الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 532 ] الرابع : إن لم يكن عالما بالألفاظ ومقاصدها ، خبيرا بما يحيل معانيها لم تجز له الرواية بالمعنى بلا خلاف ، بل يتعين اللفظ الذي سمعه ، فإن كان عالما بذلك فقالت طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول ، لا تجوز إلا بلفظه ، وجوز بعضهـم في غير حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجوز فيه ، وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف : يجوز بالمعنى في جميعه إذا قطع بأداء المعنى .

        وهذا في غير المصنفات ، ولا يجوز تغيير مصنف وإن كان بمعناه . وينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقيبه : أو كما قال أو نحوه ، أو شبهه ، أو ما أشبه هذا من الألفاظ .

        وإذا اشتبهت على القارئ لفظة فحسن أن يقول بعد قراءتها على الشك أو كما قال لتضمنه إجازة وإذنا في صوابها إذا بان .

        التالي السابق


        ( الرابع : إن لم يكن الراوي عالما بالألفاظ ) ومدلولاتها ( ومقاصدها خبيرا بما يحيل معانيها ) بصيرا بمقادير التفاوت بينهما ، ( لم تجز له الرواية ) لما سمعه ( بالمعنى [ ص: 533 ] بلا خلاف ، بل يتعين اللفظ الذي سمعه فإن كان عالما بذلك ، فقالت طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول : لا يجوز إلا بلفظه ) ، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية ، وروي عن ابن عمر .

        ( وجوز بعضهم في غير حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجوز فيه ، وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف ) منهم الأئمة الأربعة : ( يجوز بالمعنى في جميعه إذا قطع بأداء المعنى ) ; لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف ، ويدل عليه روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة .

        وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير من حديث

        [ يعقوب بن ] عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي

        [ عن أبيه ، [ ص: 534 ] عن جده ] ، قال : قلت يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك ، أزيد حرفا أو أنقص حرفا ، فقال : إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس ، فذكر ذلك للحسن فقال : لولا هذا ما حدثنا .

        واستدل لذلك الشافعي بحديث : " أنزل القرآن ، على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه " ، قال : وإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف علمنا منه بأن الكتاب قد نزل لتحل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى ، كان ما سوى كتاب الله سبحانه أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ، ما لم يخل معناه .

        وروى البيهقي عن مكحول قال : دخلت أنا وأبو الأزهر ، على واثلة بن الأسقع فقلنا له : يا أبا الأسقع حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان ، فقال : هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا ؟ فقلنا : نعم ، وما نحن له بحافظين جدا ، إنا لنزيد الواو والألف وننقص ، قال : [ ص: 535 ] فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا ، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون ، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عسى أن لا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة ، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى .

        وأسند أيضا في " المدخل " عن جابر بن عبد الله قال : قال حذيفة : إنا قوم عرب نردد الأحاديث فنقدم ونؤخر .

        وأسند أيضا عن شعيب بن الحبحاب قال : دخلت أنا وعبدان على الحسن فقلنا : يا أبا سعيد ، الرجل يحدث بالحديث فيزيد فيه أو ينقص منه ، قال : إنما الكذب على من تعمد ذلك .

        وأسند أيضا عن جرير بن حازم قال : سمعت الحسن يحدث بأحاديث ، الأصل واحد والكلام مختلف .

        وأسند عن ابن عون قال : كان الحسن وإبراهيم والشعبي يأتون بالحديث على المعاني ، وكان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه .

        وأسند عن أبي أويس قال : سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال : [ ص: 536 ] إن هذا يجوز في القرآن ، فكيف به في الحديث ؟ إذا أصبت معنى الحديث فلم تحل به حراما ولم تحرم به حلالا فلا بأس .

        وأسند عن سفيان قال : كان عمرو بن دينار يحدث بالحديث على المعنى ، وكان إبراهيم بن ميسرة لا يحدث إلا على ما سمع ، وأسند عن وكيع قال : إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس .

        قال شيخ الإسلام : ومن أقوى حججهم الإجماع على جواز شرح الشريعة للعجم بلسانها للعارف به ، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى ، فجوازه باللغة العربية أولى .

        وقيل : إنما يجوز ذلك للصحابة دون غيرهم ، وبه جزم ابن العربي في أحكام القرآن ، قال : لأنا لو جوزناه لكل أحد لما كنا على ثقة من الأخذ بالحديث ، والصحابة اجتمع فيهم أمران : الفصاحة والبلاغة جبلة ، ومشاهدة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة واستيفاء المقصود كله .

        وقيل : يمنع ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجوز في غيره ، حكاه ابن الصلاح ، ورواه البيهقي في " المدخل " عن مالك ، وروي عنه أيضا أنه كان يتحفظ من الباء والياء والثاء ، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 537 ] وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال ذلك أيضا .

        واستدل له بقوله : " رب مبلغ أوعى من سامع " فإذا رواه بالمعنى فقد أزال عن موضعه معرفة ما فيه .

        وقال الماوردي : إن نسي اللفظ جاز ، لأنه تحمل اللفظ والمعنى ، وعجز عن أداء أحدهما فيلزمه أداء الآخر ، لا سيما أن تركه قد يكون كتما للأحكام ، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره ; لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره ، وقيل عكسه ، وهو الجواز لمن يحفظ اللفظ ليتمكن من التصرف فيه دون من نسيه ، وقال الخطيب : يجوز بإزاء مرادف .

        قيل : إن كان موجبه علما جاز لأن المعول على معناه ، ولا تجب مراعاة اللفظ ، وإن كان عملا لم يجز .

        وقال القاضي عياض : ينبغي سد باب الرواية بالمعنى ، لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن ، كما وقع للرواة كثيرا قديما وحديثا ، وعلى الجواز ، الأولى إيراد الحديث بلفظه دون التصرف فيه ، ولا شك في اشتراط أن لا يكون مما تعبد بلفظه .

        قد صرح به هنا الزركشي ، وإليه يرشد كلام العراقي الآتي في إبدال الرسول بالنبي وعكسه ، وعندي أنه يشترط أن لا يكون من جوامع الكلم .

        [ ص: 538 ] ( وهذا ) الخلاف إنما يجري ( في غير المصنفات ، ولا يجوز تغيير ) شيء من ( مصنف ) وإبداله بلفظ آخر ( وإن كان بمعناه ) قطعا لأن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص ، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ من الحرج ، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه الكتب ; ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره .

        ( وينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقيبه : أو كما قال ، أو نحوه ، أو شبهه ، أو ما أشبه هذا من الألفاظ ) وقد كان قوم من الصحابة يفعلون ذلك ، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام خوفا من الزلل لمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر .

        روى ابن ماجه وأحمد والحاكم عن ابن مسعود أنه قال يوما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه ، ثم قال : أو مثله أو نحوه أو شبيه به .

        وفي مسند الدارمي والكفاية للخطيب عن أبي الدرداء : أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أو نحوه أو شبهه .

        وروى ابن ماجه وأحمد عن أنس بن مالك : أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففرغ ، قال : أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        [ ص: 539 ] ( وإذا اشتبهت على القارئ لفظة فحسن أن يقول بعد قراءتها على الشك أو كما قال لتضمنه إجازة ) من الشيخ ، ( وإذنا في ) رواية ( صوابها ) عنه ( إذا بان ) .

        قال ابن الصلاح : ثم لا يشترط إفراد ذلك في الإجازة كما تقدم قريبا .




        الخدمات العلمية