الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة ، بل فيها ما هو خفيف ، ومنها ما هو شديد ، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين :

              أحدهما : أن يكون من أهل الاجتهاد ، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا ، فإن كان كذلك ، فلا حرج عليه ، وهو مأجور على كل حال ، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول .

              والثاني : أن لا يكون من أهل الاجتهاد ، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا ، أو [ ص: 287 ] مغالطة ; إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم .

              وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم ; لأن المجتهدين ، وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أو في مسألة من موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني : يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل .

              أما القسم الثاني : فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان ، فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع ، فإنه نوع من الإجماع فعلي ، بخلاف ما إذا خالفه ، فإن المخالفة موهنة له ، أو مكذبة .

              [ ص: 288 ] وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة ; لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ، ومعين لناسخها من منسوخها ، ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، وقد تقدم منه أمثلة ، وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف ، وهو مشاهد معنى ، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة ، وقد مر من ذلك أمثلة ، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة ، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة .

              وانظر في مسألة التداوي من الخمار في درة الغواص للحريري ، وأشباهها ، بل قد استدل بعض [ ص: 289 ] النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ، ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ الإسراء : 43 ] .

              فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار ، وهي .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية