اصطلاح له موهم .

        قال المصنف كابن الصلاح : ( والصحيح الذي عليه الجمهور وأهل التحري ) والورع ( المنع ) من إطلاق ذلك ( وتخصيصها بعبارة مشعرة بها ) تبين الواقع ( كحدثنا ) إجازة أو مناولة وإجازة ( وأخبرنا إجازة أو مناولة وإجازة [ ص: 477 ] أو إذنا أو في إذنه أو فيما أذن لي فيه ، أو فيما أطلق لي روايته ، أو أجازني ، أو ) أجاز ( لي ، أو ناولني أو شبه ذلك ) كسوغ لي أن أروي عنه وأباح لي .

        ( وعن الأوزاعي تخصيصها ) أي الإجازة ( بخبرنا ) بالتشديد ( و ) تخصيص ( القراءة بأخبرنا ) بالهمزة .

        قال العراقي : ولم يخل من النزاع ، لأن خبر وأخبر بمعنى واحد لغة واصطلاحا ، واختار ابن دقيق العيد أنه لا يجوز في الإجازة أخبرنا ، لا مطلقا ولا مقيدا ، لبعد دلالة لفظ الإجازة على الإخبار ، إذ معناه في الوضع الإذن في الرواية .

        قال : ولو سمع الإسناد من الشيخ وناوله الكتاب جاز له إطلاق أخبرنا ، لأنه صدق عليه أنه أخبره بالكتاب ، وإن كان إخبارا جمليا ، فلا فرق بينه وبين التفصيلي .

        ( واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة ، واختاره أبو العباس الوليد بن بكر الغمري ( صاحب كتاب " الوجازة " ) في تجويز الإجازة ، وعليه عمل [ ص: 478 ] الناس الآن ، والمعروف عند المتقدمين أنها بمنزلة أخبرنا .

        وحكى عياض عن شعبة أنه قال في الإجازة مرة أنبأنا ومرة أخبرنا .

        قال العراقي : وهو بعيد عنه ، فإنه كان ممن لا يرى الإجازة .

        ( وكان البيهقي يقول : أنبأني ) وأنبأنا ( إجازة ) وفيه التصريح بالإجازة ، مع رعاية اصطلاح المتأخرين ( وقال الحاكم : الذي أختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن يقول فيما عرض على المحدث فأجازه شفاها أنبأني ، وفيما كتب إليه ، كتب إلي ) .

        واستعمل قوم من المتأخرين في الإجازة باللفظ شافهني ، وأنا مشافهة ، وفي الإجازة بالكتابة : كتب إلي ، وأنا كتابة ، أو في كتابه .

        قال ابن الصلاح : ولا يسلم من الإيهام وطرف من التدليس ، أما المشافهة فتوهم مشافهته بالتحديث ، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه ، كما كان يفعله المتقدمون .

        وقد نص الحافظ أبو المظفر الهمداني على المنع من ذلك للإيهام المذكور . [ ص: 479 ] قلت : بعد أن صار الآن ذلك اصطلاحا ، عري من ذلك ، وقد قال القسطلاني بعد نقله كلام ابن الصلاح : إلا أن العرف الخاص من كثرة الاستعمال يرفع ما يتوقع من الإشكال .

        ( وقد قال أبو جعفر ) أحمد ( بن حمدان ) النيسابوري ( كل قول البخاري قال لي ) فلان ( عرضا ومناولة ) وتقدم أنها محمولة على السماع ، وأنها غالبا في المذاكرة ، وأن بعضهم جعلها تعليقا ، وابن منده إجازة .

        ( وعبر قوم ) في الرواية بالسماع ( عن الإجازة بأخبرنا فلان ، أن فلانا حدثه أو أخبره ) ، فاستعملوا لفظ أن في الإجازة ، ( واختاره الخطابي وحكاه وهو ضعيف ) بعيد عن الإشعار بالإجازة ، وحكاه عياض عن اختيار أبي حاتم الرازي ، قال : وأنكر بعضهم هذا ، وحقه أن ينكر فلا معنى له يفهم المراد منه ، ولا اعتيد هذا الوضع في المسألة لغة ولا عرفا .

        قال ابن الصلاح : وهو فيما إذا سمع منه الإسناد فقط ، وأجاز له ما رواه قريب فإن فيها إشعارا بوجود أصل الإخبار ، وإن أجمل المخبر به ، ولم يذكره تفصيلا .

        [ ص: 480 ] قلت : واستعمالها الآن في الإجازة شائع كما تقدم في العنعنة .

        ( واستعمل المتأخرون في الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ حرف عن ، فيقول من سمع شيخا بإجازته عن شيخ ، قرأت على فلان عن فلان ) كما تقدم في العنعنة .

        قال ابن مالك : ومعنى عن في نحو رويت عن فلان وأنبأتك عن فلان : المجاوزة ; لأن المروي والمنبأ به مجاوز لمن أخذ عنه .

        ( ثم إن المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا ) في الإجازة والمناولة ( لا يزول بإباحة المجيز ذلك ) كما اعتاده قوم من المشايخ في إجازاتهم لمن يجيزون ، إن شاء قال حدثنا ، وإن شاء قال أخبرنا ; لأن إباحة الشيخ لا يغير بها الممنوع في المصطلح .




        الخدمات العلمية