الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 222 ] فصل

              ويترتب على هذا أصل آخر :

              وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل .

              أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب .

              وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض .

              [ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! .

              وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا .

              وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة .

              وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه .

              وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر .

              وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم .

              وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " .

              فالجواب أن نقول :

              أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات .

              وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " .

              وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه .

              [ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى .

              وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله .

              [ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني .

              وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا .

              ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس .

              وقال : هلك المتنطعون .

              [ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية