الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 300 ] المسألة الثانية

              المقاصد الشرعية ضربان : مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .

              فأما المقاصد الأصلية ; فهي التي لا حظ فيها للمكلف ، وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة ، وإنما قلنا : إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية ; لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة ، لا تختص بحال دون حال ، ولا بصورة دون صورة ، ولا بوقت دون وقت ، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية ، وإلى ضرورية كفائية .

              فأما كونها عينية ; فعلى كل مكلف في نفسه ، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا ، وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته ، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه ، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ، ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه ، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ، ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ، ولحيل بينه [ ص: 301 ] وبين اختياره ، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ ، محكوما عليه في نفسه ، وإن صار له فيها حظ ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي .

              وأما كونها كفائية ; فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ; لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها ، إلا أن هذا القسم مكمل للأول ; فهو لاحق به في كونه ضروريا ; إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي ، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق ; فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص ، لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط ، وإلا صار عينيا ، بل بإقامة الوجود ، وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته ، وما هيئ له من ذلك ، فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله ، فضلا عن أن يقوم بقبيلة ، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض ; فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض .

              ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك ; فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم ، ولا لقاض أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه ، ولا لحاكم على حكمه ، [ ص: 302 ] ولا لمفت على فتواه ، ولا لمحسن على إحسانه ، ولا لمقرض على قرضه ، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة ، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية ; لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات .

              وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام ، ويصلح النظام ، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام ، وهدم قواعد الإسلام ، وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها ، ولا قصد المعاوضة فيها ، ولا نيل مطلوب دنيوي بها ، وأن تركها سبب للعقاب والأدب ، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة ; لأن في تركها أي مفسدة في العالم .

              وأما المقاصد التابعة ; فهي التي روعي فيها حظ المكلف ، فمن جهتها [ ص: 303 ] يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات ، والاستمتاع بالمباحات ، وسد الخلات ، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره ، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه ، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها ، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة ، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار ، وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس هنا ، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى ، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك ، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه ، فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده ، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور ، فطلب التعاون بغيره ، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره ، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع ، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه .

              فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها ، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة ، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا ، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة ، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ البقرة : 216 ] ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ ، فإنه المالك وله الحجة البالغة ، [ ص: 304 ] ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا ، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به ، فبهذا الحظ قيل : إن هذه المقاصد توابع ، وإن تلك هي الأصول ; فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية ، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية