الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب إفريقية

وفي هذه السنة سادس ذي الحجة توفي أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب ، أمير إفريقية ، وكانت إمارته خمس سنين ونحو شهرين .

وكان سبب موته أنه حدد على كل فدان في عمله ثمانية عشر دينارا كل سنة ، [ ص: 486 ] فضاق الناس لذلك وشكا بعضهم إلى بعض ، فتقدم إليه رجل من الصالحين ، اسمه حفص بن عمر الجزري ، مع رجال من الصالحين ، فنهوه عن ذلك ووعظوه ، وخوفوه العذاب في الآخرة ، وسوء الذكر في الدنيا ، وزوال النعمة ، فإن الله - تعالى اسمه وجل ثناؤه - لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .

فلم يجبهم أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية المذكور إلى ما طلبوا ، فخرجوا من عنده إلى القيروان ، فقال لهم حفص : لو أننا نتوضأ للصلاة ونصلي ، ونسأل الله - تعالى - أن يخفف عن الناس ؟ ففعلوا ذلك ، فما لبث إلا خمسة أيام حتى خرجت قرحة تحت أذنه ، فلم ينشب أن مات منها ، وكان أجمل أهل زمانه ، ولما مات ولي بعده أخوه زيادة الله بن إبراهيم ، وبقي أميرا رخي البال ( وادعا ، والدنيا ) عنده آمنة .

ثم جهز جيشا في أسطول البحر ، وكان مراكب كثيرة ، إلى مدينة سردانية ، وهي للروم ، ( فعطب بعضها ) بعد أن غنموا من الروم وقتلوا كثيرا ، فلما عاد من سلم منهم أحسن إليهم زيادة الله ووصلهم .

فلما كان سنة سبع ومائتين خرج عليه زياد بن سهل المعروف بابن الصقلبية ، وجمع جمعا كثيرا ، وحصر مدينة باجة ، فسير إليه زيادة الله العساكر ، فأزالوه عنها ، وقتلوا من وافقه على المخالفة .

وفي سنة ثمان ومائتين نقل إلى زيادة الله أن منصور بن نصير الطنبذي يريد المخالفة عليه بتونس ، وهو يسعى في ذلك ، ويكاتب الجند ، فلما تحققه سير إليه قائدا اسمه محمد بن حمزة في ثلاثمائة فارس ، وأمره أن يخفي خبره ، ويجد السير إلى تونس ، فلا يشعر به منصور حتى يأخذه فيحمله إليه .

فسار محمد ودخل تونس ، فلم يجد منصورا بها ، كان قد توجه إلى قصره [ ص: 487 ] بطنبذة ، فأرسل إليه محمد قاضي تونس ، ومعه أربعون شيخا ، يقبحون له الخلاف ، وينهونه عنه ، ويأمرونه بالطاعة ، فساروا إليه واجتمعوا به وذكروا له ذلك ، فقال منصور : ما خالفت طاعة الأمير ، وأنا سائر معكم إلى محمد ومن معه إلى الأمير ، ولكن أقيموا معي يومنا هذا ، حتى نعمل له ولمن معه ضيافة .

فأقاموا عنده ، وسير منصور لمحمد ولمن معه الإقامة الحسنة الكثيرة من الغنم والبقر وغير ذلك من أنواع ما يؤكل ، فكتب إليه يقول : إنني صائر إليك مع القاضي والجماعة . فركن محمد إلى ذلك ، وأمر بالغنم فذبحت ، وأكل هو ومن معه ، وشربوا الخمر .

فلما أمسى منصور سجن القاضي ومن معه ، وسار مجدا فيمن عنده من أصحابه سرا إلى تونس ، فدخلوا دار الصناعة وفيها محمد وأصحابه ، فأمر بالطبول فضربت ، وكبر هو وأصحابه ، فوثب محمد وأصحابه إلى سلاحهم وقد عمل فيهم الشراب ، وأحاط بهم منصور ومن معه ، وأقبلت العامة من كل مكان ، فرجموهم بالحجارة ، واقتتلوا عامة الليل ، فقتل من كان مع محمد ، ولم يسلم منهم إلا من نجا إلى البحر ، فسبح حتى تخلص ، وذلك في صفر .

وأصبح منصور ، فاجتمع عليه الجند وقالوا : نحن لا نثق بك ، ولا نأمن أن يخلبك زيادة الله ، ويستميلك بدنياه فتميل إليه ، فإن أحببت أن نكون معك فاقتل أحدا من أهله ممن عندك ! فأحضر إسماعيل بن سفيان بن سالم بن عقال ، وهو من أهل زيادة الله ، فكان هو العامل على تونس ، فلما حضر أمر بقتله .

فلما سمع زيادة الله الخبر سير جيشا كثيفا ، واستعمل عليهم غلبون ، واسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب ، وهو وزير زيادة الله ، إلى منصور الطنبذي ، فلما ودعهم زيادة الله تهددهم بالقتل إن انهزموا ، فلما وصلوا إلى تونس خرج إليهم منصور ، فقاتلهم ، فانهزم جيش زيادة الله عاشر ربيع الأول ، فقال القواد الذين فيه لغلبون : لا نأمن زيادة الله على أنفسنا ، فإن أخذت لنا أمانا حضرنا عنده . وفارقوه واستولوا على عدة مدن فأخذوها ، منها : باجة ، والجزيرة ، وصطفورة ، ومسر ، والأربس ، وغيرها ، فاضطربت [ ص: 488 ] إفريقية ، واجتمع الجند كلهم إلى منصور ، أطاعوه لسوء سيرة زيادة الله معهم .

فلما كثر جمع منصور سار إلى القيروان فحصرها في جمادى الأولى ، وخندق على نفسه ، وكان بينه وبين زيادة الله وقائع كثيرة ، وعمر منصور سور القيروان [ فوالاه ] أهلها ، فبقي الحصار عليه أربعين يوما .

ثم إن زيادة الله عبأ أصحابه وجمعهم ، وسار معهم الفارس والراجل ، فكانوا خلقا كثيرا ، فلما رآهم منصور راعه ما رأى وهاله ، ولم يكن يعرف ذلك من زيادة الله ، لما كان فيه من الوهن ، فزحف منصور إليه بنفسه أيضا ، فالتقوا ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم منصور ومن معه ، ومضوا هاربين ، وقتل منهم خلق كثير ، وذلك منتصف جمادى الآخرة ، وأمر زيادة الله أن ينتقم من أهل القيروان بما جنوه من مساعدة منصور والقتال معه ، بما تقدم أولا من مساعدة عمران بن مجالد لما قاتل أباه إبراهيم بن الأغلب ، فمنعه أهل العلم والدين ، فكف عنهم ، وخرب سور القيروان .

ولما انهزم منصور فارقه كثير من أصحابه الذين صاروا معه ، منهم : عامر بن نافع ، وعبد السلام بن المفرج ، إلى البلاد التي تغلبوا عليها ، ثم إن زيادة الله سير جيشا ، سنة تسع ومائتين ، إلى مدينة سبيبة ، واستعمل عليهم محمد بن عبد الله بن الأغلب ، وكان بها جمع من الجند الذين صاروا مع منصور ، عليهم عمر بن نافع ، فالتقوا في العشرين من المحرم ، واقتتلوا ، فانهزم ابن الأغلب ، وعاد هو ومن معه إلى القيروان ، فعظم الأمر على زيادة الله ، وجمع الرجال وبذل الأموال .

وكان عيال الجند الذين مع منصور بالقيروان ، فلم يعرض لهم زيادة الله ، فقال الجند لمنصور : الرأي أن تحتال في نقل [ العيال ] من القيروان لنأمن عليهم . فسار بهم منصور إلى القيروان ، وحصر زيادة الله ستة عشر يوما ، ولم يكن منهم قتال ، وأخرج الجند نساءهم وأولادهم من القيروان ، وانصرف منصور إلى تونس ، ولم يبق بيد زيادة الله من إفريقية كلها إلا قابس ، والساحل ، ونفزاوة ، وطرابلس ، فإنهم تمسكوا بطاعته .

وأرسل الجند إلى زيادة الله : أن ارحل عنا ، وخل إفريقية ، ولك الأمان على نفسك ومالك ، ومن ضمه قصرك . فضاق به وغمه الأمر ، فقال له سفيان بن سوادة : مكني من عسكرك لأختار منهم مائتي فارس ، وأسير بهم إلى نفزاوة ، فقد بلغني أن عامر بن نافع يريد قصدهم ، فإن ظفرت كان الذي تحب ، وإن تكن الأخرى عملت برأيك . فأمره بذلك ، [ ص: 489 ] فأخذ مائتي فارس وسار إلى نفزاوة ، فدعا برابرها إلى نصرته ، فأجابوه وسارعوا إليه ، وأقبل عامر بن نافع في العسكر إليهم ، فالتقوا ، واقتتلوا ، فانهزم عامر ومن معه ، وكثر القتل فيهم ، ورجع عامر إلى قسطيلية ، فجبى أموالها ليلا ونهارا في ثلاثة أيام ، وساروا عنها ، واستخلف عليها من يضبطها ، فهرب منها أيضا خوفا من أهلها ، فأرسل أهل قسطيلية إلى ابن سوادة ، وسألوه أن يجيء إليهم ، فسار إليهم وملك قسطيلية وضبطها .

وقد قيل : إن هذه الحوادث المذكورة سنة ثمان وتسع ومائتين إنما كانت سنة تسع وعشر ومائتين .

( طنبذة بضم الطاء المهملة وسكون النون وضم الباء الموحدة وبذال معجمة وآخره هاء . وصطفورة بفتح الصاد وسكون الطاء وضم الفاء وسكون الواو وآخره هاء . وسبيبة بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وفتح الباء الثانية الموحدة وآخره هاء . ونفزاوة بالنون والفاء الساكنة وفتح الزاي وبعد الألف واو ثم هاء ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية