الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج ، لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه; فهاهنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها ، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس ، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا ، وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] ، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق ، رفعا للمشقة اللاحقة ، وحفظا على الحظوظ التي أذن لهم فيها ، بل [ ص: 261 ] أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع; تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه ، وحفظا على تكميل الخلوص في التوجه إليه ، والقيام بشكر النعم .

              فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش ، والحر والبرد ، وفي التداوي عند وقوع الأمراض ، وفي التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره ، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها ، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح ، ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية ، وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية ، كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله ، وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة .

              إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه; فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة ، كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد ، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ، ولا يعتبر هنا جهة التسليط والابتلاء; لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغى في التكليف ، وإن كان معتبرا في العقد الإيماني ، كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء ، وإن كان في نفسه ابتلاء; لأنه طاعة أو معصية من جهة [ ص: 262 ] العبد ، خلق للرب; فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد ، فليس له في الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر ، فكذلك هنا .

              وأما إن لم يثبت انحتام الدفع; فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء ، وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي ، فيستسلم العبد للقضاء ، ولذلك لما لم يكن التداوي محتما تركه كثير من السلف الصالح ، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض ، كما في حديث السوداء المجنونة التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها; فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك ، وكما في الحديث : ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون .

              ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب ، كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام : تداووا; فإن الذي أنزل الداء أنزل [ ص: 263 ] الدواء وأما إن ثبت الإباحة; فالأمر أظهر .

              وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ ، وبقي الكلام على الوجه الرابع ، وذلك مشقة مخالفة الهوى ، وهي :

              [ ص: 264 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية