الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 392 ] المسألة السادسة

              كل خصلة أمر بها ، أو نهي عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر ، أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها كالعدل ، والإحسان ، والوفاء بالعهد ، وأخذ العفو من الأخلاق ، والإعراض عن الجاهل ، والصبر ، والشكر ، ومواساة ذي القربى والمساكين والفقراء والاقتصاد في الإنفاق والإمساك والدفع بالتي هي أحسن والخوف والرجاء والانقطاع إلى الله والتوفية في الكيل والميزان واتباع الصراط المستقيم والذكر لله ، وعمل الصالحات والاستقامة والاستجابة لله والخشية والصفح ، وخفض الجناح للمؤمنين والدعاء إلى سبيل الله والدعاء للمؤمنين والإخلاص والتفويض والإعراض عن اللغو ، وحفظ الأمانة ، وقيام الليل والدعاء والتضرع والتوكل والزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة والإنابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقوى والتواضع والافتقار إلى الله والتزكية والحكم بالحق واتباع الأحسن والتوبة والإشفاق والقيام بالشهادة والاستعاذة عند نزغ الشيطان والتبتل ، وهجر الجاهلين ، وتعظيم الله والتذكر والتحدث بالنعم ، وتلاوة القرآن والتعاون على الحق والرهبة والرغبة ، وكذلك الصدق والمراقبة ، وقول المعروف والمسارعة إلى الخيرات ، وكظم الغيظ وصلة الرحم والرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع والتسليم لأمر الله والتثبت في الأمور والصمت والاعتصام بالله وإصلاح ذات البين والإخبات والمحبة لله والشدة على الكفار والرحمة للمؤمنين والصدقة [ ص: 393 ] هذا كله في المأمورات .

              وأما المنهيات فالظلم والفحش ، وأكل مال اليتيم واتباع السبل المضلة والإسراف والإقتار والإثم والغفلة والاستكبار والرضا بالدنيا من الآخرة والأمن من مكر الله والتفرق في الأهواء شيعا والبغي واليأس من روح الله ، وكفر النعمة والفرح بالدنيا والفخر بها والحب لها ، ونقص المكيال والميزان والإفساد في الأرض واتباع الآباء من غير نظر والطغيان والركون للظالمين والإعراض عن الذكر ، ونقض العهد والمنكر ، وعقوق الوالدين والتبذير واتباع الظنون والمشي في الأرض مرحا وطاعة من اتبع [ ص: 394 ] هواه والإشراك في العبادة واتباع الشهوات والصد عن سبيل الله والإجرام ولهو القلب والعدوان ، وشهادة الزور والكذب والغلو في الدين والقنوط والخيلاء والاغترار بالدنيا واتباع الهوى والتكلف والاستهزاء بآيات الله والاستعجال ، وتزكية النفس والنميمة والشح والهلع والدجر والمن والبخل والهمز واللمز والسهو عن الصلاة والرياء ، ومنع المرافق ، وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات الله ولبس الحق بالباطل ، وكتم العلم ، وقسوة القلب واتباع خطوات الشيطان والإلقاء باليد إلى التهلكة ، وإتباع الصدقة بالمن والأذى واتباع المتشابه واتخاذ الكافرين أولياء ، وحب الحمد بما لم يفعل والحسد والترفع عن حكم الله والرضا بحكم الطاغوت والوهن للأعداء والخيانة ورمي البريء بالذنب ، وهو البهتان ، ومشاقة الله ، [ ص: 395 ] والرسول واتباع غير سبيل المؤمنين والميل عن الصراط المستقيم والجهر بالسوء من القول والتعاون على الإثم والعدوان والحكم بغير ما أنزل الله والارتشاء على إبطال الأحكام والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، ونسيان الله والنفاق ، وعبادة الله على حرف والظن والتجسس والغيبة والحلف الكاذبة .

              وما أشبه ذلك من الأمور التي وردت مطلقة في الأمر والنهي لم يؤت فيها بحد محدود إلا أن مجيئها في القرآن على ضربين .

              أحدهما : أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء ، وعلى كل [ ص: 396 ] حال ، لكن بحسب كل مقام ، وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع لا على وزان واحد ولا حكم واحد ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف فيزن بميزان نظره ، ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف آخذا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد ، وإنفاق عفو المال ، وأشباه ذلك ألا ترى إلى قوله : في الحديث : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث إلخ .

              فقول الله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] ليس الإحسان فيه مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء ، بل ينقسم بحسب المناطات ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب ، وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب .

              ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث ، وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب .

              وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا كان هذا الإحسان راجعا إلى تتميم الأركان والشروط ، وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأموال ، وغيرها ، فلا يصح إذا إطلاق القول في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] أنه أمر إيجاب ، أو أمر ندب حتى يفصل الأمر فيه ، وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة ، وإلى نظر المكلف ، وإن كان مقلدا تارة أخرى بحسب ظهور المعنى ، وخفائه .

              [ ص: 397 ] والضرب الثاني : أن تأتي في أقصى مراتبها ولذلك تجد الوعيد مقرونا بها في الغالب ، وتجد المأمور به منها أوصافا لمن مدح الله من المؤمنين والمنهي عنها أوصافا لمن ذم الله من الكافرين .

              [ ص: 398 ] ويعين ذلك أيضا أسباب التنزيل لمن استقرأها فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك ، ومنبها بها على ما هو دائر بين الطرفين حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم ، أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود تربية حكيم خبير .

              وقد روي في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له : ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، وآية [ ص: 399 ] الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا ، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيده إلى التهلكة أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ; لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن ، فإذا ذكرتهم قلت إني أخشى أن أكون منهم ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ; لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ ، فإذا ذكرتهم قلت إني مقصر أين عملي من أعمالهم ؟ هذا ما نقل ، وهو معنى ما تقدم .

              فإن صح فذاك ، وإلا فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء .

              وقد روي : أو لم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ; لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فيقول قائل أنا خير منهم فيطمع ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ; لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ فيقول قائل من أين أدرك درجتهم فيجتهد .

              والمعنى على هذه الرواية صحيح أيضا يتنزل على المساق المذكور ، فإذا [ ص: 400 ] كان الطرفان مذكورين كان الخوف والرجاء جائلا بين هاتين الأخيتين المنصوصتين في محل مسكوت عنه لفظا منبه عليه تحت نظر العقل ليأخذ كل على حسب اجتهاده ، ودقة نظره ، ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر .

              وأيضا فمن حيث كان القرآن آتيا بالطرفين الغائبين حسبما اقتضاه المساق فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل والكثير فكما يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود ، أو المذموم في ذلك الإطلاق كذلك قد يدل اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ، ويرجو ، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضا ، ويرجو .

              مثال ذلك : أنه إذا نظر في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] فوزن نفسه في ميزان العدل عالما أن أقصى العدل الإقرار بالنعم لصاحبها وردها إليه ، ثم شكره عليها ، وهذا هو الدخول في الإيمان والعمل بشرائعه والخروج عن الكفر ، واطراح توابعه ، فإن وجد نفسه متصفا بذلك فهو يرجو أن يكون من أهله ، ويخاف أن لا يكون يبلغ في هذا المدى غايته ; لأن العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه الجملة ، فإن نظر بالتفصيل فكذلك أيضا ، فإن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل كالعدل بين الخلق إن كان حاكما والعدل في أهله ، وولده ، ونفسه حتى العدل في البدء بالميامن في لباس النعل ، ونحوه كما أن هذا جار في ضده ، [ ص: 401 ] وهو الظلم ، فإن أعلاه الشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، ثم في التفاصيل أمور كثيرة أدناها مثلا البدء بالمياسر ، وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها ، فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله ، وهو على ذلك .

              فلأجل هذا قيل : إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد ، بل منها ما يكون من الفرائض ، أو من النوافل في المأمورات ، ومنها ما يكون من المحرمات ، أو من المكروهات في المنهيات لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في نحو هذه الأمور .

              كان الناس من السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم ، ويتحرجون عن أن يقولوا حلال ، أو حرام هكذا صراحا ، بل كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه لا أحب هذا ، وأكره هذا ولم أكن لأفعل هذا ، وما أشبهه ; لأنها أمور مطلقة في مدلولاتها غير محدودة في الشرع تحديدا يوقف عنده لا يتعدى .

              وقد قال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب [ النحل : 116 ] .

              وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة على الاستقراء المقطوع به فيها قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ الأنعام : 82 ] فإنها لما نزلت قال الصحابة : وأينا لم يظلم . فنزلت : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، وفي رواية لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 402 ] وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس بذلك ، ألا تسمع إلى قول لقمان : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] .

              وفي الصحيح آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان فقال ابن عباس وابن عمر ، وذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهمهما من هذا الحديث فضحك - عليه الصلاة والسلام - فقال : ما لكم ولهن ؟ إنما خصصت بهن المنافقين ، أما قولي : إذا حدث كذب ، فذلك فيما أنزل الله علي إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ المنافقون : 1 ] ، أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا ، قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء ، وأما [ ص: 403 ] قولي : إذا وعد أخلف ، فذلك فيما أنزل الله علي ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن - الآيات الثلاث - [ التوبة : 75 - 78 ] أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا ، قال : لا عليكم ، أنتم من ذلك برآء ، وأما قولي : إذا ائتمن خان ، فذلك فيما أنزل الله علي إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال - الآية - [ الأحزاب : 72 ] فكل إنسان مؤتمن على دينه ، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ، ويصوم ، ويصلي في السر والعلانية . والمنافق لا يفعل ذلك ، أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا ، قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء .

              ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد هذا الأصل ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية