الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      مرضه :

                                                                                      قال عبد الله : سمعت أبي يقول : استكملت سبعا وسبعين سنة ، ودخلت في ثمان ، فحم من ليلته ، ومات اليوم العاشر .

                                                                                      وقال صالح : لما كان أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين ، حم أبي ليلة الأربعاء ، وبات وهو محموم ، يتنفس تنفسا شديدا ، وكنت قد عرفت علته ، وكنت أمرضه إذا اعتل ، فقلت له : يا أبة ، على ما أفطرت البارحة ؟ قال : على ماء باقلى . ثم أراد القيام ، فقال : خذ بيدي ، فأخذت بيده ، فلما صار إلى الخلاء ، ضعف ، وتوكأ علي . وكان يختلف إليه [ ص: 335 ] غير متطبب كلهم مسلمون . فوصف له متطبب قرعة تشوى ، ويسقى ماءها ، وهذا كان يوم الثلاثاء ، فمات يوم الجمعة ، فقال : يا صالح . قلت : لبيك . قال : لا تشوي في منزلك ، ولا في منزل أخيك . وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته وأتى ابن علي بن الجعد فحبسته وكثر الناس . فقال : فما ترى ؟ قلت : تأذن لهم ، فيدعون لك .

                                                                                      قال : أستخير الله ، فجعلوا يدخلون عليه أفواجا ، حتى تمتلئ الدار ، فيسألونه ، ويدعون له ، ويخرجون ، ويدخل فوج ، وكثر الناس ، وامتلأ الشارع ، وأغلقنا باب الزقاق .

                                                                                      وجاء جار لنا قد خضب ، فقال أبي : إني لأرى الرجل يحيي شيئا من السنة فأفرح به .

                                                                                      فقال لي : وجه فاشتر تمرا ، وكفر عني كفارة يمين . قال : فبقي في خريقته نحو ثلاثة دراهم . فأخبرته ، فقال : الحمد لله . وقال : اقرأ علي الوصية ، فقرأتها ، فأقرها .

                                                                                      وكنت أنام إلى جنبه ، فإذا أراد حاجة ، حركني فأناوله ، وجعل يحرك لسانه ، ولم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها . ولم يزل يصلي قائما ، أمسكه فيركع ويسجد ، وأرفعه في ركوعه .

                                                                                      قال : واجتمعت عليه أوجاع الحصر ، وغير ذلك ، ولم يزل عقله ثابتا ، فلما كان يوم الجمعة ، لاثنتي عشرة دخلت من ربيع الأول ، لساعتين من النهار ، توفي . [ ص: 336 ] وقال المروذي : مرض أحمد تسعة أيام ، وكان ربما أذن للناس ، فيدخلون عليه أفواجا ، يسلمون ويرد بيده . وتسامع الناس وكثروا .

                                                                                      وسمع السلطان بكثرة الناس ، فوكل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطة وأصحاب الأخبار ، ثم أغلق باب الزقاق ، فكان الناس في الشوارع والمساجد ، حتى تعطل بعض الباعة . وكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه ، ربما دخل من بعض الدور وطرز الحاكة ، وربما تسلق ، وجاء أصحاب الأخبار ، فقعدوا على الأبواب .

                                                                                      وجاءه حاجب ابن طاهر ، فقال : إن الأمير يقرئك السلام ، وهو يشتهي أن يراك . فقال : هذا مما أكره ، وأمير المؤمنين قد أعفاني ، مما أكره .

                                                                                      قال : وأصحاب الخبر يكتبون بخبره إلى العسكر ، والبرد تختلف كل يوم . وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه ، وجعلوا يبكون عليه . وجاء قوم من القضاة وغيرهم ، فلم يؤذن لهم . ودخل عليه شيخ ، فقال : اذكر وقوفك بين يدي الله ، فشهق أبو عبد الله ، وسالت دموعه .

                                                                                      فلما كان قبل وفاته بيوم أو يومين ، قال : ادعوا لي الصبيان ، بلسان ثقيل . قال : فجعلوا ينضمون إليه ، وجعل يشمهم ويمسح رءوسهم ، وعينه تدمع ، وأدخلت تحته الطست ، فرأيت بوله دما عبيطا . فقلت للطبيب ، فقال : هذا رجل قد فتت الحزن والغم جوفه . [ ص: 337 ] واشتدت علته يوم الخميس ووضأته ، فقال : خلل الأصابع ، فلما كانت ليلة الجمعة ، ثقل ، وقبض صدر النهار ، فصاح الناس ، وعلت الأصوات بالبكاء ، حتى كأن الدنيا قد ارتجت ، وامتلأت السكك والشوارع .

                                                                                      الخلال : أخبرني عصمة بن عصام ، حدثنا حنبل ، قال : أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله ، وهو في الحبس ثلاث شعرات ، فقال : هذه من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يجعل على كل عين شعرة ، وشعرة على لسانه . ففعل ذلك به عند موته .

                                                                                      وقال عبد الله بن أحمد ومطين وغيرهما : مات لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول ، يوم الجمعة . وقال ذلك البخاري ، وعباس الدوري . فقد غلط ابن قانع حيث يقول : ربيع الآخر .

                                                                                      الخلال : حدثنا المروذي ، قال : أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة .

                                                                                      أحمد في " مسنده " : حدثنا أبو عامر ، حدثنا هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر . [ ص: 338 ]

                                                                                      قال صالح بن أحمد : وجه ابن طاهر - يعني : نائب بغداد - بحاجبه مظفر ، ومعه غلامان معهما مناديل فيها ثياب وطيب ، فقالوا : الأمير يقرئك السلام ، ويقول : قد فعلت ما لو كان أمير المؤمنين حاضره كان يفعله .

                                                                                      فقلت : أقرئ الأمير السلام ، وقل له : إن أمير المؤمنين قد أعفى أبا عبد الله في حياته مما يكره ، ولا أحب أن أتبعه بعد موته بما كان يكرهه ، فعاد ، وقال : يكون شعاره ، فأعدت عليه مثل قولي . وقد كان غزلت له الجارية ثوبا عشاريا قوم بثمانية وعشرين درهما ، ليقطع منه قميصين ، فقطعنا له لفافتين ، وأخذنا من فوران لفافة أخرى فأدرجناه في ثلاث لفائف .

                                                                                      واشترينا له حنوطا ، وفرغ من غسله ، وكفناه ، وحضر نحو مائة من بني هاشم ، ونحن نكفنه . وجعلوا يقبلون جبهته حتى رفعناه على السرير .

                                                                                      قال عبد الله : صلى على أبي محمد بن عبد الله بن طاهر ، غلبنا على الصلاة عليه ، وقد كنا صلينا عليه نحن والهاشميون في الدار .

                                                                                      وقال صالح : وجه ابن طاهر إلي : من يصلي على أبي عبد الله ؟ قلت : أنا . فلما صرنا إلى الصحراء ، إذا بابن طاهر واقف ، فخطا إلينا خطوات ، وعزانا ، ووضع السرير . فلما انتظرت هنية ، تقدمت ، وجعلنا نسوي الصفوف فجاءني ابن طاهر ، فقبض هذا على يدي ، ومحمد بن نصر على يدي ، وقالوا : الأمير . فمانعتهم فنحياني وصلى هو ولم يعلم [ ص: 339 ] الناس بذلك ، فلما كان في الغد علموا ، فجعلوا يجيئون ، ويصلون على القبر . ومكث الناس ما شاء الله ، يأتون ، فيصلون على القبر .

                                                                                      قال عبيد الله بن يحيى بن خاقان : سمعت المتوكل ، يقول لمحمد بن عبد الله : طوبى لك يا محمد ، صليت على أحمد بن حنبل ، رحمة الله عليه .

                                                                                      قال الخلال : سمعت عبد الوهاب الوراق ، يقول : ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا الإسلام مثله - يعني : من شهد الجنازة - حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح ، فإذا هو نحو من ألف ألف . وحزرنا على القبور نحوا من ستين ألف امرأة ، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ، ينادون من أراد الوضوء .

                                                                                      وروى عبد الله بن إسحاق الخراساني : أخبرنا بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد ، فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة . وحزر من حضرها من الرجال بثمانمائة ألف ، ومن النساء بستين ألف امرأة ، ونظروا فيمن صلى العصر يومئذ في مسجد الرصافة ، فكانوا نيفا وعشرين ألفا .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية