الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 53 ] المسألة الخامسة :

              جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين :

              أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .

              والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان :

              أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير .

              والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره .

              والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان :

              [ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر .

              والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع :

              أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك .

              والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك .

              والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين :

              أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك .

              والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام :

              فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء .

              وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا :

              وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه .

              وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة .

              وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به .

              وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال .

              [ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا .

              وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت .

              ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث .

              ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل .

              فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك .

              فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن .

              وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك .

              وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به .

              وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة .

              هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان :

              أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .

              وفي مسلم عن أبي سعيد قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ جاء رجل على راحلة له قال : فجعل يصرف بصره يمينا ، وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .

              [ ص: 64 ] وفي الحديث أيضا : إن في المال حقا سوى الزكاة ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة ، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق ، وهو لا يقتضي استبدادا ، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع ، أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه [ ص: 65 ] ضررا ناجزا ، وإنما هو متوقع ، أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره ، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله : - عليه الصلاة والسلام - : المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، وقوله : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقوله : المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه [ ص: 66 ] وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى ، وأسبابه ، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه ، أو أقل لخرج عن اعتداله ، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض ، وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة ، وترك الفرقة ، وهو كثير; إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء ، وأشباهها مما يرجع إليها .

              والوجه الثاني : الإيثار على النفس ، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين ، وإصابة لعين التوكل ، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله ، وهو من محامد الأخلاق ، وزكيات الأعمال ، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلقه المرضي ، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة .

              وقالت له خديجة : إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على [ ص: 67 ] نوائب الحق ، وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله ، فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرف البشر في وجهه ، وقال : بهذا أمرت ذكره الترمذي ، وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . وهذا كثير .

              [ ص: 68 ] وهكذا كان الصحابة ، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ الإنسان : 8 ] ، وما جاء في الصحيح في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] ، وما روي عن عائشة ، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ ، وهو ضربان :

              إيثار بالملك من المال ، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح .

              [ ص: 69 ] وإيثار بالنفس كما في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت ، وهو معلوم من فعله - عليه الصلاة والسلام - ; إذ كان في غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت ، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه ، وهو يقول : لن تراعوا ، وهذا فعل من آثر بنفسه ، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم; إذ عزم الكفار على قتله مشهور .

              [ ص: 70 ] وفي المثل السائر .


              والجود بالنفس أقصى غاية الجود

              ، ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ يوسف : 51 ] فآثرته بالبراءة على نفسها .

              قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ، ونحوه من أمور الدنيا ، وحظوظ النفس بخلاف القربات ، فإن الحق فيها لله .

              وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام ، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ، ومن عمر النصف ورد أبا لبابة ، وكعب [ ص: 71 ] بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر ، وعمر . هذا ما قال .

              وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي ، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس [ ص: 72 ] بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر ، وإما لأمر آخر ، أو لغير شيء فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء ، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي; لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر ، وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث ، وهو الحظ ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ . هذا تمام الكلام في القسم الرابع ، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ .

              وأما القسم الخامس ، وهو أن لا يلحق الجالب ، أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران :

              نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .

              ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار; لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر .

              وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين :

              إما تقصير في النظر المأمور به ، وذلك [ ص: 73 ] ممنوع ، وإما قصد إلى نفس الإضرار ، وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة ، وينظر في الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدي ، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة ، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ، ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي [ ص: 74 ] صحيحا ، ويكون عاصيا بالطرف الآخر ، وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها ، ومن قال : هنالك بالفساد يقول به هنا وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة .

              وأما السادس ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن; لأن المصلحة إذا كانت غالبة ، فلا اعتبار بالندور في انخرامها ; إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر فالعمل إذا باق على أصل المشروعية .

              والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه ، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة ، وكذلك إعمال خبر الواحد ، [ ص: 75 ] والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب .

              وأما السابع ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف ، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم في السادس ، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما ، وإن كان التخلف نادرا ؟ ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور :

              أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا .

              والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] [ ص: 76 ] فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك ، فنزلت .

              وفي الصحيح : إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكف عن قتل المنافقين; لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ، ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا [ البقرة : 104 ] مع قصدهم الحسن لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله ، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه .

              والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه ، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه [ ص: 77 ] فالأصل الجواز من الجلب ، أو الدفع ، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل ، أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل ، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه ، فإن حمل محمل التعدي فمن جهة أنه مظنة للقصد أو مظنة للتقصير ، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه : هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا ؟ هذا نظر إثبات الحظوظ ، وأما نظر إسقاطها فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس ، فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة .

              وأما الثامن ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي ، وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان; إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع ، وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة ، وغيرها عن كونها موجودة ، أو غير موجودة .

              وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب ، أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن; لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما ، وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا ، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه; لأنه من الأمور الباطنة ، لكن له مجال هنا ، وهو كثرة الوقوع في [ ص: 78 ] الوجود ، أو هو مظنة ذلك ، فكما اعتبرت المظنة ، وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة; لأنها مجال القصد ولهذا أصل ، وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم .

              وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر ، فإنه مشروع للزجر ، والازدجار به كثير لا غالب ، فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل ، فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به ، وإيلامه ، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن ، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر ، وخرج عن [ ص: 79 ] الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع .

              وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة ، فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك .

              وأيضا فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن الخليطين ، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث ، [ ص: 80 ] وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها ، وبين - عليه الصلاة والسلام - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني أن النفوس [ ص: 81 ] لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة ، وإن كثر وقوعها .

              وحرم - عليه الصلاة والسلام - الخلوة بالمرأة الأجنبية ، وأن تسافر مع غير ذي محرم ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، وعن الصلاة إليها ، [ ص: 82 ] وعن الجمع بين المرأة ، وعمتها ، أو خالتها ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى : ذلك أدنى ألا تعولوا [ النساء : 3 ] ، وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ، ونكاحها ، [ ص: 83 ] وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة ، وسائر دواعي النكاح ، وكذلك الطيب ، وعقد النكاح للمحرم ، [ ص: 84 ] ونهى عن البيع والسلف ، وعن هدية المديان ، وعن ميراث القاتل ، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم ، أو يومين ، وحرم صوم يوم عيد الفطر ، وندب إلى تعجيل الفطر ، وتأخير السحور [ ص: 85 ] إلى غير ذلك مما هو ذريعة ، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة ، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل ، فليس العمل عليه ببدع في الشريعة ، بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري ، أو حاجي ، أو تحسيني ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية