الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 44 ] المسألة الخامسة

              المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين :

              من جهة مواقع الوجود .

              ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها .

              فأما النظر الأول; فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة ، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ، وتمام عيشه ، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق ، حتى يكون منعما على الإطلاق ، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون; لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق ، قلت أو كثرت ، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، والركوب ، والنكاح ، وغير ذلك; فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب .

              كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود; إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق ، واللطف ونيل اللذات كثير ، ويدلك على ذلك ما هو الأصل ، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك ، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق ، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص ، قال [ ص: 45 ] الله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ الأنبياء : 35 ] ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] ، وما في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى .

              فإذا كان كذلك; فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى; فهي المفسدة المفهومة عرفا ، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة ، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ، ويقال فيه : إنه مصلحة ، وإذا غلبت جهة المفسدة ، فمهروب عنه ، ويقال : إنه مفسدة ، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساو; فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة على ما جرت به العادات في مثله ، فإن خرج عن مقتضى العادات; فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة .

              [ ص: 46 ] هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية ، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية .

              وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا ، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعا ، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل ، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا ، فإن تبعها مفسدة أو مشقة ، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه .

              وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعا ، ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها ، حسب ما يشهد له كل عقل سليم ، فإن تبعتها مصلحة أو لذة ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل ، بل المقصود ما غلب في المحل ، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي ، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر .

              فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ، لا قليلا ولا كثيرا ، وإن توهم [ ص: 47 ] أنها مشوبة ، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك ، لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة ، وهذا المقدار هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ، والدليل على ذلك أمران :

              أحدهما : أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع - أعني معتبرة عند الشارع - لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ، ولا منهيا عنه بإطلاق ، بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ، ومنهيا عنه من حيث المفسدة ، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك .

              وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي; كوجوب الإيمان وحرمة [ ص: 48 ] الكفر ، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها ، وما أشبه ذلك; فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه ، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها ، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف ، وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمورا به أو مأذونا فيه; لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة ، وكل هذا باطل محض ، بل الإيمان مطلوب بإطلاق ، والكفر منهي عنه بإطلاق ، فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان ، وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا ، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا .

              والثاني : أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا; لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق ، وهو باطل شرعا ، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا ، فمعلوم في الأصول ، وأما بيان الملازمة; فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة ، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة ، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة ، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا ، والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة ، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا ، فقد قيل له : افعل ولا تفعل لفعل واحد ، أي من وجه واحد في الوقوع ، وهو عين تكليف ما لا يطاق .

              لا يقال : إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ، ولكن مأذونا فيها; فلا يجتمع الأمر والنهي معا ، فلا يلزم المحظور .

              [ ص: 49 ] لأنا نقول : إن هذا لا يطرد في جميع المصالح; فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها ، يصح أن تكون مأمورا بها ، وإن سلم ذلك ، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا ، فإن التخيير مناف لعدم التخيير ، وهما واردان على الفعل الواحد ، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به ، وهو ما أردنا بيانه ، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لإمكان الانفكاك بأن يصلى في غير الدار ، وهذا ليس كذلك .

              فإن قيل : إن هذا التقرير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل ، وإنما المقصود الخير ، فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره ، فالخير هو الذي خلق الخلق لأجله ، ولم يخلق لأجل الشر ، وإن كان واقعا به;كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه ، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه ، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة ، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو المتآكل ، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار; فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها ، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت : إن الشارع - مع قصده التشريع لأجل المصلحة - لا يقصد وجه المفسدة ، مع أنها لازمة للمصلحة .

              وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع ، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة ، تعالى الله عن ذلك [ ص: 50 ] علوا كبيرا .

              فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني ، وليس كلامنا فيه ، وإنما كلامنا في القصد التشريعي ، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي ، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق حسب ما تبين في موضعه ، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة ، فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك ، وإن كان واقعا في الوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة ، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء ، وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه ، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع ، أو عدم الوقوع ، وإنما هذا قول المعتزلة ، وبطلانه مذكور في علم الكلام ، فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر ، لا ملازمة بينهما .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية