الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالثة وهي أعلاها أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتا تحركه القدرة الأزلية ، كما تحرك يد الغاسل الميت وهو الذي قوي يقينه بأنه مجري للحركة والقدرة والإرادة والعلم ، وسائر الصفات وأن كلا ، يحدث جبرا فيكون بائنا عن الانتظار لما يجري عليه ويفارق الصبي ، فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها بل هو مثل صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه ، وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله ، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته ، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسأل ، فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال والدعاء وبغير ، الاستحقاق والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال منه ، وإنما يقتضي ترك السؤال من غيره فقط .

فإن قلت : فهذه الأحوال هل يتصور وجودها ؟ فاعلم أن ذلك ليس بمحال ولكنه عزيز نادر والمقام الثاني والثالث أعزها والأول أقرب إلى الإمكان ، ثم إذا وجد الثالث والثاني فدوامه أبعد منه ، بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه إلا كصفرة الوجل ، فإن انبساط القلب إلى ملاحظة الحول والقوة والأسباب طبع وانقباضه عارض كما إن انبساط الدم إلى جميع الأطراف طبع ، وانقباضه عارض والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر البشرة إلى الباطن حتى تنمحي عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق من ستر البشرة ، فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم وانقباضه ، يوجب الصفرة ، وذلك لا يدوم ، وكذا انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر الأسباب الظاهرة لا يدوم ، وأما المقام الثاني فيشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوما ويومين ، والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ، ولا يبعد أن يزول .

التالي السابق


وأشار إلى الدرجة (الثالثة) ، وهو في سياق المصنف (وهي أعلاها) أن (يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه) في حال (إلا أنه يرى نفسه ميتا تحركه القدرة الأزلية، كما تحرك يد الغاسل الميت) يمينا وشمالا، (وهو الذي قوي يقينه بأنه مجرى للحركة والقدرة والإرادة والعلم، وسائر الصفات، وإن كان يحدث جبرا فيكون بائنا عن الانتظار لما يجري عليه) ، وهذا بعينه مفاد قول سهل -رحمه الله تعالى- .

قال القشيري: قال سهل بن عبد الله: أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير .

وقال صاحب القوت: وقد كان سهل يقول: تلقي نفسك في اللج وتحت جريان الحكم، وقال مرة: تكون بين يديه مثل الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء، وأنشدت لبعضهم:


ولما رأيت القضاء جاريا لا شك فيه ولا مرية توكلت حقا على خالقي
وألقيت نفسي مع الجرية

(ويفارق الصبي، فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح) باسمها، (ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها) حيث مشت (بل مثال هذا مثال صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه، وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه) ، وجعل الكمال محمد بن إسحاق هذه الدرجة الثالثة أن يكون في قوة اعتماده وعدم اضطرابه كرجل غذاؤه بين يديه، وهو يتناول منه، فإن طمأنينته أكثر من الأول والثاني .

(وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسأل، فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال والدعاء، وقبل الاستحقاق) لها، وإنما يثمر ذلك؛ لأنه مدهوش فرح بوجود الرازق عن الرزق، بل هو رزقه، وبه حياته (والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال منه، وإنما يقتضي ترك السؤال من غيره فقط) .

وقد أشار إلى كل من المقامين كلام الصوفية في حد التوكل، (فإن قلت: فهذه الأحوال هل يتصور وجودها؟ فاعلم أن ذلك ليس بمحال) ، بل وجد أنها ممكن (ولكنه عزيز نادر) الوقوع (والمقام الثاني والثالث أعزها) وأقلها (والأول أقرب إلى الإمكان، ثم إذا وجد الثالث والثاني فدوامه) وثباته (أبعد منه) ، أي: أكثر بعدا من وجدانه (بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه) للسالك (إلا كصفرة الوجل، فإن انبساط القلب إلى الحول والقوة والأسباب) الظاهرة (طبع) مركوز فيه، (وانقباضه) عنه أمر (عارض) ، والعارض سريع الزوال، (كما أن انبساط الدم إلى جميع الأطراف) من البدن (طبع، وانقباضه عارض) يكون تارة وتارة [ ص: 465 ] (والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر البشرة إلى الباطن حتى تنمحي عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق من ستر البشرة، فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم، فانقباضه يوجب الصفرة، وذلك لا يدوم، وكذا انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر الأسباب الظاهرة لا يدوم، وأما المقام الثاني) فإنه (يشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوما ويومين، والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم، ولا يبعد أن يزول) .

والحاصل أن عزة وقوع تلك الأحوال لضرورة مادة البشرية والدرجة يجب اكتسابها بأسبابها عند هجوم النفس على الأسباب المحرقة لدواعي الحاجات، ولو قام الخلق كلهم بهذا القدر من الواجب من التوكل، فضلا عن المستحب للزمهم الإجمال والاقتصاد في الطلب، ولم ير في الدنيا شرطي ولا مكاس، ولكن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .




الخدمات العلمية