الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة مرج راهط وقتل الضحاك والنعمان بن بشير

ثم إن مروان لما بايعه الناس سار من الجابية إلى مرج راهط ، وبه الضحاك بن قيس ومعه ألف فارس ، وكان قد استمد الضحاك النعمان بن بشير وهو على حمص فأمده بشرحبيل بن ذي الكلاع ، واستمد أيضا زفر بن الحارث وهو على قنسرين فأمده بأهل قنسرين ، وأمده ناتل بأهل فلسطين ، فاجتمعوا عنده ، واجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والسكون ، وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد وعلى مسيرته عبيد الله بن يزيد ، وكان يزيد بن أبي الغمس الغساني مختفيا بدمشق لم يشهد الجابية ، فغلب على دمشق وأخرج عامل الضحاك بن قيس وغلب على الخزائن وبيت المال وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح ، فكان أول فتح على بني أمية .

وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة واقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل الضحاك ، قتله دحية بن عبد الله ، وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف أهل الشام ، وقتل أهل الشام مقتلة عظيمة ، وقتلت قيس مقتلة لم يقتل مثلها في موطن قط ، وكان فيمن قتل هانئ بن قبيصة النميري سيد قومه ، كان مع الضحاك ، قتله وازع بن ذؤالة الكلبي ، ( فلما سقط جريحا قال :


تعست ابن ذات النوف أجهز على فتى يرى الموت خيرا من فرار وألزما     ولا تتركني بالحشاشة إنني
صبور إذا [ ما ] النكس مثلك أحجما



فعاد إليه وازع فقتله ) .

[ ص: 242 ] وكانت الوقعة في المحرم سنة خمس وستين ، وقيل : بل كانت في آخر سنة أربع وستين .

ولما رأى مروان رأس الضحاك ساءه ذلك وقال : الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظمء الحمار ، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها بعضا ! ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم ، فانتهى أهل حمص إليها وعليها النعمان بن بشير ، فلما بلغه الخبر خرج هاربا ليلا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية وثقله وأولاده ، فتحير ليلته كلها ، وأصبح أهل حمص فطلبوه ، وكان طلبه عمرو بن الجلي الكلاعي ، فقتله ورد أهله والرأس معه ، وجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها معها .

ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا وعليها عياض الحرشي ، وكان يزيد ولاه إياها ، فطلب منه أن يدخل الحمام ، ويحلف له بالطلاق والعتاق على أنه حينما يخرج من الحمام لا يقيم بها ، فأذن له ، فدخلها فغلب عليها وتحصن بها ولم يدخل حمامها ، فاجتمعت إليه قيس .

وهرب ناتل بن قيس الجذامي عن فلسطين فلحق بابن الزبير بمكة ، واستعمل مروان بعده على فلسطين روح بن زنباع واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها .

وقيل : إن عبيد الله بن زياد إنما جاء إلى بني أمية وهم بتدمر ، ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان لبني أمية ، فرده عن ذلك وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله ، ووافقه عمرو بن سعيد وأشار على مروان بأن يتزوج أم خالد بن يزيد ليسقط من أعين الناس فتزوجها ، وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة ، ثم جمع بني أمية فبايعوه وبايعه أهل تدمر ، وسار إلى الضحاك في جمع عظيم ، فخرج الضحاك إليه فتقاتلا فانهزم الضحاك ومن معه وقتل الضحاك .

[ ص: 234 ] وسار زفر بن الحارث إلى قرقيسيا ، واجتمعت عليه قيس ، وصحبه في هزيمته إلى قرقيسيا شابان من بني سليم ، فجاءت خيل مروان تطلبهم ، فقال الشابان لزفر : انج بنفسك فإنا نحن نقتل ، فمضى زفر وتركهما فقتلا ، ( وقال زفر في ذلك :


أريني سلاحي لا أبا لك إنني     أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عن مروان بالغيب أنه     مقيد دمي أو قاطع من لسانيا
ففي العيس منجاة وفي الأرض مهرب     إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا     ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى     له ورق من تحته الشر باديا
ونمضي ولا يبقى على الأرض دمنة     وتبقى حزازات النفوس كما هيا
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط     لحسان صدعا بينا متنائيا
فلم تر مني نبوة قبل هذه فراري     وتركي صاحبي ورائيا
عشية أدعو في القران فلا أرى     من الناس إلا من علي ولا ليا
أيذهب يوم واحد إن أسأته     بصالح أيامي وحسن بلائيا
فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا     وتثأر من نسوان كلب نسائيا
ألا ليت شعري . هل تصيبن غارتي     تنوخا وحيي طيئ من شفائيا


[ ص: 244 ] فأجابه جواس بن القعطل :


لعمري لقد أبقت وقيعة راهط     على زفر مرا من الداء باقيا
مقيما ثوى بين الضلوع محله     وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
تبكي على قتلى سليم وعامر     وذبيان معذورا وتبكي البواكيا
دعا بالسلاح ثم أحجم إذ رأى     سيوف جناب والطوال المذاكيا
عليها كأسد الغاب فتيان نجدة     إذا شرعوا نحو الطعان العواليا


وقال عمرو بن الجلي الكلبي :


بكى زفر القيسي من هلك قومه     بعبرة عين ما يجف سجومها
يبكي على قتلى أصيبت براهط     تجاوبه هام القفار وبومها
أبحنا حمى للحي قيس براهط     وولت شلالا واستبيح حريمها
يبكيهم حران تجري دموعه     يرجي نزارا أن تئوب حلومها
فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما     بحسرة نفس لا تنام همومها



في أبيات .

( يزيد بن أبي الغمس بالسين المهملة ، وقيل بالشين المعجمة ، وكان قد ارتد

[ ص: 245 ] عن الإسلام ودخل الروم مع جبلة بن الأيهم ثم عاود الإسلام وشهد صفين مع معاوية وعاش إلى أيام عبد الملك بن مروان .

وناتل : بالنون ، والتاء المعجمة من فوق باثنتين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية